لا رد.. لا ردع.. لا محاسبة.. لا عقاب
لا رد.. لا ردع.. لا محاسبة.. لا عقاب!
كلوفيس مقصود
صحيح أن الأمة العربية تواجه مشاكل وقضايا شديدة ومستعصية، ناتجة عن كون حالة الانشطار السائدة فى قومية العلاقات فيما بينها أفقد العديد من دولها المناعة الوطنية داخل مجتمعاتها، مما استدعى تدخلات واختراقات من خارج الأمة تمضى فى تعزيز عوامل التفكيك لترسيخ مفهوم مزور «للواقعية» من جهة، وبالتالى جعل الإحباط الشعبى يقارب محاولة رسوخ القناعة بديمومته... إلا أن مجابهة خطر التيئيس من احتمالات التغيير متوفر، وإن كانت عناصره غير واضحة بسبب تلعثم الخطاب التعبوى وافتقاد حيوية المجابهة المطلوبة إلى إطار ينظمها وإلى مرجعية موثوقة توجهها.
يستتبع هذا أن الحالة القائمة للنظام العربى تبدو وكأنها حالة مستمرة، ودائمة، مما يجعل المجابهة قابعة وعناصرها يفرضون الاقتناع بالعجز، وبالتالى يتحول كل حراك مرشح لمزيد من التهميش، وفى معظم الأحيان للقمع. إلا أن حال المجابهة قائم وعناصره متنامية، خاصة عندما يشاهدون يوما بعد يوم النزاعات الطائفية فى العراق واليمن، والتمزق المتفاقم فى وشائج الوحدة الوطنية، والمعاناة المتواصلة فى كل من الصومال والسودان خاصة دارفور وغيرها من المآسى وعبثية التفجيرات والاقتتال المذهبى والقبلى، كما حالات الفقر فى مقابل نمو الاقتصاد الريعى وما ينطوى عليه من طاقة على الإفساد وعدم الوعى لتعزيز السلام الأهلى.. ومن جانب آخر عدم إشراك مكونات المجتمع المدنى فى الإسهام فى رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية الملحة، وترافق هذا الإسهام مع التنسيق على المستوى القومى بشكل ملزم وتفعيل قرارات الجامعة العربية وإخراجها من خزائنها، وتسريع تنفيذ قرارات السوق العربية المشتركة بهدف تقليص البطالة والعوامل القائمة الحائلة دون تسريع متطلبات التنمية الإنسانية، مما يلبى الحقوق والحاجات لكل شعوب الأمة. إننا عندما نشاهد الطاقات المتوافرة فى مقابل حالة التخلف يحصل لدى الجماهير توجس حقيقى من أن تكون مقاومة النكوص القائمة عرضة أن تتلقفها نزوات ثأرية وانتقامية هى بدورها تستولد تعليق حريات وإنجاز حقوق، وإبقاء الأمة وأوطانها فى سجن كبير محبط من النظام القائم، يترافق مع خطر داهم يكمن فى الالتباس بين مجابهة ملتزمة لمشروعية ثقافة المقاومة رافضة مباغتات الإرهاب ومجرد الاقتناع بعبثية الثأر.
وأمام الحصار القائم لطاقات المجابهة الملتزمة ثقافة وإستراتيجية المقاومة المشروعة من النظام العربى المتحكم من جهة ومن الذين يعتبرون أن الانتقام هو التعبير الأنجع عن حالة اليأس، فهذا السلوك إضافة إلى عبثيته واعتماده على ممارسة التخويف وتفشى حالات الرعب واعتماد وسائل الترهيب دون اكتراث بكون معظم الضحايا من مواطنيهم الأبرياء، فإن فك الحصار المزدوج برغم تعقيداته ومخاطره هى القاطرة التى من شأنها توفير طاقات الاختراق حتى تتم استقامة الوسائل لتتطابق مع سلامة ونبل الأهداف، وبالتالى إزالة أسباب النقمة، والتى بدورها تجعل وسائلها بدورها منسجمة مع شرعية ونبل أهدافها.
* * *
إذاً لماذا هذه المقدمة المستفيضة بما أصبح معروفا ومسلما به إلى حد كبير، خصوصا أن الإمعان فى التوعية بهذا الاتجاه لم يأت بالنتائج المطلوبة؟ هذا التساؤل معقول إلى حد كبير، لكن استمرار الإصرار يكمن فى ضرورة التحريض على التوعية، لأن المتغيرات التى تداهم الأمة إذا بقيت بدون مجابهة مدروسة وبدون مقاومات واعية مستدعية للمستجدات، فإن تراكم أخطار إهمال التحريض من شأنه ترسيخ سياسات الإفقار والتشرذم وفرض وقائع على الأرض قد يصعب للأجيال العربية الطالعة التعايش معها، ولا يجوز توريثها واجترار المعوقات المعيبة واستمرار أسبابها ومكبلات أجهزتها وتخلف مؤسساتها..رغم استثناءات موجودة، لكن ليست حاكمة.
لعل مع ما أشرنا إليه من توصيف لحال الأمة واستنتاجنا بأنها ليست على ما يرام، فإن الأخطار التى سلمنا بها تبقى من صلب الهموم العربية واهتمامات مواطنيها. فى المقابل يصبح العجز طاغيا، وبالتالى مرشحا للتحول إلى حالة دائمة، ما دامت نقمة الشعب الفلسطينى وحقه فى تقرير مصيره مستمرة دون إنجاز، مما بدوره يعمق حالة الإحباط والشعور بأن المشروع الصهيونى محصور فى حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية والإنسانية التى شرعتها القوانين الدولية.
لكن هذه البديهية والتى كانت صيرورتها مسلما بها كادت أن تتحول إلى كون الحق الفلسطينى هو وجهة نظر محقة للبعض وباطلة للبعض الآخر. وهذا ليس مبالغة فى التوصيف بل هو سمة قائمة لطبيعة التعامل القائم مع حاضر ومستقبل القضية المركزية للعرب وأساسية لدائرة الوجدان عالميا. فالأخطار التى ينطوى عليها المشروع الصهيونى هو أن ينطلى على النظام العربى القائم أن «استئناف المفاوضات» أو كما يقال «العودة إلى طاولة المفاوضات» هدف يستحق تأمينه، لأنه يشكل مخرجا من حالة «الجمود القائم»، فى حين تبقى المباحثات التى تجرى منذ اتفاقيات أوسلو مجرد تمرينات فى العبث كما أشرنا مرارا فى هذه الصفحات، بل استقرارا لتآكل الحقوق الفلسطينية وتواصل اتجاهها نحو العدم.
أكثر من ذلك، فإن تصعيد حدة الاتهامات والتهديدات التى أطلقها وزير خارجية إسرائيل ليبرمان للرئيس السورى بشار الأسد وفظاظتها، لما ورد فى خطابه فى جامعة بار إيلان منذ أيام دليل على أن ما ينطق به هذا العنصرى هو ما يفكر ويرسم له رئيسه نتنياهو، وما يحاول تخفيف وطأة استفزازيته إيهود باراك. ويترافق مع صفاقة التعبير استمرار تهويد القدس، ناهيك عن تكثيف عمليات الاستيطان وبقاء المبعوث الأمريكى ميتشل فى دوراته المكوكية يطمئن اللبنانيين بأنه «لن يكون حل القضية الفلسطينية» على حساب لبنان، بمعنى أن الإدارة الأمريكية لن تحل «مشكلة اللاجئين من خلال تثبيت التوطين»، لكن هذا التطمين سيكون إذن على حساب من؟ بمعنى إذا لم يترافق الحل مع حق العودة، إذن ما هو مصير هؤلاء اللاجئين؟
كذلك الأمر، ماذا عن دولة فلسطينية بسيادة كاملة كى تتمكن من منح حق المواطنة للفلسطينيين كلهم بمن فيهم اللاجئون فى أماكن وجودهم؟ صحيح أنه مهم تطمين لبنان، لكن حتى يكون التطمين ناجحا وقابلا للتصديق عليه أن يترافق مع إقرار أمريكى بحق العودة للاجئين. وحيث إن هذا مستبعد فى الوقت الحاضر، وليس هناك ما يؤكد هذا الالتزام فى المستقبل القريب، فإن ازدواجية المساعدات العسكرية المتطورة لإسرائيل مع «مسيرات السلام»،التى يديرها السيناتور ميتشل، تزيد فى قطيعة تكاد أن تكون كاملة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ناهيك عن ثبات الالتزام الأمريكى الكامل بالتفوق الاستراتيجى الكامل لإسرائيل على قوة العرب مجتمعين. لذا فإن إسرائيل ترفض لأى طرف دولى آخر، مثل الأمم المتحدة، أن يكون لها أى مشاركة ــ إلا رمزية عند الاضطرار ــ وبالتالى فإن التزام التفوق العسكرى الإسرائيلى من شأنه ترجيح الأهداف الإسرائيلية على الحقوق الفلسطينية.
كما أن ما يساعد ويعزز افتقاد الدول العربية قدرة المجابهة الناجمة عما اختصرنا توصيفه بالمعوقات والتخلف فى حالة مواطنيها، بل فقدان الإدراك لحقيقة مطلقة أن المشروع الصهيونى لا يقاوم إلا بمشروع عربى قومى قابل أن يكون ذات صدقية فاعلة. أما النظام العربى القائم، فإنه عاجز عن الرد، عاجز عن الردع، عاجز عن المحاسبة، كما دل تعامله مع تقرير جولدستون، عاجز عن المعاقبة، وعاجز عن إلحاق كلفة عما تقدم إسرائيل من عدوان مستمر، من سياسات ترويع السكان من خلال المستوطنين، ومن خلال سلوك المالك المتصرف كما يشاء، بدل الانصياع لاتفاقيات جنيف المتعلقة بالاحتلال. لذا صار طموحنا المؤقت أن ننجز «مصالحة»...
لقد كانت الوحدة الوطنية الفلسطينية فى ذاكرتنا الجماعية خطا أحمر..وتكاثرت الخطوط الحمراء فى كل مكان وتوقفت المجابهة.. وبقيت حالة الإحباط..لذا لا قدرة للرد، أو للردع، ولا للمحاسبة، ناهيك بالكلفة والمعاقبة.