أي لبنان نريد؟

الدكتور فيليب سالم

أي لبنان نريد؟

الدكتور فيليب سالم

"هذا بلد صغير جداً بمساحته، ولكنه كبير جداً بأهميته"

 ميترنيخ

لم يحظ لبنان في السنوات الألف الماضية من تاريخه باهتمام العالم كما هو يحظى بهذا الاهتمام اليوم. ولسنا سذجاً لنعتقد أن هذا بسبب محبة العالم له؛ لكننا نعتقد ان ذلك يعود إلى معرفة العالم كم مهم دور هذا البلد الصغير في هذه المنطقة من العالم؛ ومعرفة العالم أيضا ان هذا البلد الصغير قد أصبح أسيراً لثقافة العنف في هذا الشرق. هذه الثقافة التي لا تهدد حضارة الشرق فحسب بل حضارة العالم كله. فبالإضافة إلى كونه ساحة للصراع بين العرب وإسرائيل، لقد أصبح لبنان ايضاً ساحة للصراع بين المجتمع الدولي من جهة، والإرهاب الدولي من جهة أخرى. وكذلك أصبح ساحة للصراع بين الغرب من جهة، والجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة أخرى. لقد كان لبنان رهينة للصراع الدائر في الشرق فقط، لكنه اليوم أصبح رهينة للعبة الأمم كلها. كذلك كان هذا الوطن رمز الانصهار المسيحي_الاسلامي ورمز الحوار بين حضارات الشرق وحضارات الغرب، فأصبحت هذه الرموز كلها اليوم في قلب العاصفة. كما ان لبنان كدولة وككيان حضاري هو أيضا في قلب العاصفة.

وبسبب ضخامة مأساته وجذورها الدولية والإقليمية، يحتاج لبنان من دون شك إلى مساعدة العالم للخروج من أزمته الكيانية التي تهدد وجوده. لكننا نسأل : وماذا لو جاء العالم كله لمساعدتنا ونحن لا نعرف ماذا نريد! فكيف يمكن لهذا العالم أن يساعدنا؟ وإذا كنا لا نعرف ماذا نريد فعلى ماذا نتحاور مع بعضنا البعض؟ وعلى ماذا نتفاوض ونتكلم مع العالم؟ يخطئ من يظن أننا سنتمكن من الخروج من الأزمة بتأليف " حكومة وحدة وطنية"، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. فلربما يقودنا هذا إلى هدنة قصيرة، لكنه لن يخرجنا من النفق المظلم الذي نحن فيه. نخرج من هذا النفق فقط عندما نتفق نحن كلبنانيين، ونكون صادقين في اتفاقنا، على أي لبنان نريد. الاتفاق الذي نتكلم عنه ليس اتفاقاً بين " الزعماء" و "الأمراء" الذين همهم ان يتقاسموا المغانم والمنافع على حساب الوطن؛ بل هو اتفاق في العمق على هوية لبنان. ولا نذيع سراً إذا قلنا إن الحرب كانت ولا تزال بسبب فشل القيادات السياسية والمدنية على بلورة رؤية جديدة للبنان؛ بل كانت ولا تزال بسبب عدم وجود قيادات سياسية ومدنية بالمعنى الحقيقي. كانت الحرب لأنه لم تكن هناك قيادات. كان الشعب دائماً شعباً عظيماً، إلا أن قياداته كانت دائماً قيادات هزيلة. نصف قرن من الحروب والدمار. نصف قرن من العذاب والآلام. نصف قرن واللبناني مشرد في أرضه ومشرد في جميع بقاع الأرض. ألم يحن الوقت أن نجرؤ ونجيب على السؤال، أي لبنان نريد؟

من هنا جئنا اليوم لنتقدم إلى اللبنانيين مقيمين ومنتشرين بالجواب على هذا السؤال. ولا ندعي ان جوابنا هذا، هو الجواب النهائي لتحديد هوية لبنان، لكننا نطرحه كورقة عمل للحوار في هذا الموضوع مع احترامنا لقدسية حق الاختلاف واحترامنا الأكبر للذين يختلفون معنا.

 وبما ان لبنان هو كيان حضاري أكثر مما هو كيان سياسي سنحاول الإجابة على السؤال في شقيه: السياسي والحضاري.

في الشق السياسي

1.  " إن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه". هذا أهم ما جاء في الطائف. فبالرغم من أننا نؤمن بأن الحل في لبنان لن يكون إلا من خلال الشرعية الدولية وليس من خلال الطائف، إلا أننا نعترف، بان الطائف كان محطة مفصلية في تاريخ لبنان الحديث، إذ انه أوقف الحرب يوم ذاك، وأقر للمرة الأولى بنهائية الوطن اللبناني. في الطائف اتفقنا على أن لبنان كيان نهائي كامل بذاته. فهو ليس كياناً في مرحلة نمو يكتمل فيما بعد. وهو ليس قُطراً عربياً من أقطار عربية أخرى تؤلف بمجموعها اليوم أو غداً "الأمة العربية" أو "الأمة الإسلامية". وهو ليس قسما من سوريا الصغرى أو سوريا الكبرى . انه أمة نهائية متكاملة تؤلف مع الأمم العربية الأخرى ما يسمى بالعالم العربي.

2.  يجب أن نرفض الكلام انه "بلد ذو وجه عربي" ونتفق نهائيا على انه بلد عربي من رأسه إلى أخمص قدميه. لقد قلنا في الماضي ونردد اليوم: أن يكون لبنان عربياً، فألف نعم؛ ولكن أن يذوب في العالم العربي، فألف لا. لذلك نُصر أن يبقى سيداً حراً مستقلا مثله مثل أي بلد عربي آخر، يتعامل مع الدول العربية الأخرى من خلال ميثاق جامعة الدول العربية، ومن خلال مبدأ السيادة والاحترام المتبادلين. لقد آن الأوان أن نجهر بالحقيقة وأن نرفض أن يكون لبنان كما كان، "ممسحة للعرب". لقد أراد العرب للبنان ما لم يريدونه لأنفسهم، ففرض على لبنان ان يستضيف اكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين بالرغم من مساحته الصغيرة؛ بينما دول عربية أخرى اكبر منه بكثير لم تستضف فلسطينياً واحداً. وكذلك فُرض عليه أن يحارب وحده دون سواه إسرائيل. فهنا قامت المقاومة الفلسطينية، وهنا تقوم اليوم المقاومة الإسلامية. فأية مقاومة تقوم في أية دولة عربية أخرى؟ لقد حان الوقت أن يرفض لبنان استعمال العرب لأرضه كساحة للصراع في ما بينهم أو بينهم وبين إسرائيل. ونسارع لنقول اننا لا ندعو هنا إلى حياد لبنان في الصراع بين العرب وإسرائيل بل ندعو إلى ان يلتزم لبنان في هذا الصراع ما يلتزم به جميع العرب، وان لا يكون هذا الصراع كله على حسابه.

3.  العلاقة مع سوريا. إن أزمة لبنان الكيانية تكمن في جغرافيته. فسوريا تحده من الشمال والشرق وتعتبره قسماً سلخ منها وتريد استرجاعه. ومن الجنوب تحده إسرائيل وهي دولة عنصرية لا تريد قيامته لأنه يمثل نموذجاً حضارياً مغايراً لها. إلا أن الفرق بين سوريا وإسرائيل بالنسبة إلينا شاسع جداً. فإسرائيل دولة عدوة ذات حضارة غير حضارتنا. دولة زُرعت في هذا الشرق بإرادة غير إرادتنا. أما سوريا، فهي دولة عربية صديقة تجمعنا بها وبشعبها صلات المحبة والقربى والتاريخ. كما تجمعنا بها وبشعبها آلام هذا الشرق الحزين. من هنا نحن نصر على أن نبني معها ومع شعبها أفضل العلاقات والروابط الإنسانية، ونرفض بكل قوة مبدأ العداء لها. ولكنه في الوقت عينه نحن نرفض بالقوة ذاتها الهيمنة السورية على لبنان، ونرفض القبضة السورية على القرار السياسي اللبناني الحر. فكما اعترف الطائف بنهائية الوطن اللبناني، لقد حان الوقت أن تعترف سوريا بهذه النهائية وبسيادة لبنان واستقلاله ، وان تتعامل معه من هذا المنطلق.

4.  العلاقة مع إسرائيل. إن إسرائيل لا تزال دولة عدوة وعلاقتنا بها اليوم منوطة بقرارات مجلس الأمن ومنها القرار 1701 . والأهم من هذا القرار التاريخي، قرار تاريخي آخر وهو ان يتفق اللبنانيون على ان قرار السلم والحرب مع اسرائيل هو مسؤولية الدولة اللبنانية وحدها. نحن نرفض الالتباس في هوية من يحق له قرار الحرب والسلم في لبنان. هذا الحق منوط فقط بالشعب اللبناني وبالدولة اللبنانية. كفى استعمال لبنان كمنطلق للعمليات الحربية ضد اسرائيل خدمة لأهداف إستراتيجية لدول غير الدولة اللبنانية. وهنا أود أن اذكر اللبنانيين والعرب جميعاً بان إسرائيل لم تشن حرباً على لبنان نتيجة لعمل عسكري قام به الجيش اللبناني. كانت حروبها كلها على لبنان نتيجة لعمليات حربية قام بها مسلحون ينتمون إلى ميليشيات خارج الشرعية اللبنانية. واحد منا يجب ان يجرؤ على الكلام ويقول بان هذه الميليشيات كلها دون استثناء لم تكن يوما واحداً درعاً واقياً ضد عدوان اسرائيلي علينا، بل كانت دائما سبباً لهذا العدوان.

5.   في مفهوم الدولة والسيادة. كان مفهوم السيادة في عهد الهيمنة السورية يرتكز على الدعائم التالية: الجيش اللبناني، المقاومة الإسلامية، وسوريا. وكنا يومها ولا نزال اليوم نقول أن مفهومنا للسيادة يختلف جذريا. فالسيادة بالنسبة إلينا ترتكز على الأسس الآتية: الدولة اللبنانية، الجيش اللبناني، الشعب اللبناني. نحن نأمل اليوم ان يكون اللبنانيون قد تعلموا من آلامهم ومن تجربتهم في الحروب التي دمرت بلدهم. نأمل أن يكونوا قد تعلموا انه ليس هناك وطن من دون دولة قوية، وأنه ليست هناك دولة قوية بوجود دويلات فيها. وإن لم نتعلم شيئاً من الحرب، فنرجو أن نكون قد تعلمنا شيئاً واحداً وهو ان الدويلة لا تقود إلى الدولة. وإذا لم نتفق نحن على رفض مبدأ الدويلات فلن يكون هناك دولة ولن يكون هناك لبنان. ونقول أكثر من ذلك إن كل من يؤمن بمبدأ الدويلة فهو يرفض مبدأ لبنان الدولة ولبنان الوطن. وكنا قد رددنا مراراً ان المطلوب اليوم ليس فقط الاتفاق على نزع سلاح هذه الدويلات، بل الاتفاق على ما هو أهم بكثير من ذلك، وهو نزع الجذور الإستراتيجية والأيدلوجية والسياسية التي تربط هذه الدويلات بدول أخرى غير الدولة اللبنانية.

6.  في مفهوم الولاء والوطنية. وإذا كان هناك من عنوان للحروب اللبنانية كلها فهذا العنوان هو عدم الولاء للبنان. سئل كونفوشيوس مرة لو جئت حاكما للصين فما هو أول عمل تقوم به؟ فأجاب، أبدأ بتحديد الكلمات. ونحن في لبنان يجب أن نبدأ بتحديد كلمتين: الولاء والوطنية. فالولاء يجب ان يكون للبنان أولا وثانيا وثالثاً؛ بل أقول أكثر من ذلك، يجب أن يكون الولاء للبنان وحده. قد يدعم اللبناني دولا أخرى أو يتعاطف معها إلا أن ولاءه يجب أن يبقى أولا وأخرا للبنان. وكلمة الوطنية ماذا تعني؟ في الخمسين سنة الماضية اغتصبت الوطنية في لبنان وأفرغت من معناها. فالوطنية كانت ولا تزال تعني العداء لإسرائيل، بدل أن تعني الالتزام بلبنان. كان اللبناني يعتبر وطنياً إذا كان معادياً لإسرائيل بغض النظر عن ولائه للبنان. ونحن نرى في هذا المفهوم الخاطئ للوطنية جريمة في حق لبنان؛ إذ قامت في لبنان حركات كثيرة كانت تدعي الوطنية إلا انها كانت ابعد ما تكون عن الوطنية وابعد ما تكون عن لبنان.

7.   فصل الدين عن الدولة. مخطئ من يظن إن الحرب في لبنان كانت قد وقعت لو لم يكن النظام السياسي اللبناني مبنيا على مبدأ الدويلات الطائفية. إن هذه الدويلات كانت ولا تزال من أهم الأسباب التي أعاقت قيام الدولة القوية الحديثة في لبنان. وعدم قيام الدولة القوية الحديثة هذا أدى في النتيجة إلى قيام دويلات مسلحة خارج الدولة اللبنانية. لذلك قامت المقاومة الفلسطينية وقامت دويلاتها. ونحن نقول اليوم انه لو قامت الدولة القوية الحديثة لما قامت دويلة المقاومة الإسلامية. وعندما نتكلم عن الدويلات ضمن الدولة فنحن لا نتكلم فقط عن الدويلات المسلحة بل نتكلم أيضا عن الدويلات الطائفية التي هي أعمق جذورا وأكثر خطراً على المدى البعيد من الدويلات المسلحة. وإذا أردنا بالفعل قيام الدولة الحديثة، فيجب ان نبدأ بعملية فصل الدين عن الدولة. قد تأخذ هذه العملية وقتا طويلا، إلا ان هذا لا يعني ألا نبدأ غداً.

أن أمراء الطوائف وأمراء الحرب هم الذين أوصلوا لبنان إلى الحضيض الذي هو فيه. ونود أن نسأل أو ليس من المعيب اليوم أن نرى هؤلاء الأمراء أنفسهم يدعون العمل على قيامته. وهل نحن في حال هذيان إذ نرى معظم هؤلاء الذين عرقلوا قيام الدولة قي لبنان منذ الاستقلال يريدون قيام الدولة اليوم؟

ولربما تغفر لهم السماء، الا ان الأرض لن تغفر لهم ابداً.

 هذا هو جوابنا على السؤال أي لبنان نريد بشقه السياسي. غداً نتقدم بالجواب على السؤال بشقه الحضاري.

أي لبنان نريد؟

في الشق الحضاري

لقد حاولنا في مقال البارحة أن نحدد الهوية السياسية للبنان الذي نريد، وسنحاول اليوم تحديد الهوية الحضارية لهذا اللبنان. وقد يجهل البعض انه عندما يتكلم العالم عن لبنان فهو يتكلم عادة عن دوره الحضاري، الذي يتعدى بكثير دوره السياسي. ذلك أن لبنان هو البلد الوحيد في المشرق العربي الذي هو "أكثر من وطن فهو رسالة" . ورسالته هذه أهم ما لديه وهي ما يجعله يختلف عن باقي الدول في هذه المنطقة. تكمن هذه الرسالة في قدرة إنسانه على الارتفاع إلى ما فوق الدين، إلى الإنسانية؛ وتاليا على تحقيق معجزة الانصهار المسيحي الإسلامي. كما تكمن هذه الرسالة في عشق إنسانه للحرية، وفي اعتناقه ثقافة المعرفة ورفضه ثقافة التطرف الديني والتصلب الايدولوجي. من هنا نشأت في هذا البلد الصغير ثقافة العلم والانفتاح والاعتدال، ونشأت ثقافة التعددية الحضارية. والمطلوب اليوم من لبنان الحضاري الذي نريد، لا ان يصر على الحفاظ على رسالته فحسب بل أن يرتفع بهذه الرسالة إلى أعلى. وكيف يكون ذلك؟

1. تعميق الانصهار المسيحي الاسلامي. ان اللبنانيين من جميع المذاهب والطوائف يعيشون الانصهار المسيحي الإسلامي بكل أعماقه ويفخرون بهذه المعجزة التي حققوها. نصف قرن من الحروب ولم تتمكن هذه الحروب من فسخ المسيحية عن الإسلام في لبنان. فاللبنانيون يعرفون جيداً أن ما يحصل من تفسخ سطحي بين المسلمين والمسيحيين من وقت إلى آخر، ليس إلا نتيجة للصراع بين السياسيين انفسهم وللصراع بين رجال الطوائف. فالسياسيون يتكلمون عن "التعايش" لأنهم لا يريدون الانصهار، ورجال الدين يتكلمون عن "العيش المشترك" لأنهم لا يريدون العيش الواحد. كلهم يريدون الحفاظ على مصالحهم الفئوية والطائفية على حساب الدولة والمواطن. وإذا كنا ضد الدويلة المسلحة فنحن ضد الدويلة الطائفية أكثر. إذ ان دويلات الطوائف كانت أكثر ضرراً في تاريخ لبنان الحديث من الدويلات المسلحة.

من هنا نقول انه لا يمكن تعميق الإنصهار المسيحي الاسلامي من دون فصل الدين عن الدولة. ونقول أكثر: ان الفصل بين الدين والدولة ليس ضرورياً فقط لقيام الدولة ولتعميق الانصهار المسيحي الإسلامي فحسب، ولكنه ضروري ايضاً لصنع مواطن جديد يكون ولاؤه للوطن لا للطائفة. وهو ضروري لدعم دور الدين في صنع إنسان أكثر روحانية ونبلا وأخلاقا.

ويجب أن يكون معلوماً لدى جميع اللبنانيين إن العالم كله ينظر إليهم بإعجاب لنجاحهم في تجربة انصهار المسيحية والإسلام؛ وانه إذا انقسم لبنان يوما دولتين، دولة مسيحية ودولة إسلامية، تنتهي أسطورة لبنان، وتنتهي الرسالة.

2.  الإيمان بثقافة المعرفة ورفض ثقافة التطرف الديني وثقافة العنف. هناك ثقافتان تتصارعان اليوم في العالم. الأولى تؤمن بقدرة العقل البشري، وتحترم المعرفة والحضارة اللتين يصنعها هذا العقل. والثانية تؤمن بان المعرفة ليست نتاجاً انسانياً مهماً ؛ بل ان المعرفة كل المعرفة موجودة ومعلبة و"حاضرة" حسب تفسيرات رجال الدين للكتب الدينية ، وحسب فتاويهم. ان ظاهرة العنف الناتج عن ثقافة الدوغما والتطرف الديني ليست ظاهرة جديدة وهي ليست حكراً على بعض المسلمين، إذ ان أوروبا في القرون الوسطى عانت الكثير من هذا العنف ومن تطرف وتسلط الكنيسة المسيحية. إلا ان أوروبا تخطت هذه المعضلة بالثورة الإصلاحية الدينية وما يسمى ال reformation وتاليا جاءت النهضة العلمية والفنية التي تلت هذه الثورة. وهذا بالضبط ما هو المطلوب الآن في الشرق. ولبنان اليوم هو في الواجهة في هذا النزاع بين الثقافتين. ثقافة العقل والمعرفة، وثقافة التمرد على العقل والمعرفة . ان لبنان الذي نريد هو لبنان المؤمن بثقافة العقل والإبداع، والرافض لجميع الايدولوجيات الدينية المتطرفة التي تأخذ من أفغانستان وباكستان وإيران وبعض الدول العربية معاقلا لها. وهنا أود أن أشدد على انه ليس هناك من تضارب على الإطلاق بين ثقافة العقل والمعرفة من جهة وثقافة الدين الحقيقي من جهة اخرى. فالانسان كلما تعمق في المعرفة اقترب من جوهر الدين واقترب من الله. ويجب ان يكون معلوما ان الدين هو براء من هذه الايدولوجيات المتصلبة، بل هو المتضرر الأكبر من هذا الإرهاب الفكري والجسدي الذي يمارسه بعضهم باسمه. وكنا قد رددنا مراراً ان الضرر الأكبر الذي نتج من جراء هذا الإرهاب ليس الضرر الذي أصاب الغرب والمسيحيين، بل هو الضرر الذي أصاب المسلمين وأصاب الإسلام كدين عظيم.

ولبنان الجديد يحتاج إلى إنسان جديد. من هنا أهمية التربية في صنع هذا الانسان الجديد. فالتربية هي المدخل لثقافة العقل والمعرفة، وهي المدخل لنبذ ثقافة العنف والدوغما. ولكي تنمو ثقافة المعرفة وتترسخ يجب أيضا فصل الدين عن التربية. هذا الفصل ضروري لإزالة جميع العوائق ضد حرية الفكر والإبداع.

3.  ثقافة الحرية. وهنا لن نتطرق اليوم إلى أهمية الحرية كمدخل لثقافة المعرفة وكمدخل للتغيير الذي نريده في التربية. ولن نتطرق إلى الحرية كمعنى للبنان. لقد قيل الكثير في الحرية ودورها في تحديد هوية لبنان الحضارية. ولكننا نريد أن نقول أن الحرية هي ثقافة نعيشها . فلا يكفي ان نؤمن بها بل الأهم كيف نمارسها؛ ولا يكفي ان نحصل عليها بل الأهم ماذا نعمل بها. وإذا سألنا، لماذا تتزعم الولايات المتحدة الأميركية اليوم العالم وعمرها لا يناهز المئتين وثلاثين سنة وهناك دول كثيرة تمتد جذورها في التاريخ إلى آلاف السنين. كيف تمكنت أميركا من الوصول إلى هنا وجذورها في التاريخ لا تزال يانعة؟ الجواب بسيط، انها الحرية. انها حرية الفرد. وقد يكون السبب الثاني ان أميركا لم تعط التاريخ اهمية بقدر ما أعطت أهمية للمستقبل. من هنا أود أن أقول للبنانيين انه ليس مهما من أين أتينا، بقدر ما هو مهم إلى أين نحن ذاهبون. وليس مهما ما هو تاريخنا بقدر ما هو مهم، ما هو مستقبلنا. إن لبنان الذي نريد هو ذلك اللبنان الذي يقدس حرية الفكر وحرية المعتقد. فنحن نرفض أية ايدولوجية سياسية أو دينية تحد من حرية العقل، ولا نريد أن يأتي يوم يخاف فيه أستاذ في جامعة من ان يدرّس افلطون او أرسطو، او ان ياتي يوم يخاف فيه مفكر من إبداء رأي أو نقد لمنهج فلسفي أو ديني. من هنا نصر على أهمية الحرية في المعتقد الديني والفلسفي. ونرفض ان يقوم نظام ديني أو سياسي يمنع حرية اللبناني في اختيار معتقده الديني ويحد من ممارساته الروحية. وهنا تكمن عظمة لبنان الذي نريده وهي أن يبقى الإنسان فيه حراً للتحاور والكلام في الفكر والدين إلا أن مسؤولية الحرية تحتم علينا التواضع أمام المعرفة واحترام الدين، كما تحتم علينا احترام هؤلاء الذين يختلفون معنا في المعرفة وفي الدين .

4. الهوية الحضارية العالمية. لقد قلنا في الشق السياسي ان لبنان الذي نريد هو وطن عربي من رأسه إلى أخمص قدميه؛ اما هنا في الشق الحضاري فنقول ان لبنان الذي نريد هو وطن عالمي في حضارته. وطن يختصر جميع حضارات العالم. فهو الشرق والغرب. وهو المسيحية والإسلام. وهو حضارة العرب وغيرها من الحضارات. ان العالم كله هنا. كما ان اللبنانيين المنتشرين في العالم قد اعتنقوا حضارات هذا العالم وأغنوها في العلم والمعرفة والفن والسياسة. وقد لا يكون هناك بلد في العالم بلداً عالميا في حضارته كلبنان. من هنا إصرارنا على ان تبقى حضارته حضارة العالم كله. ويجب أن لا نسمح للقوى السياسية والدينية والإيديولوجية التي تقبض على هذا الشرق أن تحد من نمو هذه الحضارة. إذ ان عظمة لبنان وقوته تكمنان في كونه حاضراً وفاعلاً وموجوداً في العالم كله ومساهما في حضاراته. في السنوات الخمسين الماضية جاء بعض صغار المفكرين بمفهوم ألحق الضرر الكبير بالعرب والعروبة. لقد قالوا: كي تكون عربياً أصيلا يجب ان تكون خارج الحضارة العالمية؛ يجب ان تكون منغلقا على ثقافات العالم، لا بل ان تكون في معظم الأحيان معاديا لحضارات العالم. هذا المفهوم كان من أكثر الأسباب التي أدت إلى التخلف العلمي والسياسي في العالم العربي. وها نحن اليوم ندعو جميع العرب لا إلى أن يكونوا في قلب الحضارة العالمية فحسب، بل ان يكونوا أيضا مساهمين كبارا فيها. لكن العرب لن يتمكنوا من أن يكونوا في قلب هذه الحضارة إذا لم يتمكنوا من أن يساهموا فيها. اما إذا اختار العرب ألا يكونوا في قلب العالم فهذا شأنهم، ولكننا لن نسمح لهم بأن يكبلونا بسلاسل من حديد في سجن هذا الشرق القديم.

هذه هي بعض معالم لبنان الذي نريد، والسؤال الجوهري كيف يكون الوصول إليه. ان هذا بالطبع لن يكون سهلا. ولكنه من السهل أن نقول إن الذين أوصلوا لبنان إلى هذا القعر لن يتمكنوا من بناء هذا اللبنان الذي نريد. وكذلك من السهل ان نقول ان الأزمة الوجودية التي نحن فيها لن تحل باتفاق الأفرقاء المتخاصمين لأن هؤلاء متخاصمون على حصصهم ومنافعهم الشخصية والفئوية اكثر مما هم متخاصمون على أي لبنان يريدون. ومن السهل أيضا ان نقول ان الكثير من هؤلاء الذين يملأون الأرض بالضجيج ويتكلمون عن الوطنية والقومية والمحبة للبنان لا يمثلون أنفسهم ، بل يمثلون أناسا غيرهم. أناس يريدون لبنان غير لبناننا، ولبنان غير لبنان الذي نريد. من هنا نقول ان المطلوب ليس اتفاقا بين الأفرقاء بل اتفاق الأفرقاء على هوية لبنان الذي نريد. وإذا تفاءلنا وحدث ما لم نتوقع، أن يتم الاستحقاق الرئاسي في مهلته الدستورية، فالمطلوب ايضاً ليس رئيساً "توافقياً" بل رئيساً "وفاقيا". فمن السهل جداً الاتفاق على شخص يرضي الجميع. هؤلاء الرجال هم كثر، الا أنهم يكونون عادة رجالا عجزة غير قادرين على انجاز شيء. ألم يقل فولتير "إنني لا اعرف ما هي صفات القائد إلا إنني اعرف جيداً صفات الذي لا يمكن ان يكون قائداً . انه ذلك الرجل الذي يرضي الجميع". لذلك نقول نريد رئيساً وفاقيا لا توافقيا، نريد رئيسا قادراًً على صنع الوفاق بين اللبنانيين وقادراً على صنع مستقبلهم. نريد رئيسا يأخذنا إلى لبنان الذي نريد. ان مأساة لبنان تكمن في مأساة رجاله إذ انه منذ الاستقلال ليومنا هذا لم يأت رئيس يبلور للبنانيين رؤية للبنان. لم يأت رئيس يجمع اللبنانيين حول مفهوم واحد وهوية واحدة للبنان. وفي صلاتنا كل يوم نطلب من الله ان يقوم من بين هذا الخراب والدمار قائد يقدس الأرض ويكون ولاؤه أولا وثانيا وثالثا للبنان؟ نصلي كل يوم ليقوم قائد وفاقي يجمع اللبنانيين ويصهرهم في رؤية جديدة للبنان جديد؟ نصلي ونطلب من الله ان يقوم قائد قادر على العمل للوصول بنا الى هذا اللبنان الذي نحلم به .

هذه هي رؤيتنا . هذا هو لبناننا، فأي لبنان هو لبنانكم؟

-- --------------------------------------------------------

أهدي هذا المقال بشقيه إلى منصور الرحباني، رمز المدرسة الرحبانية، التي أعطت الكثير من المجد للبنان.