مشاريع في قلب العاصفة
أحمد محمد كنعان
مع انتفاضات "الربيع العربي" أواخر عام 2010 استبشرنا بأن عصر التنوير العربي قد أطلَّ زمانه ، وما هي إلا أيام قليلة حتى يرحل الاستبداد والفساد والظلام، ويسود النور والسلام والحرية والكرامة، وقد حقق الربيع العربي فعلاً جزءاً غير يسير من أحلامنا ، فقد كسر جدار الخوف الذي جثم على صدورنا عقوداً طويلة، وأسقط العديد من الأنظمة الدكتاتورية الفاسدة، وإشاع فينا روح التفاؤل والفرح، إلا أن هذا الفرح على ما يبدو قد أنسانا المخططات العدائية التي تتربص بنا، فما أسرع ما دخلت هذه المخططات إلى الساحة، وبدأ المشهد يتغير بصورة درامية متسارعة، وعمت الفوضى في كل مكان، وتداخلت الأدوار، وتشوشت الرؤية، وبرزت جملة من الأسئلة المحيرة، والمواقف العجيبة التي لا تكاد تصدق!
فقد عاد الوفاق فجأة بين إيران والولايات المتحدة بعد عداء مستحكم استمر عدة عقود، كما أن بعض الدول العربية التي ظلت لسنوات طويلة تخشى خطر إيران وتبادلها العداء والخشية والترقب بدأت تغازل إيران وكأن شيئاً لم يكن، وراح الطرفان الأمريكان والدول العربية إياها تفتح الأبواب لإيران وأنصارها لكي تتوغل في المنطقة، ولعل أغرب ما في المشهد أن المواقف الداعمة لإيران من هذه الدول العربية يأتي في الوقت الذي كشفت فيه إيران عن أنيابها، وأنشبت أظافرها في جسد الأمة، وأعلنت بكل صراح ووقاحة أنها قد آن الأوان لتأخذ ثأرها القديم المزعوم من العرب والمسلمين؟! فكيف يمكن أن نفسر كل هذه الأحداث والمواقف؟
قبل أن نشرع بالإجابة نود التأكيد أننا على عكس بعض المحللين السياسيين الذين يتهمون الولايات المتحدة بالتخبط، نرى أن الولايات المتحدة ــ ومن خلفها الكيان الصهيوني ــ يتحركان وفق استراتيجية دقيقة واضحة جرى تخطيطها بدهاء سياسي شديد سوف ينتهي بالقضاء على المشاريع الوطنية في المنطقة برمتها في وقت واحد، سواء منها المشاريع العربية الإسلامية، والمشروع الإيراني، لكي ينفرد المشروع الصهيوني بالمنطقة، ويصبح هو الآمر الناهي بلا منازع، ونرى أن هذه الاستراتيجية الصهيوأمريكية تسير وفق المخطط الشيطاني الآتي :
(1) الخلاص من المشروع الإيراني :
من الواضح أن هذا المشروع الإيراني بات يشكل منافساً قوياً للمشروع الصهيوني الذي بطبيعته الاستعمارية لا يقبل منافساً آخر في المنطقة، وتقوم الخطة الصهيوأمريكية للقضاء على المشروع الإيراني على التكتيك الذي اتبعته الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي خلال "الحرب الباردة" فقد كان للاتحاد السوفياتي مشروع إيديولوجي معروف أراد نشره في العالم ونشر نفوذه من خلاله، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن شغلت الاتحاد السوفياتي بمعارك جانبية في مناطق واسعة من العالم، وراح إعلام الولايات المتحدة وعملاؤها يفتحون للاتحاد السوفياتي الطريق نحو الفخ الذي لن يخرج منه سالماً، وبالفعل فقد انتهى به الأمر إلى الانهيار الاقتصادي بسبب التكاليف الباهظة التي أهدرها في هذه المعارك العبثية، ومع هذا الانهيار الاقتصادي احترق مشروعه الإيديولوجي، وتفكك الاتحاد، وتفككت معه منظومة أوروبا الشرقية التي كانت حليفه القوي في مواجهة أوروبا الغربية !
على العكس من الصين التي تحمل نفس المشروع الإيديولوجي للاتحاد السوفياتي ، لكنها لم تقع بالفخ مثله ، بل اهتمت بمشاريع التنمية داخلياً، ورفضت الاستدراج إلى المعارك الخارجية التي راحت الولايات المتحدة تزينها لها، فكانت النتيجة انتعاش الاقتصاد الصيني حتى أصبح من أكبر الاقتصاديات النامية في العالم، بل إن الولايات المتحدة نفسها أصبحت مدينة للصين بمبالغ طائلة .. فتأمل !
واليوم تستخدم الولايات المتحدة ــ ومن ورائها الكيان الصهيوني ــ نفس التكتيك تجاه إيران التي يبدو أنها تسير بلا وعي نحو الفخ الأمريكي نفسه الذي أوقع الاتحاد السوفياتي، ولم تستفد من التجربة الصينية شيئاً، بل راحت إيران تمضي نحو الفخ يقودها إليه حقدها التاريخي الأعمى ضد العرب والمسلمين، غير عابئة بما يريد الغرب بها، وها هي الولايات المتحدة تفتح لإيران مناطق واسعة هنا وهناك كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي، وتستدرجها إلى معارك عبثية لإنهاكها واستنفاد طاقاتها المادية والبشرية، وحرق مشروعها الإيديولوجي، وتشير الدلائل المختلفة أن إيران أصبحت اليوم على حافة الانهيار على الرغم من قوتها الظاهرة، كما كان الاتحاد السوفياتي في يوم من الأيام قوياً متماسكاً في الظاهر بينما كان ينهار من الداخل شيئاً فشيئاً، وكذلك هي إيران اليوم تتآكل من الداخل بسرعة، وتسير بخطى حثيثة نحو نهايتها الكارثية التي بات قاب قوسين أو أدنى .. فهل تفتح إيران عيونها قبل فوات الأوان على ما يحاك ضدها ؟ وهل تتوقف عن أحقادها التاريخية البالية وتلتحق بالأمة الإسلامية التي تدعي الانتماء لها ؟ أم تستمر في السير المخطط الشيطاني الذي يراد بها ؟ سؤال نتركه رهن الحكماء فيها إن كان منهم بقية لننظر ماذا يرجعون !؟
(2) القضاء على المشاريع العربية الإسلامية :
خلال العقود القليلة الماضية ارتفعت أصوات "الصحوة الإسلامية" في أرجاء الوطن العربي خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة، وسارع الإعلام العالمي إلى تضخيم هذه الصحوة حتى جعلت الدنيا كلها تتوجس الخيفة من هذه الصحوة، وقد رأى العدو الصهيوني أن هذه الصحوة باتت تهدد وجوده، فبدأ مع ربيبته الولايات المتحدة يخطط للقضاء على الصحوة في مهدها، بادئاً بالدول العربية الغنية التي رأى أنها تمثل الدعم الأساسي للحركات الإسلامية التي تحمل راية هذه الصحوة، فبدأ التحرك الصهيوأمريكي باستدراج هذه الدول وتوريطها بصراعات جانبية عالية التكاليف، استمرت سنوات طويلة، ومازالت، وكانت البداية استدراج هذه الدول إلى الصراع العربي الصهيوني المزمن الذي استنفد طاقات هائلة من رصيدها، ثم استدرجها إلى جملة من الحروب العبثية هنا وهناك، بدءاً بالحرب الأفغانية، ثم حرب العراق وإيران، إلى حرب تحرير الكويت، فحرب احتلال العراق الدامية، إلى دعم الحركات المتطرفة مثل الحوثيين وداعش وأخواتها، بحجة القضاء على انتفاضات الربيع العربي وإعادة الأنظمة الساقطة إلى الحكم، ولم يكن من الصعب على الولايات المتحدة أن تروج لمشروعها هذا لدى هذه الدول، ولم يكن من الصعب أن تستدرجها إلى مستنقعات باهظة التكاليف تحت ذريعة أن الهدف منها القضاء على الربيع العربي الذي بات يهز عروش تلك الدول، وكذلك إنهاك إيران والقضاء على مشروعها التوسعي وإبعاد خطرها عن هذه الدول، وقد غاب عن بال هذه الدول أن الهدف الحقيقي للمشروع الصهيوأمريكي هو استنفاد طاقاتها الخام ورصيدها المالي الكبير، فإذا تذكرنا أن هذا الرصيد يشكل الدعم الأهم والحقيقي للعالمين العربي والإسلامي أدركنا الهدف الخبيث الذي يرمي إليه توريط هذه الدول الغنية في صراعات متتالية لن تتوقف إلى أن تفرغ خزائن هذه الدول وبقية أرصدتها في البنوك الغربية، ومن المعلوم أن نفاد هذا الرصيد يعني القضاء على القوة الأساسية التي يمتلكها العرب والمسلمون حالياً في مواجهة المخططات المعادية، وأولها المشروع الصهيوني .. فتأمل !
فإذا ما قدر لهذا المخطط الصهيوأمريكي أن يمضي إلى نهايته كما عرضناه، فهو يعني احتواء مزدوجاً في آن معاً لكل من المشروع الإيراني والمشاريع العربية الإسلامية، وعندئذ يكون المشروع الصهيوني قد وصل فعلاً إلى بداية تاريخه الحقيقي، وانفرد بالمنطقة، وعندئذ لن يكتفي بحلمه القديم (من النيل إلى الفرات) بل سيكون مشروعاً أوسع يمتد من الخليج إلى المحيط، ماسحاً في طريقه كل أحلامنا التاريخية الكبرى بالوحدة واستعادة مكانتنا تحت الشمس!
إن هذه النهاية المرتقبة التي تبدو لنا على بعد سنوات قليلة، وربما شهور، تدعونا إلى وضع رؤية جديدة، واستخدام وسائل جديدة، وتخطيط استراتيجيات جديدة، قبل أن يقع الفاس بالراس وندخل عصور الظلام .. لكن .. ترى .. هل خرجنا فعلاً من عصور الظلام لكي ندخل فيها مرة أخرى ؟ سؤال فاجأني الآن في هذه اللحظة وأنا أخط الجملة الأخيرة من هذه المقالة، فلم أحر جواباً ، فتركت القلم جانباً تاركاً الجواب رهن الحكماء من هؤلاء وأولئك .. فتأمل !