وجهة نظر حول الأزمة الطائفية في سوريا
وجهة نظر حول الأزمة الطائفية في سوريا
توفيق دنيا
تتركز معظم النقاشات الخافتة التي يملؤها الخوف منذ زمن طويل وحتى الآن، حول الأزمة الطائفية في سوريا، ومدى عمقها، وما تركته من احتقانات خطيرة داخل المجتمع، ومدى مساهمتها في شق مجتمعنا السوري عموديا، مما أمن مصالح النظام الحاكم واستمراريته، ومصالح القوى التي على شاكلته ممن تعتاش على الطائفية من هاجس رعب لجميع أبنائه خوفاً من احتمال وقوع كارثة عند التفكير في أي مشروع تغيير يتناول شكل نظام الحكم. هذا الخوف هو ما حرص النظام على أن يوصل الشعب إليه، وهو ما كان يطمح ويخطط لتحقيقه من خلال زرع الأزمة وتكريسها عبر الوسائل التي توفرت بين يديه بها في ضمان بقائه في السلطة وأبنائه وأحفاده من بعده، ومن أجل تكريس حالة من توازن الرعب الطائفي الذي أقنع الشعب بأن تغيير النظام عمل كارثي على الشعب تجنبه، ومن هنا استطاع أن يضع المجتمع في مواجهة بعضه بعضاً متعمداً في تنفيذ مخططه على مجموعات من المتعطشين للسلطة والمال، ممن أطلق يدهم في القمع والنهب وإذلال المجتمع، واستخدام الوسائل المتوفرة لتحقيق هذا الهدف، فاستغل النظام الإرث الطائفي الموجود أساساً في المجتمع ووظفه في استقطاب فقراء الناس وأقلهم وعياً، وشحنهم بأفكار ومفاهيم لا تخدم من حيث النتيجة سوى شلل المتسلطين واللصوص من أركان الفساد. وكان لتركيبة الأجهزة الأمنية التي سلطها النظام على الشعب من حيث أن غالبية عناصرها من أصول ريفية أقلياتية (أغلب ضباطها الفاعلين من أصول علوية) دوراً في تعزيز طائفية النظام وتعزيز قناعة الطرف الآخر بهذا المفهوم، مما شجع وسهل على الفئات الطائفية من الجهة المقابلة مهمة التحريض والتعصب الطائفي انطلاقاً من ذات الأرضية التي ارتكز عليها النظام، وبدأت هذه الأطراف اللعب على الطائفية وإحياء بنى التخلف الأخرى من عائلية وعشائرية ومناطقية ووظف الطرفين حساسية البسطاء وغرائزهم في زرع الأحقاد وتشجيعها بعد أن تراجعت نسبياً في العقود الأخيرة قبل وصول الأسد إلى السلطة، واستغلت هذه الحالة أطراف سياسية أخرى لها مصلحة اقتصادية في استثمار التوجه الطائفي. إضافة إلى أن النظام حرك لاحقاً عملاءه لقتل معارضي النظام أو أفراد محايدين من أبناء الطائفة العلوية، أو القتل على الهوية في حالات ثالثة، في محاولة لتطويب الطائفية العلوية وحشرها في خانة النظام – شاءت الطائفية ذلك أم أبت – هذا أولاً، وتصفية المعارضة ضمن الطائفة العلوية التي تشكل مقتلاً له فيما لو استمرت في معارضتها ثانياً، نظراً لتمركز أعداد كبيرة من أبنائها في صفوف الجيش والأمن.
لم تكن لعبة القتل والتصفيات الطائفية ووضع الناس في مواجهة بعضها آمنة لحافظ الأسد، فقد كادت الأوراق أن تفلت من يديه في لحظة من لحظات تنفيذها. ومن ثم تتحول اللعبة إلى كارثة تحيق به وبنظامه، إذ بدأت علائم ترنح النظام تظهر بشكل جلي، وأخذت ساحة المعارضة الشعبية تتسع في صفوف أبناء المدن عموماً وبدأت تنتقل إلى أبناء الأقليات الأخرى حيث باتوا يشعرون أن النظام يشكل عبئاً عليهم وأنه يدفع بهم لتقديم ثمن كبير لقاء مغانم قليلة، وبدأت العدوى تنتقل إلى صفوف مناصريه من العلويين بعد مجزرة مدرسة المدفعية في عام 1979، وما أعقبها من انتشار الخوف لدى عناصر النظام وتدهور روحهم المعنوية، مما أدى إلى استقامة بعضهم ونفض يدهم من لعبة الأسد.
على أثر ذلك توجه حافظ الأسد إلى الشعب بخطاب مهادن قصد منه توجيه رسالتين في آن واحد الأولى وجهت إلى عموم المواطنين لامتصاص جزء من نقمهم وتبريد غضبهم، حاول أن يؤكد من خلالها بعده عن الطائفية وأنه رجل مسلم وأن إسلامه صحيح لا غبار عليه، والثانية لأنصاره من العلويين ممن رأوا في سياسته توريطاً لهم وللوطن في مشكلة سيغرق الجميع في أوحالها، وذلك للاستفادة من مردود الفرصة التي تتيحها نتائج هذا الخطاب في انتظار اللحظة المناسبة لتوجيه ضربة قاصمة لأعضائه من القوى الوطنية المعارضة وللإسلاميين خاصة بعد أن استفحل أمرهم من وجهة نظره، وقد أعطيت له الفرصة التي كان يبحث عنها في مدينة حماة عام 1982 فاستغل أقصى ما توفر بين يديه من العنف في محاولة لتأديب الشعب السوري من خلال تأديب مدينة حماة. وهناك إشاعات عن أنه تم تهريب جزء من سلاح الطليعة المقاتلة بعلم المخابرات العسكرية في الفترة التي سبقت المجزرة (غض النظر عن تهريب الأٍسلحة وتكديسها).
وفي شهر شباط عام 1982 شن إسلاميو الطليعة المقاتلة هجوهم في مدينة حماة وقتلوا بعض موظفي الدولة وبعض الحزبيين، فاقتنص حافظ الأسد الفرصة، ووجه ضربته إلى أبناء الشعب وخصوصاً الإسلاميين والقوى الوطنية الأخرى المعارضة وقتل عشرات الألوف من المواطنين بدون تمييز، واستباح المدينة بعد أن هدم جزءاً كبيراً منها كي تكون عبرة لغيرها، وأمسك بيد من حديد على خناق الوطن. وأتبع جريمته هذه بتصفيات سياسية منظمة طالت عشرات الألوف الأخرى من كافة الاتجاهات السياسية من أقصى اليمين وحتى أقصى اليسار.
من راقب سيرة حافظ الأسد خلال مسيرته الطويلة منذ عام 1964 وأساليبه الملتوية ودخوله في مؤامرات متواصلة، يكشف أنه ما سعى ويسعى إليه هو بقاؤه في السلطة واستمرار صعوده الدائم وطموحه الذي لا حدود له. لا يهمه في ذلك حزب، أو طائفة، أو نظام أو أي نوع من العلاقات الإنسانية.
ففي عام 1964 كان على علم وصلة بتنظيم (حزب البعث اليساري) ونفض يديه منه عندما لاح له عدم قدرته على إنجاز أي تغيير ووقف مع الجانب الآخر. وكرر نفس الموقف أثناء انقلاب 23 شباط 1966 ولم يحسم موقفه إلى جانب الانقلابيين إلا عندما شعر أن الكفة مالت لصالحهم. ويقال أنه ساهم بتشجيع سليم حاطوم وبدر جمعة على التحرك يوم 28 أيلول 1966 ووعدهم بالمساعدة والوقوف إلى جانبهم، وإخراج سلاح الجو لمنع القوات المناهضة من التحرك ضدهم، وعندما تحرك سليم لتنفيذ الاتفاق تخلى عنه وترك الطرفين يصطدمان ليخرج في النهاية وينحاز إلى مجموعة صلاح جديد التي باتت أضعف من السابق، ويشكل على أثرها مركز القوة الأكبر في نظام 23 شباط.
وفي عام 1968 دبر اغتيال عبد الكريم الجندي أحد أشد أعداء حافظ الأسد وأشدّهم على أثر صراعات حادة بين مراكز قوى النظام، فأزال بذلك عقبة كان يحسب حسابها، وبذلك أصبحت سيطرته واضحة على أغلب مراكز القوة في الجيش من خلال عجز صلاح جديد ونور الدين الأتاسي عن محاسبة الفاعل أو حتى الإعلان عنه، وبات الحديث عن انقلاب قادم بقيادته متداولاً في الأوساط السياسية. وبدأ يركز نشاطه عقب ذلك على محاور وعقبات سياسية أخرى كان يعتقد أنه بحاجة إلى تحييدها أو كسب موافقتها أو التحالف معها، وأهم هذه المحاور هي:
- تيار اللواء محمد عمران ومجموعته في الجيش، وهي كتلة من الضباط غالبيتهم من الطائفة العلوية، وكان يحسب حسابها عن التفكير بأي تغيير في الحكم، فغازل رمزها وبذلك ضمن عدم وقوفهم ضده. وقد انحازت له هذه الكتلة انحيازاً كاملاً بعد تصفية اللواء عمران.
- سوَّق نفسه في أوساط معينة بعد انقلاب عام 1966 على أنه مناصر لوحدة الحزب وأنه مؤيد لقيادة الأستاذ ميشيل عفلق، وروج لذلك مدعياً أنه لم يكن يملك من خيارات سوى خيار الانحياز لصلاح جديد بعد أن حسم الموقف لصالحه صبيحة 23 شباط 1966.
- كف شريكه في الانقلاب وحليفه الدائم مصطفى طلاس بالترويج له بين كبار التجار وبعض السياسيين التقليديين وأبناء الطبقة الغنية ذات الصبغة المدينية من الغالبية السنية، فقدمه على أنه الليبرالي والمخلص من حكم صلاح جديد البعثي الاشتراكي العلوي ابن الريف المتعصب لريفيته وطائفته. ففتحت الأبواب بسرعة وتلقى الدعم والمساندة السريعة ومهدت له كل السبل التي تسهل له الوصول إلى السلطة، خصوصاً بعد أحداث أيلول 1970 وما خلفته من الوصول إلى قرار عربي ودولي بضرورة إسقاط نظام الأتاسي – جديد (المغامر).
- تحدث الأسد بلكنة عروبية وحدوية كان المقصود منها إيصال رسالة إلى التيار الناصري حتى يضمن قبول هذا التيار له عند وصوله إلى قمة السلطة. وهذا ما يفسر استقبال الناصريين له، خصوصاً وأنهم عانوا من الاعتقال والملاحقة أثناء حكم صلاح جديد – الأتاسي.
- إن فتح النافذة على الطبقة الغنية المدينية أعطاه هدنة طويلة مع الإسلاميين ممن اعتبروا أن انقلابه يشكل مرحلة أولى في التخلص من حكم الأقليات الطائفية، وهذا ما فسر استقبالاتهم الحارة له في كل المدن السورية بعد نجاح الانقلاب.
إن ما سبق وقدمته لا يعني أن سورية كانت قبل هذه المرحلة مجتمعاً مثالياً تعتمد فيه تقاليد المواطنة الصحيحة، خالية من كل إرث طائفي، بل بالعكس فلولا وجود مثل هذه الأرضية وهذا الإرث لما استطاعت شلل النظام استغلال المسألة الطائفية بهذا الشكل وعلى هذا المستوى، فالأقليات الطائفية كانت تتعرض تاريخياً لثلاثة أنواع من الاضطهاد، ساعدت النظام لأن يوظفها لصالحه وهي:
1 – الاضطهاد ذو الطبيعة المذهبية والذي أخذ شكله الحاد بعد غزو المغول ومنذ احتلال العثمانيين لسوريا عام 1517 واستثمار السلطان العثماني للمذهبية في الترويج للاحتلال وتبرير شرعيته، وما تبعه من اضطهاد وتهجير للعلويين وتكفير ونفي الأقليات المسلمة الأخرى وأدلجة المذهبية واستخدامها سلاحاً سياسياً في مواجهة الأقليات، ومحاولة استقطاب الغالبية المذهبية انطلاقاً من نفس الخلفية السياسية لضمان هدوء واستقرار الاحتلال، والاستيلاء على مؤسسة الخلافة لإعطاء السلطان العثماني الصفة الشرعية الدينية، لما تقدمه من امتيازات وغطاء للحاكم.
2 – الاضطهاد ذو الطبيعة الإقطاعية، إذ أن غالبية أبناء الريف ومن ضمنهم أبناء الأقليات كانوا عبارة عن فلاحين أجراء أو عمال زراعيين، شبه أقنان يعملون في أراضٍ للإقطاعيين من الأصول التركية أو الكردية أو من بقايا دويلات المماليك ممن قدموا الولاء للفاتح الجديد ووضعوا أنفسهم في خدمته. أو ممن استولوا على الأرض بوسائل أخرى مختلفة.
3 – الاضطهاد الثالث: هو الاضطهاد والاستغلال والنظرة الفوقية الذي كان المجتمع المديني يمارسه على الفلاحين والرعاة من كافة المذاهب، حتى وإن كان المدنيون من أبناء الطبقات المسحوقة في المجتمع.
- من هنا كانت الذاكرة الشعبية لأبناء الأقليات خاصة وأبناء الأرياف عامة مليئة بالمخزون المر من الاضطهاد الذي مورس عليهم خلال حقبة زمنية طويلة، مما سهل على الطائفيين من أبناء هذه الطوائف اللعب بهذه الورقة وتوظيفها لخدمة مصالحهم الشخصية.
هذا ولقد ساهم في تجذير الطائفية قوى مدينية تنتمي إلى الغالبية المذهبية كانت قد فقدت مصالحها – في السلطة والاقتصاد – على يدي حزب البعث، فدفعت الأحزاب ذات البنية المدينية مثل حركة الإخوان المسلمين أو بعض الأحزاب التقليدية وتمترست خلفها واستغلت بواسطتها الورقة الطائفية لتعزيز قوتها في مواجهة القادمين الجدد من أبناء الريف والأقليات. لكن الحالة الطائفية بقيت إلى حد ما دون المستوى الذي وصلت إليه على يدي حافظ الأسد. الذي استطاع في البداية تحييد هذه القوى بتقديمه وعوداً وتطمينات لها.
لعب حافظ الأسد أوراقه بذكاء، حتى أنجز ما يسمى بنصر تشرين 1973 وتوقيع اتفاقية الجولان وبذلك حقق نقطتين هامتين لمصلحته، الأولى إنجازه (لنصر تشرين) الذي اعتبره غسلاً لعاره عام 1967 وتطويباً له (بطلاً قومياً) محرراً. أما الثانية ففي عقده لصفقة اتفاقية الجولان التي حررته من أي التزام أمام الشعب، ومكنته من تكييف واستخدام الجيش في حسم كافة الصراعات الداخلية بما يخدم نظامه، فنظف الجيش من التنظيمات السياسية الأخرى والتي تحد من حريته في التصرف بالسلطة أو بالوطن، وأصبح يشعر أنه بحاجة إلى أنصار وأزلام تصفق، وليس بحاجة إلى حلفاء، فمن قبل نال حظوة الاستمرار في (الجبهة الوطنية التقدمية) وحصل على الراتب الذي يليق واللقب والسيارة المناسبين، ومن رفض نال حظوة النفي أو الاستضافة في جحور المخابرات، أو العزل والتهميش وقصقصة الأجنحة والألسنة.
ولم تسلم أحزاب جبهة النظام من عبث حافظ الأسد، فخضوعها يشفع لها من أن يعمل على تفتيتها إلى مجموعات وتنظيمات أصغر، أفقدها إمكانية الاستمرار، أو القدرة على الفعل المستقبلي.
ولشق تحالف الأحزاب والفئات المدينية فقد لجأ النظام إلى فتح الأبواب أمام من يريد من الرموز الاقتصادية (التجار) أصحاب التأثير السياسي لأن تفيد وتستفيد، وذلك بعقد شراكات معها من خلال رموز النظام وبتحويل الوطن إلى شركة مجهولة الاسم. فيضمنون له ويشكل ما يدير الشارع وتخويفه لضمان استمرار مصالح التجار المستفيدين من جهة، ومن جهة أخرى بقاء الأزلام ورموز النظام على ولائهم، من خلال الرشاوى والنهب والفساد المالي.
هكذا أقام حافظ الأسد سلطته على جناحين: ريفي أقلياتي للجيش والأمن، ومديني اقتصادي مشارك في الحكومة والإدارة تربطهم علاقات الفساد والنهب المنظم للدولة والمجتمع. أما على صعيد الكوادر الوسطى والصغيرة فقد أطلقت يدها في الابتزاز والرشوة وفرض الخوات مما خلق بيئة فساد عام. ونهب وتهريب للثروات، وإفقار للدولة والمجتمع، وتخريب للاقتصاد، وتمزيق للعلاقات الاجتماعية، وتدمير للبيئة، وتقزيم للعلم والثقافة، وتكريس لقيم التخلف من عشائرية وطائفية ومناطقية.
ولكي يضمن حافظ الأسد استمرارية نظامه لجأ إلى الوسائل التالية إضافة إلى ما سبق ذكره من وسائل:
أولاً: حاول خلق زعامات جديدة من أبناء الأقليات بديلاً عن الزعامات التقليدية تدين له في وجودها واستمرار نفوذها، وخلق بدائل لهذه الزعامات الجديدة جاهزة للحلول محلها عند انتهاء صلاحيتها.
ثانياً: أوجد نوعاً من التوازنات العشائرية والمناطقية والطائفية على مستوى كل طائفة أو منطقة أو أقلية وجعل مفتاح هذه التوازنات في يديه وحده ولم يترك لأحد المس بهذا الترتيب أو العبث فيه.
ثالثاً: حاول النظام أن يركز على أبناء المنطقة التي ينتمي إليها بالدرجة الأولى (منطقة ريف جبلة) وعلى أبناء العشيرة التي ينتمي إليها بالخصوص (عشيرة الكلبية – القراحله). وفوضهم كقيادات عسكرية وأمنية. وسلمهم مفاتيح ومفاصل وحدات الجيش الرئيسية، وأجهزة الأمن، مما أعطى انطباعاً بأن الطائفة العلوية تحكم سوريا، بينما وفي حقيقة الأمر كانت تواجه النظام معارضة قوية بين أبناء الطائفة العلوية، على أسس من القيم الوطنية، كما وترفض تخويل النظام التحدث باسمها خصوصاً بين صفوف المثقفين والمسيسين ولكن هذا يؤكد أن القرار السياسي احتكر واختصر بيد حافظ أسد دون سواه.
ومن يراقب أسماء عناصر النظام الرئيسين في الجيش والأمن يجد أنهم وفي غالبيتهم العظمى ينتمون إلى أبناء المنطقة الممتدة بين نبع نهر السن ومفرق قرية القرداحة ويمتد صعوداً حتى القرى التي تقع في قمة سلاسل هذه الجبال والتي لا يزيد عدد سكانها عن (240000 – 270000) في أقصى التقديرات عام 1996 بما فيهم سكان مدينة جبلة التي بلغ تعداد سكانها في عام 1996 سبعين ألفاً. أي أن سكان ريف جبلة نصف هذا العدد تقريباً في عام 1976 (حوالي 85000 – 100000)، وهي المنطقة التي ينتمي إليها أبناء عائلة الأسد، مخلوف، علي أصلان، علي دوبا، محمد الخولي، غازي كنعان، علي حيدر، توفيق جلول، شفيق فياض، حسن خليل، هاشم معلا، أحمد عبود، والعشرات الآخرين من كوادر النظام الأمنية والعسكرية.. إلخ وهذا على سبيل المثال لا الحصر يتبعهم الآلاف من الضباط من المرتبة الثانية والثالثة والرابعة. ففي إحصائية قمت بها في عام 1976 لإحدى قرى تلك المنطقة وجدت أن عدد سكانها في ذلك الوقت بلغ 694 شخصاً رجالاً ونساءً وأطفالاً. ووجدت أن عدد الضباط وطلاب الضباط في الكليات العسكرية المختلفة من أبنائها كان 31 شخصاً أي ما نسبته 0.044 من السكان وقمت وفي نفس الوقت بعمل تقدير لإحدى قرى العلويين في محافظة حماة فوجدت أن عدد سكانها حسب تقدير أكثر من شخص من أبناء تلك القرية يتراوح بين تسعة آلاف وعشرة آلاف شخص كان منهم ثلاثة ضباط اثنان منهم ضباط احتياط ثبتوا في الجيش وثالث خريج الكلية الحربية وكان منهم طالبان في الكلية العسكرية.
وبحساب النسب نجد أن المعدل فيما لو كان تعداد السكان تسعة آلاف نسمة هي: 0.00055.
وإذا افترضنا أن الرقم الحقيقي لسكان ريف جبلة هو:
85000 – 100000
أي ما متوسطه 92500 فرد.
من هنا وبعد حساب النسبة التقديرية نجد أن عدد الضباط وطلاب الضباط في عام 1967 من أبناء تلك المنطقة هم:
92500 X 0.044 = 4070 ضباط في الجيش من أبناء منطقة حافظ الأسد وعشيرته
ولحساب تعداد الضباط بين بقية أبناء الطائفة إذا كان العلويون يمثلون 13% من السكان فعليه يكون:
8500000 تعداد سكان سوريا تقريباً عام 1967
8500000 x 13%= 1105000 تعداد العلويين في سوريا عام 1967
1105000-92500= 1012500 تعداد العلويين ما عدا سكان منطقة جبلة.
1012500x0.00055= 557 وهو معدل الضباط في صفوف بقية أبناء الطائفة العلوية.
وربما تختلف النسبة من مكان إلى آخر ومن قرية إلى أخرى، ولكن هذه النسبة تبقى قريبة من المعدل العام. ورغم أن نسبتهم قليلة قياساً لأبناء منطقة حافظ الأسد فإن ولاءهم المطلق له شرط انتسابهم وبقائهم في صفوف الجيش والأمن.
من الإحصائية السابقة نصل إلى النتائج التالية علماً بأن عشيرة حافظ الأسد محصورة في منطقة جبلة وذات عدد قليل:
1 – نسبة أبناء طائفة حافظ الأسد بما فيهم أبناء عشيرته إلى الطائفة العلوية لا تزيد عن 8.3% من المجموع.
2 – تمركز قوة النظام بين أبناء منطقته وعشيرته عامة وليس لأبناء الطائفة.
3 – إن ادعاء حافظ الأسد بأن العلويين يساندون نظامه مجرد إيهام يقصد به جر ما أمكن منهم إلى جانبه أولاً، وإخافة الآخرين ممن لا يعرفون التركيبة الحقيقية للنظام ثانياً.
4 – إن الطائفة العلوية غير ممثلة في السلطة أكثر من غيرها من عموم الشعب إذا استثنينا منقطة وعشيرة حافظ الأسد. وإن تركيز أبناء منطقته وعشيرته كان يتم على حساب أبناء المناطق والعشائر الأخرى. فهو يشركهم في المغرم ولا يشركهم في المغنم. غير أنه استفاد من بسطاء الناس كأدوات وحشرهم في خدمته مستفيداً من التعبئة الطائفية والتعبئة المضادة، وعزل النخبة المعارضة وقعمها.
هذا ما عمق الانطباع بأن العلويين كطائفة يمسكون بتلابيب النظام ويحكمون البلد، وعمق القطيعة بين أبناء البلد الواحد وساهم في ذلك بعض القوى السياسية المعارضة، كل على طريقته وبأسلوبه وهذا ما كان يبحث عنه حافظ الأسد ويحث عليه.
ومن هنا أستطيع أن أقدر توزع أبناء العلويين وأصنف انتماءاتهم السياسية على الشكل التالي:
1 – 20% إلى 25% من غوغاء العلويين – إضافة إلى بعض النخبة المستفيدة – كانوا جزءاً من آلية النظام أو في خدمته استطاع أن يستقطبهم ويجندهم في صفه إما طائفياً أو حزبياً إضافة إلى إغراءات (جزرة) النظام فمنهم كان صف ضباط وجنود وموظفو أمن وبعض موظفي دوائر الدولة.
2 – 20% إلى 25% من أبناء الطائفة استساغ اللعبة واستفاد منها دون أن يساهم في خلقها أو يرفضها، ساعده على ذلك خوف الآخر واستعداده لتقديم التنازلات والمكاسب دون أن نطلب منه خصوصاً بعد مجزرة حماه.
3 – أما البقية فقد كانت ترفض السلوك الطائفي ولكن بأشكال ووسائل مختلفة ومتدرجة تبدأ على طريقة أضعف الإيمان وتنتهي بالنضال السياسي والذهاب إلى السجون والمنافي.
وفي ملاحظات عامة لا تملك فيها أية إحصاءات دقيقة فإن معارضي النظام ممن دخلوا السجون أو شردوا أو تمت ملاحقتهم سياسياً منذ عام 1970 وحتى الآن، ومن غير المنتمين في التنظيمات الإسلامية فإن غالبيتهم من أبناء الطائفة العلوية أو أبناء الأقليات المحسوبة على النظام. فيهم من مات تحت التعذيب أو من قضى أكثر من 27 سنة، ومن مات سجيناً، وهناك المئات من السجناء من الرجال والنساء ممن قضوا أكثر من خمسة عشر عاماً لرفضهم تركيبة وسياسات النظام الطائفية والسياسية. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن معارضي النظام من أبناء الأقليات عموماً وأبناء الطائفة العلوية خصوصاً واجهوا قمعاً وضغطاً مزدوجاً. فهم معارضون لنظام يطلب منهم الموالاة ويفترضها فيهم، نتيجة تركيبته الطائفية، ولذا فهم بالنسبة له خوارج متمردون، وعليه فهم يستحقون العقاب الشديد، وهم في نفس الوقت موضع شك واتهام بالعمالة للنظام من قبل قطاع لا بأس به من المعارضة وخاصة الإسلامية، وأن البعض يبالغ فيؤكد أن دورهم المعارض مرسوم لهم من قبل قيادات الطائفة والنظام، وبالتالي فإن معارضتهم ليست سوى تمثيلية للإيقاع بالآخر.
وأخيراً فقد بدأت دائرة المعارضة للنظام وطائفيته تتسع بين صفوف العلويين وتزداد إدانة السياسات وترتفع الأصوات احتجاجاً على الطريقة التي يتعامل بها النظام مع بقية المواطنين، لكن رفضهم أقل من المطلوب، ودون المستوى اللازم لإسقاط النظام. وتعليل ذلك أن الكثير من المعارضين العلويين مسكونون بالخوف من أن يدفعوا الثمن مرتين. هذه واحدة أما الأخرى فإن النظام قد خلق واقعاً على الأرض أساسه وجود عشرات الألوف من العسكريين والموظفين في دوائر الأمن والدولة يعتاشون من وظائفهم، وأصبحت لهم مواطن استقرار جديدة منذ أكثر من أربعين عاماً يخشون حال سقوط النظام من أن يفقدوا كل موارد حياتهم واستقرارهم. ولقد حرص النظام على تضخيم هذا الخوف في نفوسهم.
إن اشتراك المعارضين من أبناء الطائفة العلوية في صياغة مشروع التغيير الديمقراطي للحكم ومساهمتهم في تنفيذه تحمل الاطمئنان لهم ولأبناء الطائفة أولاً. كما وأن عزل النظام عن أبناء الطائفة ممن يشغلون مواقع في الدولة والمجتمع من خلال طمأنتهم وإشعارهم بعدم مسؤوليتهم عن أفعاله، وأنه من غير الممكن أن يدفعوا ثمناً نيابة عن النظام مما يسهل عملية فك الارتباط بينه وبين من يفترض أن يحميه.