هل يمكن أن تبني  الحداثة

هل يمكن أن تبني  الحداثة ,

ما خربته الأصولية السياسية ؟!

د. نصر حسن

[email protected]

(1 – 2)

بداية ً, نتكلم عن ضرورة حداثية أصبحت هي ترياق الحياة السورية  في وضعيتها الراهنة التي لامست الإختناق ,ولا يهمنا كثيراً التسميات المحنطة التي أخذت لدى البعض شكل " تابو" لفظي له , يشبه الوشم المميز الذي يريده البعض دائم أزلي , ومحبوس في خناق المصالح الأنانية الفردية أوالطائفية أو المذهبية ولابعد اجتماعي حداثي حقيقي فيها , ونرى أن الحوار المبرمج الصريح غير التسطيحي والشفاف غيرالباطني , هو المدخل للبحث عن حل لعقدنا وأزماتنا وليس اللف والدوران , هو وحده الذي يخرجنا من هذا المستنقع الذي نحن فيه, وبمنهجية علمية حسب المستطاع , ومن البديهيات في العلم الأرضي والكوني , أن محصلة قوة الكتلة المادية الكبيرة هي التي تحدد الحركة واتجاهها , وفي المعادلة الرياضية البحتة لايمكن إهمال أي مكون فيها , وهذا أيضاً ينطبق على المجتمع وعلاقة مكوناته مع بعضها واتجاه حركته , والكتلة الإجتماعية الأكبر هي التي تحدد قيمة القوة الأكبر (الأكبر تعني المشروع ) , وهذه القوة هي التي تحدد اتجاه القوة , واتجاه القوة هو الذي يحدد أنها تنتج فعلاً وعملاً (تقدم) أم تخريباً (تعاكس و تراجع)  ,  ونوضح أننا لاندافع عن أحد ,ولانجامل أحد , ولانردح ولانقدح ولانمدح ولانستسيغ ذلك من أي طرف, ونبقى  على مسافة بعيدة عنه , وليس من طبيعتنا السكوت على الإعوجاج الوطني والفكري والإنساني , بقدر مانريد المساهمة برأي نعتقد أنه مفيد ,وهمنا الوحيد هو المساهمة في كنس غبار التخلف عن عقولنا أولاً والكراهية من قلوبنا ثانياً , بجهدنا المتواضع , فتاريخنا المشترك نعرفه بدقة وصفحاته معروفة على الوجهين , ومن استمرار التخلف أن نستسلم إلى عقده ولحظات سواده وإعادة "علكها واجترارها" من جديد , بل همنا الحالي هو الخروج من دوامة ظلامه إلى نور العصر , إلى الحياة المشتركة ,لا إلى مقبرة العصر, إلى قيم الحداثة والعدالة والمساواة , ورأينا أن تكون هذه المقالة امتداد لسابقاتها وخاصة حول الموقف من الإسلام , ونعطي هذا الموضوع أولى الأولويات لأهميته في عملية التحديث , فالمجتمع المريض ,لايمكن أن يحركه جزء معافى بالمعنى المادي والروحي والفكري , لكن المجتمع المعافى يحرك الجزء المريض , وبالمحصلة نريد علاج المرض أينما كان فينا , بجرأة مقدمتها الخروج من كهوف الماضي والنية الصادقة نحو التسامح والحداثة , وهذا لن يتم سوى بالتعقل والكشف الصريح مرة واحدة عن المرض العضال , على قاعدة تقوية المناعة لدى السليم ومداواة المريض , واحترام المحترم من الماضي  وعزل المؤذي اجتماعياً والمعيق للتقدم منه , على مستوى العقل والفعل في الفكر والسياسة والعلاقة مع الآخر.

وعليه واستمرارأ للمقالات السابقة الثلاثة ( أنسنة العقل , وعقلنة العلمانية ) حول ضرورة التفكير في إعادة العقل العربي إلى إنسانيته وتعقل العلمانية العربية , نرى أن " السيناريوهات"  الفكرية والسياسية المطروحة الفردية والجماعية للخروج من الأزمة تبدو قاصرة , لأن معظمها أصولية لازالت في كهوفها المظلمة , متنخدقة ومربوطة في فرديتها , ولم تستطع بعد من قبول الإنسجام مع المجموع والمشاركة في صياغة برنامج سياسي حداثي مشترك , لأنها مستلبة , جسمها في الحاضر وحركتها مع الإستبداد وعقلها في أشلاء الماضي ,  وأي ماضي ؟  ماضي الشقاق والنفاق والإنقسام والظلام وصراع الأخوة الأعداء  !  ظلام يبدو أن وعي البعض تولف عليه إلى الحد الذي لم يعد يعنيه الخروج منه , وكل مايعنيه هو استحضار المأساة واللطم الجسدي والفكري وفرض على الآخرين اللطم مالنواح معه  ,  رغم أنه لاديني ,  فقط يستحضر بعض جوانب "المأساة الدينية "  بلفظ  جديد " علماني ", وكل مايعنيه هو رمي أصوليته على الطرف الآخر وحصره فيها ( العرق ,الطائفة ,المذهب)الذي لايتفق معه مذهبياً وليس سياسياً ,  وانهارت لدى هذا الطرف أو ذاك كل مظاهر التعقل , وغاب أي أمل بالخروج , هذا التفكير والجمود في الماضي يوحي بالعجز أمام الواقع وأمام رغبة الحداثة ,  وكل حديث في هذا الإطار هو مواربة وتقية واضحة لاقيمة له  .

إذ ,"ماهكذا تورد الإبل" !  وليس هكذا تصاغ الحياة المشتركة , ولاهذا هو طريق الخروج من التخلف , المجتمع في سورية يريد التنوير ولايريد التخدير , يريد برامج سياسية تنقذه من هذا الغول الذي يمثله النظام الفئوي وفساده وقمعه , يريد برامج جامعة جديدة , لايريد خطابات تفتيتية سياسية أصولية  , وسئم العزف النشازالمأساوي على وتر ظلم الماضي وتمزقه , ألا يكفيه مرارة الواقع ومظاهر التفتت فيه ؟!, يريد أن يكون الحاضر امتداداً لشعاع الماضي , يريد حاضر يؤسس لقيم جديدة للتعايش والعلاقات الإنسانية السليمة , فالإرتداد في العلم والزمن هو حالة انكسار , وفي السياسة والفكر والمجتمع هو حالة انهيار , وتموضع تاريخي في العجز والتخلف , وعملية بناء المستقبل الجديد لاتتم على عوارض جانبية ملأها الصدأ إلى درجة التآكل الزمني والفكري والإنساني , والرجوع الواهن إلى الوراء على أمل تجديد الحوامل القديمة لحداثة مبهمة !, وأين ؟ البحث في كهوف ماقبل الدولة, وببقايا عقل فقد احداثياته الذاتية والعصرية , وبالتالي قدرته على التجديد والحياة , وكل مابوسعه عمله هو المراوحة في الحاضر بأبعاد الماضي . وإعادة طبع الأوهام والآلام , والقياس والمترلة النظرية بين متباعدات تاريخية غابت عنها المشتركات .

وعليه  يتكرر اللبس بمقارنة علمانية ذهنية نخبوية مع الإسلام كمرجعية تاريخية مبعدة عن الحياة ,ويزيد الإشكالية تعقيداً بانتقاء البعد المطلق ( الإيمان ) في الإسلام والخوض فيه , والجدل حول البعد الدنيوي ( السياسة ) والجدل فيه أيضاً بتكسير أعمدته وانتقاء مايوافق الغريزة منها , مغيبين الإتساق بين مفهوم الإسلام للدنيا والآخرة ,أي بعده التاريخي , ومشككين في كون الإسلام منظومة متكاملة قيمية فكرية اجتماعية اقتصادية لنظم حياة الناس وفق برنامج واتجاه واضحين , هنا نرجع مرةً أخرى إلى أحادية التفكير أو مواربته بسقوطه في التمويه والتوليف الأحادي وإلغاء الآخر, إذ هل المشكلة هي تحويلها من مواجهة النظام الإستبدادي والتخلف ؟, وإلى صراع جانبي يستهلك ماتبقى من قوة الشعب في سجالات تتعمد حرف الهدف وتضييع الجهد والوقت ؟!,صحيح أن العلمانية في عمقها الفلسفي تقوم على فصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع , بدليل استمرار الكنيسة بدورها الديني الكبير في الدول العلمانية , لكن الأصح هو أن الإسلام قيم , والعلمانية قيم , والديموقراطية قيم , وحقوق الإنسان قيم , والحداثة قيم , وليست قراءات ومماحكات نظرية , وعندما ننقد العلمانية نقصد في واقع سورية وبالتحديد علمانية التيار القومي العربي واليسار الماركسي وخليطهم , ومن موقع النقد الذاتي أيضاً , نرى أن كلا التيارين فشلا في تقديم الوصلة الفكرية الحداثية المطلوبة ,أي بناء منظومة القيم تلك , لسبب أساسي بنيوي وهو الفردية بإقصاء أدوات إنتاج هذه الوصلة, بمعنى تغييب النخبة الفكرية النوعية المؤهلة تاريخياً لذلك , ونتج عن ذلك الإستبداد وسيطرة الأقلية بالقوة المسلحة وبقاء الكم العددي الذي اصطف معها وهو كم غير منتج للفكر والسياسة معاً , وممكن أن يصطف مع أي سلطة في المستقبل.

وعليه من يريد التحديث والتطوير , لايمكن تجاهل دور الإسلام الكامن ومساهمته في إنتاج حوامل التغيير الوطنية الحداثية والحضارية , فمن الصعب إطلاق حكم قطعي على حالة افتراضية مبنية على صورة تقليدية سابقة في واقع جديد متحرك ,لأن الإسلام مبعد اليوم وليس له أي دور ديني أو سياسي في المجتمع السوري , ولاأي دور في صياغة شكل الدولة السورية , هناك بوادر متنورة توحي بالتفاؤل على مستوى بنيته التنظيمية ومشروعه السياسي ( المشروع السياسي للإخوان المسلمين في سورية ) ,  وتحديداً بموضوع الدولة المدنية والموقف من الدستور ومن تحرر المرأة والتجديد والحداثة , وهذا يوحي بالأمل بالإقلاع نحو التجديد ,  لازال الإسلام محرك رئيسي في التغيير الديموقراطي والتطوير ,  وعليه نرى ضرورة توسيع دائرة الحوار مع الطرف الإسلامي إلى أبعد مدى ,  حتى تتحاور الأفكار والبرامج وتصل إلى صياغة جديدة للمستقبل ,  وأثبتت الأحداث الماضية أن عملية الإنغلاق الفكري والسياسي على مستوى كل التيارات السياسية , لم تنتج سوى الصراع والتمزق والتخلف والإستبداد , وحتى سلالة البشر بدون تلاقح بيولوجي تنتهي , هذا هو حال الأفكار كذلك , فلا يمكن التقدم والتجديد بدون حوار الأفكار والبرامج والمشاريع, وتفاعل الآراء المختلفة على قاعدة إنتاج البديل الجامع وهو المشروع السياسي العام ... ..,فمن نافل القول .... أنه لايمكن إدخال الجمل في خرم إبرة ..... أم سنستمر ......"عنزة ولو طارت"

يتبع ...