عهد عمر بن الخطاب

كان عهد اختلال وتخلف اقتصادي؟؟!!

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

ما أكثر الذين يبحثون ـ بل يدوخون في البحث ـ عن الشهرة، ولكنهم قد لا يوفقون في الوصول إليها. وأنا أقول لكل من يحرص على الشهرة، ويتعجل ثمارها: ما عليك إلا أن تشحذ قلمك، وتقصد واحدة من الصحف "التنويرية" وتقدم إليها مقالاً يحمل هجومًا ضاريًّا على الإسلام وقيمه وقواعده، أو إنكارًا للسنة النبوية، أو تجريحًا لشخصيات الصحابة.

وحتى تصدقني ـ يا طالب الشهرة ـ تعال معي وانظر إلى حاضرنا، وماضينا القريب لترى أن ذلك القاضي الشرعي المغمور ما كان أحد ليسمع به، أو عنه لولا كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، ولنرى أن "سيادة المستشار" ما اشتهر، ودعته أكاديميات صليبية وصهيونية في أمريكا وأوروبا لإلقاء محاضرات في الإسلام، إلا بعد أن أصدر من الكتب ما جرد فيها الإسلام من قيمه السياسية، والاجتماعية، وهاجم الخلافة الراشدة، واعتبر حروب الردة ـ التي سماها حروب الصدقة ـ عدوانًا صارخًا ضد الخلق والإنسانية.

واذكر ـ في هذا السياق ـ السيدة العميدة التي ما خطر اسمها على عقل، أو خيال إلا بعد أن هاجمت البخارى، وأنكرت صراحة ـ في سذاجة غريبة ـ حد رجم الزاني المحصن دون الاستناد إلى دليل شرعي أو منطقي، وهو الحد الذي لم ينكره إلا فرقة من أوباش الخوارج ورعاعهم.

عمر في نظر النبي صلى الله عليه وسلم

وبين يدي مقالي هذا عرض شهادة الصادق المصدوق محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقد روي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال عن عمر "لم أر عبقريًا يفري فرية" أي لم أر جلاً كعمر في حسم الأمور والقطع فيها. كما روي عنه أنه قال: "في كل أمة محدثون (أي ملهمون) فإن كان في أمتى أحد فهو عمر".

وباعتراف أضرى الغربيين عداوة للعرب والإسلام عاشت الدولة الإسلامية في عهد عمر أزهى عصور الغنى، والعدل، والاستقرار والأمان.

وفي مجالات السياسة، والاقتصاد، والتعمير سجل له المؤرخون أربعين "أولية" لم يسبقه إليها أحد. ومع ذلك عاش مؤسس اقوى الدول وأزهاها زاهدًا عابدًا قانتًا، خشن الملبس والطعام، ومات وهو مدين لبيت المال بآلاف من الدراهم سددها عنه أقاربه وبنوه عملاً بوصيته. وقال بعض الغربيين ممن كتبوا عن عمر: إنه حقق للدولة الإسلامية في عشر سنوات ما لم تحققه الدولة الرومانية في ألف سنة.

المغالطة الكبرى

وكل هذه الحقائق يرفضها واحد من أدعياء التنوير، الذي استمرأ في كتاباته الاجتراء غير الموضوعي على الحق، والجور الصارخ على الواقع التاريخي، والتأويلات والتخريجات التي تصطدم بالمنطق العقلي والمنطق الديني، ولا يتسع المقام لتفنيد كل ما "أفرزه" من آراء معطوبة؛ فذلك يحتاج إلى كتاب مستقل، ولكني أناقش قضية واحدة أثارها في مقال من مقالاته:

يقول الكاتب "التنويري" بالحرف الواحد "لقد قال عمر بن الخطاب جملة، وهو على فراش الموت بعد طعنه فحواها: أنه لو امتد به العمر لأخذ من فضول مال الأغنياء، وأعطاها الفقراء . وهذا يؤكد أنه أحس باختلال الميزان الاقتصادي، وزيادة الفجوة بين الفقراء والأغنياء.. واعتقد عمر أن مقتله يرجع إلى هذا السبب، ويرجع إلى هذا الاختلال التنظيمي الإداري الذي وضعه عمر نفسه من أجل توزيع أعطيات (مرتبات) الجند حيث قسمهم إلى درجات حسب الأسبقية في الإسلام ...".

والكاتب التنويري جدًّا ـ بما ذكره آنفًا ـ يريد أن يؤكد أمورا ظنية أربعة خلاصتها:

1 ـ أن النظام الاقتصادي والإداري في عهد عمر بن الخطاب كان نظامًا عاجزًا مختلاً.

2 ـ أن عمرً أدرك ـ بعد فوات الأوان ـ فساد هذا النظام، وأنه لو امتد به الأجل لقلبه رأسًا على عقب، بتذويب الفوارق بين الطبقات، وإعادة توزيع الثروة.

3 ـ أن مقتل عمر بن الخطاب يرجع إلى سوء سياسته الاقتصادية، واختلال الميزان الاقتصادي.

4 ـ أن عمر ـ بعد طعنه ـ أدرك أن مقتله يرجع إلى السبب السابق.

المادية التاريخية...

وواضح أن الكاتب ـ من الناحية المنهجية ـ يقف من التاريخ الإسلامي ويفسره بالطريقة الماركسية.. "طريقة التفسير المادي للتاريخ" التي عرضها ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي (المانفستو) سنة 1848م، وقد فصل ماركس ملامح هذا المنهج بعد ذلك بعشرين عامًا في كتابه (رأس المال).

وهذا التفسير المادي للتاريخ يعتمد على إرجاع الظواهر، والمواقف، والتطورات الإنسانية، والانتصارات، والانكسارات، ونشوء الحضارات والديانات، وانتشارها، أو انحسارها إلى عوامل مادية اقتصادية.

: بين سياستين

والتاريخ ينقل لنا أن سياسة أبي بكر كانت تقوم على التسوية المطلقة في توزيع العطاء، معتمدًا في ذلك على فكرة مؤداها أن العطاء (المرتب) للبلاغ أي المعاش، وإشباع الحاجات المادية من طعام، وشراب، ولباس، وهو أمر يستوي فيه الناس جميعًا، أما التفريق في الحساب على أساس البلاء، ومدى السبق إلى الإسلام فمرجعه إلى الله يوم القيامة. وهي ـ ولا شك ـ سياسة لها وجاهتها وتبريرها المعقول المقبول.

فلما جاء عمر واتسعت الفتوح، وزادت موارد الدولة، وضع نظامًا للعطاء، خالف فيه منهج أبي بكر، ومن أهم خطوط هذا النظام: التفريق في قدر العطاء على أساس السبق في الدين، وحسن البلاء، والجهاد، والتضحية: فعطاء المهاجرين الذين ضحوا بأموالهم وأرضهم وبيوتهم يفوق عطاء الذين أسلموا في فتح مكة في العام الثامن للهجرة. أما المجاهدون في جبهات القتال ـ فزيادة على هذا العطاء الدوري الثابت ـ فقد كان لهم دخل آخر يتمثل في الغنائم بعد إخراج نصيب بيت المال منها وهو الخمس.

ولست أدري وجه الخلل في هذه السياسة، وفي عصرنا يعتمد نظام المرتبات والترقيات على أسس لا تبعد عما فعله عمر ـ في شكلها العام ـ منها: الأقدمية المطلقة، والخبرة، والترقية بالاختيار لذوي "المواهب الخاصة". وقد نجح النظام العمري في خلق الحوافز في نفوس الناس، فعاشوا يتنافسون في العمل والجهاد، وصدق الولاء للدين والدولة.

كما أن في هذا النظام نوعًا من التعويض لكبار الصحابة، وآل البيت الذين منعهم عمر من الخروج إلى الأمصار فحرموا بذلك غنائم الفتوح.

ومن أوليات عمر التي لا سابقة لها في التاريخ الإنساني كله أنه فرض عطاء لكل مولود في المجتمع الإسلامي من أول يوم يفطم فيه، ثم جعل العطاء من أول يوم يولد فيه الطفل، ولم يجعل هذا العطاء "جامدًا" بل جعل العطاء ينمو بنمو صاحبه، وكان من أثر هذه السياسة شعور الناس بالاستقرار. والأمان حتى في الأمصار التي مزقت جلود أهلها من قبل بسياط الفرس والرومان. وقد سأل عمر أحد المسلمين العائدين من هذه الأمصار ـ دون أن يعرف أنه عمر "كيف تركت الناس في بلدك؟" فأجاب الرجل: تركت البلاد الظالم بها مقهور، والمظلوم منصور، والغني موفور، والفقير مجبور".

أما حال العالم الأوروبي في عهد عمر فيلخصه "ج. هـ. دينسون" بقوله: "كانت أوروبا على شفا جرفٍ هارٍ من الفوضى، فقد انهارت العقائد، ولم يعد هناك مكان للقانون، أو العدل أو النظام.

عمر.. وتعديل المسار الاقتصادي...

قال عمر "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتها على الفقراء". ويلتقط "التنويري جدًّا" هذه المقولة ليجزم بأن عمر اكتشف فساد سياسته المالية، وأنه لو امتد به الأجل لسوى بين المسلمين في العطاء، ولذوب الفوارق بين الطبقات، بل لصادر ما زاد على حد الحاجة، وربما اتبع قاعدة "من كل بقدر طاقته، ولكل بقدر حاجته".

وقد جاء كذلك في وصية عمر لمن يتولى الخلافة من بعده "أوصيك أن تأخذ من حواشي أموال أغنيائهم فتردها على فقرائهم". والفضول هي الحواشي، وهي ما زاد على الأصل.

وأمام هاتين المقولتين العمريتين ـ وهما تلتقيان في الفكرة الأساسية ـ علينا أن نلاحظ أمرين:

1 ـ أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يقصد كل الفضول بل بعضها، يدل على ذلك استعماله "مِنْ" التبعيضية في المقولة الثانية، وقد وردت تاريخيًا بعد المقولة الأولى التي ذهب بعض المؤرخين إلى أن عمر قالها بعد عام الرمادة (سنة 18 هـ) دون تحديد. بينما قال الثانية وهو يحتضر سنة 23 هـ.

2 ـ أن عمر لم يوضح المقصود بالمقولتين تفصيلاً، أي لم يبين حدود "الأصول" التي لا تمس وحدود "الحواشي" أو الفضول التي يجوز للحاكم تحصيلها من الأغنياء، يقول الأستاذ العقاد ـ رحمه الله "يسوغ لنا أن نفهم معنى ما انتواه عمر، وهو تحصيل بعض الضرائب من الثروات الزائدة، وتقسيمها في وجوه البر والإصلاح".

ونحن نوافق العقاد فيما ذهب إليه، ونرى أن عمر ربما قصد بقوله تحقيق ما يشبه نظام "الضرائب التصاعدية" في وقتنا الحاضر.

وأخيرًا.. مقتل عمر..

هل قتل عمر نتيجة لسياسته الاقتصادية المختلة، ونظامه الإداري الفاسد ـ كما ذهب الكاتب "التنويري جدًّا"؟ وهل أدرك عمر أن مقتله يرجع إلى هذا السبب؟ إن واقع الفاجعة ينقض ما ذهب إليه الكاتب، وقد حققها كثير من المؤرخين قديمًا وحديثًا. وتمحيص الواقعة يقطع بأنها كانت مؤامرة محبوكة الأطراف والخيوط، وأن أبا لؤلؤة المجوسي ما كان إلا اليد المنفذة. أما "أبطال" المؤامرة الحقيقيون فهم: جفينة النصراني الحيري، والهرمزان القائد الفارسي الذي أسره المسلمون وأحضروه إلى المدينة، وتظاهر بالإسلام. وكعب الأحبار اليهودي.

وهناك أدلة تقطع بهذا التآمر من أقواها أن عبد الرحمن بن أبي بكر رأى الثلاثة يتناجون سرًا قبل مقتل عمر بيوم واحد، فلما رأوه اضطربوا، ونهضوا فسقط منهم خنجر ذو نصلين يمسك من وسطه، وهو طراز من الخناجر الفارسية، لم يكن معروفًا عند العرب، وعرض الخنجر على عبد الرحمن بعد طعن عمر، فجزم بأنه نفس الخنجر الذي رآه مع المتآمرين قبل وقوع الجريمة بيوم واحد.

وكان وراء كل طرف من أطراف هذه المؤامرة الرباعية أحقاد وبواعث دينية وسياسية وقومية لا علاقة لها بالخلل الاقتصادي المزعوم.

وكيف اطلع الكاتب "التنويري جدًّا" على السرائر والخفايا حتى يزعم "أن عمر اعتقد أن مقتله يرجع إلى الاختلال الاقتصادي في سياسته"؟؟!! إن هذا التصوير الغالط المغالط يعطي انطباعًا، بأن عمر كان مكروهًا من الناس، ظالمًا لهم، وهو الذي حمد الله، وأثنى عليه حين علم أن الذي قتله مجوسي "لم يسجد لله قط" وقال وهو يحتضر "ما كانت العرب لتقتلني" . وجاء في تاريخ ابن عساكر: أن عبد الله بن عمر قال: "لما طعن أبي خشي أن يكون له ذنب إلى الناس، لا يعلمه، فطلب من عبد الله بن عباس أن يخرج ليعرف رأي الناس فيما حدث، فخرج وعاد وهو يقول: "يا أمير المؤمنين ما أتيت على ملأ من المسلمين إلا ويبكون، فكأنما فقدوا اليوم أبناءهم".

وأخيرًا أتساءل: هل يمكن لدولة "مختلة الاقتصاد" عليها حاكم "فاسد السياسة" أن تحقق أعظم انتصارات التاريخ على "القوتين العظميين" فارس والروم، وأن تدكهما دكًا إلى الأبد؟

وهل يستطيع هذا الحاكم البدوي أن يحقق ما حقق من إنجازات داخلية وخارجية إلا وهو يملك رصيدًا نفسيًا ضخمًا من العبقرية، والإلهام، وبعد النظر، وغنى النفسي بالإيمان والتقوى؟