نحو أنسنة العقل
وعقلنة العلمانية!
د. نصر حسن
( 1- 3 )
لازال الردح والردح المعاكس المشاكس على قدم وساق في الوسط الثقافي العربي والسوري على وجه الخصوص , ردح لانعرف متنه من سطحه, معظمه يدور في مساحة برانية لاعلاقة لها بلب المشكلة ودواخلها وجذورالأزمة التي نعيشها, وأكثر المردوحين هما مفهومين مظلومين بمستوى الوعي التقليدي العلمانوي إذا صح التعبير , وضعف منسوب الفهم العقلاني لهما وعدم دراية بظروف نشأتهما ومسارهما التاريخي , وهما العلمانية والإسلام أو (الإسلام السياسي) كما يحلو للبعض أن يتفنن بضخ مفاهيم تحمل رغبة الشقاق أكثر مما توحي بالإتفاق , وسنعمل على تعرية العلمانية من الأغطية المزيفة التي يلفها بها عشاقها , وتناولها على حقيقتها مااستطعنا إلى ذلك فهماً وعرضاً ,على أمل مقاربة موضوع (الإسلام السياسي) ورداحيه في المستقبل القريب, وعليه لانريد أن ندخل في مقاربة العلمانية بالشكل التقليدي بمعنى التعريف الفكري والسياسي والإجتماعي , بقدر مانريد أن نركز على ظروف اشتقاق المفهوم وكيفية تداوله من قبل العلمانيين وغيرهم على الساحة السورية ,وعلى الرغم من كثافة المقالات والمقالات المعاكسة حول العلمانية ,وبدون الدخول في شخصنتها وتقييم لادينيتها ووجدانها, ولا الإصرار على دنيويتها بقدر مانتناول الموضوع بأفقه الواقعي العملي وبشكل بعيد عن السجال وعن التصنع بامتلاك سيف معرفي أو رمح سياسي ,فلاهذا ولاذاك يملكه أحد الحاضرين اليوم ومنهم كاتب هذه السطور , مادام الجميع يشهور عجزه أمام ولوج باب التطوير ,والواقع السوري مباح أمام الإستبداد والتخلف وبماهوفيه وعليه , ولا مواجهة المفهوم من الصفر بخواء عقلي ونفسي , أو هروب فكري وثقافي من محاكاة المفهوم بشكل إيديولوجي ,نعم إيديولوجي ,المفهوم الذي أصبح مشبوهاً هو الآخر , والكثير من العلمانويين والمتثقافين مسرعين إلى نبذه وحرفه ولبررته مجاراةً لعصرنة شكلية وعولمة ملحقاتية , , وهنا نلح على إخراج المفهوم من دائرة المماحكة على أرضية فشله في الواقع العربي والإسلامي , الذي هو في حقيقة الأمر فشل أدواته ,ولاتسفيه ضرورته كونه حامل أساسي من حوامل تطور وتقدم الشعوب ,بقدر مانسحب المفهوم إلى ساحة النقد الموجه من الواقع ومستوى الوعي فيه ,ونعمل على عقلنته ,إذ لاسبيل إلى التطور بدون تغليب دور العقل والحوار المسؤول.
ففي ساحة الردح الثقافية يتعرض المفهوم إلى لغط وتشويه كبيرين , منها مايتعلق بتجاهل نشأته في أوروبا الكهنوتية التي مثلت الكنيسة سلطة دينية غيبية اختلط فيها الدين بالسياسة بالخرافة بالظلم الإقطاعي,وتحالفها مع السلطة التي مارست انتهاكاً خطيراً للحقوق الفردية , أو بإسقاطه جبرياً على واقع اجتماعي يغوص بالأزمات تحت سلطة واحدة هي الإستبداد الذي شوه كل شيء وفي المقدمة حقيقة الدين ودوره في الحياة الإنسانية ( سورية اليوم), وعليه إن المفهوم مشتق من واقع اجتماعي وديني وسياسي وثقافي وزمني مختلف عن الواقع العربي , وهو في حدود محتواه وهدفه يمثل نظرة حداثية لعلاقة الفرد بالدين , بالموروث الثقافي ,بعلاقتة مع الدولة وعلاقة الفرد مع المجموع , بمعنى تطوير الروابط الفردية والإجتماعية والقانونية نحو صيغ أكثر عقلانية تخدم مسألة تحررالإنسان من الظلم والعبودية والفقر , ونقل الوعي البشري إلى مساحة الدولة العاقلة, والمسألة الخلافية في المفهوم هو أنه نشأ في أوروبا المتخلفة والتي يحكمها الظلم والإقطاع ,وكانت الكنيسة هي المحدد الأول لشكل الحياة الفردية والجماعية ,وكانت تحتكر سلطة مركزية شديدة, أضفت عليها الطابع الديني كحاجة سلطوية وليس كإيمان, هذا لاينطبق على الإسلام والواقع العربي والإسلامي ,لسببين رئيسيين :
الأول أن الإسلام لم يمر بهذه المرحلة الكهنوتية ,ولم يعرف التاريخ العربي الإسلامي هكذا نموذج , ولم يكن في مرحلة الدولة الإسلامية سلطة سياسية منفردة للجامع أو لرجل الدين , وكان مفهوم الدولة يتمثل بعلاقات فوق أهلية مع كونها دينية , سوى في حالات استثنائية بوجود بعض رجالات محسوبة على الإسلام , لكن وجودها غلب عليه النفاق ومداهنة السلطان وتغطية عجزه الديني والفكري والقيادي , وهذا إطار فردي لم يبلغ مستوى الفعل العام والسيطرة بماهي قوانين وطقوس تفرض على الناس بقوة الظلم وليس بقوة الإيمان, والأمر الغائب عن الكثير من الرادحين هو أن الإسلام دين عقل ودين دنيا وعلاقات دنيوية كمقدمة للآخرة ,وهو رسالة محورها الإنسان في الحياة الدنيا ومصلحته ضمن نظام مبني على العدالة والمساواة والحرية , وحتى لاندخل في إطار الغيبيات البعيدة عن اهتمام البعض ,ونتجاوز النفور والقصور في فهم وإدراك كنه الحياة البشرية للبعض الآخر, فالإيمان والكفر ببعده الدنيوي يحدده قوة محرك عقلي ودرجة كفاءته أي الوعي التاريخي العام , وهذا له مستويات عدة لدىالفرد والجماعات والشعوب, ولتكثيف الحوار نضطر إختصار الردح بأن نأخذ جانبه الواقعي والعملي الدنيوي المرتبط أساساً بقيمة الإنسان ورفع الظلم والمساواة والعدالة ,ورفض التمييز بين البشر واحترام هذه القيم المشتركة في الحياة , أي البعد الدنيوي ,وكل فرد في نهاية الأمر هو حر بآخرته.
والثاني أن العلمانية أنتجها واقع ديني غير متدين ويمكن وصفه سياسي مغطى برداء الدين , بمعنى بعيد عن قيم الدين الحقيقية ونظرتها إلى الإنسان , وبالتالي عبرت عن حاجة الشعوب إلى نمط جديد من العلاقات الإجتماعية والإقتصادية القانونية لتجاوز واقع ظالم ,والتي لاتتعارض مع الدين وهنا يكمن فشل العلمانيين العرب والمسلمين عندما وضعوا العلمانية من البداية ( فصل الدين عن الدولة ) في مواجهة مع الدين أي الإسلام, الذي لعب أكبر دور دنيوي قيمي أخلاقي وقانوني إصلاحي في حياة البشرية حتى عصر التنوير ,وحوصر ولازال من السلطة وأقصي عن الحياة وغاب دوره التجديدي المطلوب, بخلاف ذلك إن العلمانية في أوروبا لم تصطدم بالدين بقدر ما حددت دور الكنيسة السياسي في حياة الناس , وهنا مضطرين إلى المرور العابر بتشديد القول أن دعاة العلمانية الأوروربية هم مفكرين وفلاسفة وتنويريين وأخلاقيين من صلب المجتمع وغير مسلوخين عنه ,لديهم نظرة تطويريه متكاملة ,وفهموا تناقضات مجتمعاتهم بدقة وصاغوها بأمانه وموضوعية واستقلالية ,وكل مفيد لمجتمع ما بشكل عام يمكن القول أن فيه جانب عام يفيد الآخرين , وعليه لم ينتجها رداحين ذوي نظرة تقليدية للدين والعلمانية والحياة , فبرغم وجودهم اليوم واستعمالهم لجملة من الملفوظات الحديثة إلا أنهم ليسوا في الواقع سوى وجودا ً مادياً معزولاً عن إطاره الإجتماعي الحقيقي, أو في أطراف الحي الإجتماعي العام للشعوب , باختصار العلمانية لم يستوردهاالأوروربيين بل أبدعوها لحاجتهم لها , كقيم تنويرية حداثية أصيلة,وصاغوها ببراعة فكرية وثقافية وقانونية وحتى أخلاقية , أنتجت التطور والتقدم ومفاهيم العدل والإشتراكية والديموقراطية, والتي كانت أساس الحرية وحقوق الإنسان, الحرية والتعددية واحترام الآخر هي المفاهيم التي أنتجت التطور والتقدم , وليس مفاهيم الباطنية ولا النظرة النخبوية النرجسية , ولاالتناقض مع واقع المجتمع ,ولا الخلفية العرقية والمذهبية ,التي تريد احتكار الحقيقة والواقع أي المجتمع , وحجز التعددية والحرية واحترام الآخر وتوزيعها على الناس حسب دياناتهم ومعتقداتهم, من هنا نبعت الأصولية الفكرية إذا جاز لنا التعبير , بمعناها المنغلق على الذات وكره الآخر وحتى نفيه ,وهذا سنتناوله في حديث منفصل في المستقبل !....
(2- 3)
من البديهي أن النظر إلى العلمانية في سورية يجب أن يكون ذو مرجعية منهجية ما , يتم الإرتكاز عليها لمقارنة معيارية فكرية زمنية للمفهوم مع الواقع السوري الديني والإجتماعي والدولتي ومطابقته مع حالة المجتمع الراهنة , والعلمانية ليست عنواناً جديداً على الحياة السياسية في سورية , ففي بداياتها كانت محاكاة نظرية ونقل حرفي مشوه لتجربة خارجية مرت بها مجتمعات أخرى تختلف بينها عوامل التناقض الدينية والإجتماعية والإقتصادية ,أي يختلف بعدها المتعلق بفلسفة الإنسان والسلطة والإيمان ,ففي حين أنتجتها ظروف زمن الإتحطاط الأوروبي بما يمثل من ظلم وانتهاك لإنسانية الفرد , وضمن إطار دور الكنيسة المعروف ,هذه الحالة لم تعرفها سورية ,والمجتمع السوري لم يعرف الكهنوت الديني ,لكن شهد ممارسات بعيدة عن حقيقة الدين, وتستخدم الدين غطاء لتبرير السيطرة على الناس والإستئثار بالسلطة, وفي إطار المقاربات الحالية لموضوع العلمانية وموقفها الملتبس من الدين بصورة مجتزأة, يبدو أن هدفها التشويش والتعميه وإثارة الشبهات وليس النقد والتوضيح والبيان ,بهذا المنحى لانرى أنه المدخل الصحيح لمقاربة الموضوع , ولن يسمح ذلك باشتقاق رؤية حداثية لواقع منهار فكرياً وروحياً ومادياً وسياسياً وحتى أهلياً , وبعيداً عن أي إسقاط مربك على الواقع ,ففي سورية نظام خليط من أسوأ سيئات الأنظمة المستبدة عبر التاريخ , وعمره مايقرب من نصف قرن ,وهو يحسب نفسه على صف العلمانية بصيغتها العربية ,والبعض والعالم يتعامل معه على هذا الأساس, وأما تحديد شكله فلسفياً وفكرياً نظرياً هذا موضوع آخر, المهم الواقع السوري ماذا يقول ,وماذا يسأل , ومن سيجيب ؟! وعليه يجب مقاربة الموضوع بإطاره الواقعي وليس من منظور ديني فقط , والتوقف عن الإسترسال وراء رغبة مبطنة لتشويه المفهوم, ولانريد أن نقول تطييفه من قبل البعض تجاوزاً للردح والسجال .
على أن المطلوب في المعالجة هو ضرورة الإبتعاد عن العزف على وتر الغرائز,والفصل بين "علمانية" النظام التي هي استبدادية واستئصالية ومتخلفة وفئوية من جهة ,وبين العلمانية الحقيقية التي هي ضد الإستبداد كله ومهما كان مرتكزه ديني أو طائفي أو عرقي أو حتى سياسي من جهة أخرى , هنا بعض الخطل الكبير بربط العلمانية بالنظام الحالي في سورية ,وهو ربط يردح به علمانويون وسلفيون وهم من إفرازات النظام نفسه , وبالتالي إسقاط صفات النظام الكريهة عليها ,وإلحاق فشله الوطني والسياسي والإنساني بها ,وسحب تناقضه مع الدين عليها , ليس هناك أي لونية في بنية المفهوم ,لكن المشكلة هو ببعض من يقاربه ويعرضه على الساحة الوطنية والثقافية بشكل مبتسر, وفي معظم الأحيان بثنائية مصطنعة التناقض وغير صحيحة وغير نزيهة وهي ( العلمانية ضد الإسلام) ,المجتمع السوري بأكثريته مرتبط تكوينياً ومعرفياً على مستوى وعي الفرد وسلوكه وتفكيره بالإسلام ,وعليه لايجوز التجريد لأنه يؤدي إلى الوهم , فهل هناك من فائدة بالزرع في الرمال أو استمرار غربلة المياه ؟!, الواقع في سورية بمحدداته الحالية على تخوم الإنحطاط التاريخي ,وهذا يتطلب التكامل واستخدام كل المخزون الديني والفلسفي والسياسي والثقافي, الفردي والجماعي لفهم تناقضات الواقع الذي تعيشه سورية ,وهي تناقضات مركبة ليست طبيعية على الإطلاق,بل استثنائية في شكلها ولونها وعمقها وتفسخها , وهي ليست صراع حول الدين وفيه , بل بين المجموع والإستبداد , صراع ديني وفكري وسياسي وقانوني وإنساني ,وعليه يجب تحويل الردح إلى ساحة الحوار, والكشف بصدق عن محتوى الواقع الحالي , بدايته التخلي عن النرجسية والفردية ورواسب الديكتاتورية والغرائز التي تعشعش في لاوعي ووعي الكثيرين ,وتمنع رؤية الشمس في وضح نهار الصيف , بخلاف ذلك سنبقى نلف وندور حول قشورالمفاهيم ونرواح في كهوف التخلف , ونبتعد أكثر عن الزمن والعصر , ويستمر الإستبداد والتخلف يستشري سرطاناً في نسيج وعقل المجتمع.
واستطراداً من الواضح أن هناك التباس في الخطاب الحالي ,لايستدعي الكثير من التدقيق لنتبين ماهو المقصود فيه , عن وعي أو عن قصور فالمحصلة واحدة , منه شخصنة مفهوم العلمانية وجعلها ملحقةً بهذا الإسم أوذاك , وهذا تشويه وتقزيم لها ,وقد تكون الصدفة بانحدار هذا أو ذاك من دين معين أو طائفة أو مذهب معين تزيد المفهوم لبساً والطين بله والمجتمع عله , بالضبط هذا هو منحى تذرر العلمانية من مستواها العام الإنساني إلى غطاء أقلاوي ,أي نزع إنسانيتها وإرجاعها إلى علمانية هجينة ,علمانية الإستبداد التي تطال المجتمع كله بمسلميه ومسيحييه ومؤمنيه وملحديه , وربطها بمنشأ النظام الطائفي الكريه , وحصر الواقع زوراً في ثنائية "علمانية الإستبداد وعداء الإسلام" ,أي بالمحصلة القبول بعلمانية النظام الفردي , هنا جوهر المشكلة التي يحوم حولها الكثير بنسب مختلفة من الوضوح والفهم والجهر , يهرب البعض من ذلك خوفاً من العلمانية العاقلة الإنسانية التي تكشف عيوب الجميع , ويحصر الأمر إما بقبول الإستبداد بشكله الحالي في سورية على خلفية أنه يحارب الإرهاب ويحمي الأقليات!, أو بالرجوع إلى الماضي وشحط الحاضر إليه والسير عكس اتجاه التاريخ , وإجراء مقارنة واهية بين مراحل تاريخية متباينة لها محدداتها المختلفة من الوعي والتطور, وهي لايمكن أن تخضع لقانون الأواني المستطرقة ,بحيث مافعله المسلمون من مئات السنين وبظروفهم ,سوف يتكرر الآن بنفس الصورة ونفس المستوى والآليات ,رغم أن الدولة الإسلامية في حالة استقرارها الديني والقانوني والإجتماعي في الماضي ,لم تفعل سوى كل ماهو لمصلحة الإنسان والحضارة ,ولاشك أن هناك ممارسات غير صحيحة حسبت على الإسلام وهي ليست منه في الماضي ,وهي ليست غريبة في مسيرة السلطة والتطور, هنا تنحدر العلمانية إلى تنجيم مافي العقول وقراءة مافي النوايا ,وتتناقض وتدخل الغيبيات في هفوة من اتساق التفكير والتعبير , وتختلط مرة أخرى الأمور بين النظره الحداثية ,وبين مخزون الغريزة المتخلف بمحاولة فرض العقدة والتعقيد وليس الحلحلة والحل , إذ بكل الأحوال ليس من احترام الآخر وحرية الرأي والإعتقاد هو التبرع المجاني للعمل كشرطة تاريخية لاهوتية ,تضع الشمع الأحمر على هذا الدين أوذاك ,على هذا الفكر أو ذاك .وتختمه بالسلفية حتى يدفع ضريبة مفروضة بالقوة والإكراه ,بعضها تغيير الإيمان والعقيدة والثقافة أي نزع الهوية ,وهوالشرط الضروري الذي يضعوه (العلمانويين) لمرورالمجتمع من الماضي إلى الحاضر,وهذا هو بالضبط سلوك النظام في سورية , هنا يأبى العقل الحر الواعي النزيه ,والربط بين المتناقضات وتكبيرها ونشرها على الساحة الثقافية,وليس هذا هو خيار التعايش والتقدم والتحديث .
ففي حركة التاريخ المتجهة إلى الأمام , لايمكن وهمياً إزاحة الزمن والتاريخ ولا الدين إلى الوراء ,الوراء بماهومرحلة من التطور لها مفاعيلها الدينية والدنيوية , زمن مضى وانقضى ولم تعد موجودة عوارضه في الواقع الحالي , بل الخطير فيه هو ترسبه المستقر في مخزون الذاكرة وبالذات الأقلياتي منها , ومع كون شخوصها تعيش زمنياً في الحاضر ,إلا أنها خارج إحداثيات العصر والحداثة والمجتمع , بمعنى الوعي والعلاقة مع الآخر الديني والوطني والقومي والحقوق إنساني ,هنا يظهر التناقض كله بين التسليم بالعلمانية بمافيها من حرية الإعتقاد والرأي والعدالة والمساواة ,بتقزيمها وتقديمها ذو بعداً واحداً , وبفرض خيار واحد على المسلمين( العلمانية أو التخلف ) ولاخيار آخر , هنا تتكثف الأصولية في الوعي والتي تتلخص في نفي غير منهجي لإمكانية النظرة الحداثية في الإسلام بشكل مطلق ,مع أن الواقع لايشهد تجربة سلطة يشارك بها الإسلام سوى في التجربة التركية والماليزية,وهي جديرة بتصحيح الكثير من نظرتنا المتحجرة عن الدين والعلمانية معاً ,إذ مامعنى تفكيك الوعي الإجتماعي وقناعات الناس ,ومعالجة الموضوع على خلفية لافتات فكرية أو سياسية تجزيئية ؟ وبالضغط للتخلي عن معتقداتهم ودينهم وثقافتهم ,هذا هو الشعب السوري بكل حمولته الدينية والأهلية ,ولانعتقد أن الذي تعايش لآلاف السنين وأنتج الأبجدية والحضارة كان بالإكراه , بقدر ماكان بالتكامل والإنسجام الإجتماعي الداخلي على أرضية التعايش المشترك وضمان حقوق الجميع .
وأخيراً , رجوعاً عابراً إلى واقع سورية اليوم,نرى بوضوح شديد أن النظام يمثل الأقلية وهنا نتكلم سياسة ( ومن يصر على فهم غيرذلك فهذا شأنه ), وهذه الأقلية تاريخياً هي سورية ,ولم تأت من الواق الواق, هنا تكمن الكثير من أبعاد المشكلة في سورية بماهي نار تحت الرماد , المشكلة هي في نظام هجين من تلاقح كل مظاهر استبداد السلطة الفاسدة الفئوية ,وأوصل الشعب إلى حالة وهن نفسي ومادي وعقلي وسياسي وإنساني لامست الحضيض ,في مثل هذه الحالة إن الدخول على حامل الأقلية لمعالجة المشكلة ,هو ( طلقة الرحمة ) القاتلة التي توجه إلى وحدة هذا الشعب, في ظروف إقليمية أصبح التفتيت والتقسيم هو شعارها , في حين العالم كله يسير باتجاه التكامل والتوحد , هنا نصل إلى تبيان تهالك هذا النمط من الإيمان بالعلمانية والديموقراطية على حد سواء , إذ كيف يمكن لها أن تتآلف مع تسفيه قناعة الآخر ومعتقداته والحكم النهائي عليها بأنها ضد حركة التاريخ! ,ولايمكن أن تفرز سوى العنف والسيطرة وانتهاك حقوق الأقليات !, لاندري أي " بانوميتر" فكري أشر هذه التصنيفات , التي تمثل ببساطة جناية فكرية وأدبيه وإنسانية بحق الإسلام والمسلمين والمجتمع , لم يقدم لنا التاريخ تجربة حكم أفضل من الإسلام ,عدالةً ومساواةً واحتراماً للآخر ,الإسلام رفد التاريخ البشري بالعلماء والمفكرين والمصلحين وبناة الحضارة ,وتجارب التاريخ واضحة ومليئة بالأمثلة والشواهد,نعتقد أن في حكم المبتدأ والخبر معاً أن الإسلام كرسالة وكنظام سياسي في الدنيا ,قد أقصي عن الفعل منذ مئات السنين , ولانعتقد أن الظواهر الحالية المنحرفة التي تلصق بالإسلام والدين وأخطرها هو العنف والتكفير ,هي مجهولة الصناعة والمنشأ والهدف ,وهي لاتمت إلى حقيقة الإسلام بصلة , بل مجيشه بهذا الشكل الإعلامي الضخم الموجه على مدار الساعة وبشكل مسيء للإسلام والمسلمين ,ولانعتقد أيضاً أن واقع الإسلام والمسلمين هو وردي , لكن هذا الشحن لايخدم المجتمع وتقدمه وتطوره وعلمنته , لأن هذا الإخراج المبرمج هو محفز للكراهية والإنفصال عن الآخر ,وهو ضد البعد الإنساني في الإسلام ,ويتناقض مع البعد الإجتماعي للإنسان السليم نفسه , بل وحتى ضد الجهادية الإسلامية الدنيوية التي تسعى لبناء حياة حرة عادلة اجتماعية خالية من العبودية والتمييز ,وتحافظ على الكرامة الإنسانية لبني البشر بغض النظر عن العقيدة واللون والعرق ,هنا يبدو التناقض الظاهر والمبطن في الفهم والمفاهيم والغايات ,والتي تصر بشكل مقلق على خربطة أولويات الشعب, وهي الخلاص من الإستبداد وإعادة الشعب إلى الحياة والعصر ,وهذا ليس مدخله التفتيت وإلغاء خصوصية الشعوب والإصرار على تجريدها من هويتها ( التي لم تعد تعني شيئاً للبعض ) وتغريبها نفسياً وفكرياً وسياسياً....!.
في ظل هذا الوضع الذي بات الإنحطاط بعض ملامحه , والشعب السوري بماهو فيه الآن من حالة مخيفة ,أوصله لها النظام والظروف الإقليمية وترهل قوى التغيير والتحديث , بصراحة ...الكل مرتبك وخائف ........., فماهو الحل ؟!.. الكل معني بالإجابة الصريحة , وبعض الإجابة كما نعتقد لا تكون " بالخروج من الدين , أو إخراج الدين من الحياة " , بل محاولة الخروج من العبودية والجاهلية الجديدة , والإصرار على الدخول إلى ساحة مفاهيم الحرية والعدل والمساواة واحترام الآخر ,.......
يتبع