القنوات الفضائية

... إلى أين ...

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

مع نهاية االقرن العشرين في عقده الأخير بدأت القنوات الفضائية تغزو بيوتنا ،  وتنتشر بشكل  كبير وفق متواليات هندسية ، وإن كانت ملكية هذه القنوات في بداية الأمرمقتصرة على دول وجهات حكومية تقف وراءها وتدعمها ، ثم تحول الأمر إلى تعدد هذه القنوات الحكومية بالنسبة للدولة نفسها ، ثم تطور الأمر إلى  ظهور قنوات خاصة لبعض الوزارات أوالمؤسسات الحكومية الكبيرة والفاعلة لتستقل بهذه القنوات مع أنها لا تعارض سياسة الحكومات ، بل ليتسنى للقائمين عليها حيزا أوسع لتبليغ رسالتها وإيصال كلمتها  بشكل أوفى ، وتأخذ وقتها الكافي بالتقديم والشرح والتحليل  لتعزيز موقفها وتحقيق أهدافها .

 ثم انتقلت الحمى إلى الشركات والمؤسسات الخاصة الكبيرة ، القوية والفاعلة سواء كانت ذات طابع سياسي أو تجاري .

وتحت العنوان التجاري تندرج مئات القنوات بل آلافها ويمكن أن يأخذ هذا الطابع التجاري أشكالا كثيرة ومتعددة لعل أبرزما يميزها ويكون عنوانا لها هي قنوات الدعاية الإعلامية والإعلانات ، لترويج المنتجات والعقارات والبيع والشراء مع التوضيب والشحن وإيصال المادة المعلن عنها إلى أي بقعة في الدنيا ، كما يندرج تحت هذا الإطار القنوات المتخصصة والتي ربما وضعت القيود على مشاهدتها ، وتحولت بعضها إلى قنوات مشفرة بغض النظر وبعيدا عن الجدل في مجال تخصصها ومدى فائدتها الإجتماعية وانعكاسه سلبا أو إيجابا على المجتمع ، فمن هذه النوعية : القنوات الرياضية وسباق السيارات والخيول ، والقنوات العلمية المتخصصة  وأسرارالطبيعة ، وعالم  الحيوان والحياة البرية ، وفضائيات الأطفال والرسوم المتحركة ..... وغيرها .

كما انتشرمما يلحق بهذا النوع - التجارية - قنوات الميسر المقنع ، لإرسال رسالة أو القيام بالإتصال بالمقدمة الفاتنة اللعوب مع اللباس المغري وصوتها  المغناج  وحركات الدلع والتمايل والرقص والإيحاءات ... وهي تقدم على الشاشة الألغاز والمسابقات ، وبعيدا عن الأساليب الملتوية التي تتبعها إدارة هذه القنوات لمن تكون الأرباح وكيف تذهب هذه الأرباح بعد الإجابة وإرسال الرسائل ، وبعيدا عمن يتصل أو يرسل هذه الرسائل ، مع أن هذه المقدمة الجذابة بلباسها الفاتن تعرض السؤال أو اللغز، وغالبا ما يكون هذا السؤال من النوع البسيط والساذج أو الغبي ،  ليبادر أكبر عدد من المشاهدين - بحسب تقدير القناة - بإرسال الرسائل أو محاولة الإتصال ، والتي قد لا تفلح إلا بعد جهد جهيد وأنت تنتظرك دورك على الهاتف .

 ومنها قنوات التنجيم والكهانة وعلم الغيب  وما وراء الطبيعة ، وقراءة الكف .... والحظ  والأبراج و...غيرها ، لتحدد للمتصل مستقبله ، وسعادته أو شقاءه ، وتحلل شخصيته ونفسيته ، وتنبأه  بما ينتظره من أفراح وأتراح ! .

ومنها قنوات طب الأعشاب والرقى وتفسيرالأحلام ، والدعايات لمنتجاتها من الزيوت والدهون والخلطات السرية ..... وغيرها .

  إلا أن المصيبة في هذا النوع من القنوات سواء كانت عامة أو مقيدة هي تلك القنوات الموجهة للفساد والإفساد ، والتحلل من الأخلاق والقيم والفضيلة متدرجة ومتباينة ومتعددة الأشكال والألوان ، ويقف على رأس هرمها ، تلك القنوات الإباحية التي تدعو للفاحشة والجنس ، متخذة من المرأة سلعة وعنوانا ، وتتاجر بالرقيق الأبيض ... والأسود ... والأحمر ، كبارا أو صغارا ، ذكورا أو إناثا ، وتروج لكل ما يلزم لتلك التجارة سواء على مستوى اللباس  والموضة ، أو الوسائل المساعدة على الخصوبة والمهارة ، أو على مستوى العناية بالجسد من تنحيف أوتسمين ، أو تجميل  أوتقويم ،  أو تكبير أو تصغير ، أو نفخ أو وشم ، أو غير ذلك من هذه السلسلة والأضراب . 

وظهرت بالمقابل فضائيات دينية ، إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بوذية أو قاديانية .... وبغض النظرعن تنوعها وتعددها ضمن كل ديانة على حدا لتمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

 كما ظهرت فضائيات النشيد الإسلامي بقوة وزخم ، مع تعدد أنواعها ومدارسها وأطيافها .

كما أصبحت قنوات الأطفال ورسومها المتحركة حالة ظاهرة على الشاشة ، فتعددت هذه القنوات وتنوعت معها أصولها وتوجهاتها وأهدافها ، بعضها ما يناسب بيئتنا وما يحكمها من عقائد وأعراف  وعادات أصيلة وتقاليد ، وبعضها الآخر صنع لغير بيئتنا ولا يلائم معتقداتنا وأعرافنا ، وآ خر منها يقف وراءها حاطب ليل ، فأتى فيها بالغث والسمين دون أن يقوم بعملية الفرز والتمحيص لما يناسبنا أو يتعارض مع واقعنا وبيئتنا .

وتحت عنوان الفضائيات ذات الطابع السياسي ، تحول الأمر مع الصراعات السياسية القائمة والأحزاب المعارضة إلى انتشار قنوات سياسية أو حزبية بحتة ، لخدمة الحزب أو التحالف أو الجماعة أو الطائفة أو الفصيل والكتلة ، لتكون منابر تروّج لهذه الأحزاب والأطياف بين موالية ومعارضة ، لتتخذها منابر تعتليها وتدعو من خلالها لفكرها ، ونشر مبادئها وبيان أهدافها ، أو الرد على خصومها ومحاربة أعدائها ، أو أحزاب معارضة  لحكوماتها  تنتقد سياساتها ، وتفضح أخظاءها وتنشر غسيلها ، وانقسم الناس تجاهها بين متحمس ومعارض ، أو بين مؤيد ومحارب .

وامتد الأمر واتسع إلى مستوى قنوات للقبائل والعشائر ليقومون من خلالها بسباقات الهجن ورهانات الخيل ، أو مسابقات الغناء والشعرالشعبي ، أو نشر فنونها وتراثها من الأفراح والأعراس ، والرقصات الشعبية والدبكات .

فهل ننتظر أياما قادمة تتسابق فيها كل عائلة لتملك قناة فضائية ، وربما تتحول هذه الملكية إلى مستوى الأشخاص والأفراد ، بعد أن بدت تدب بهذا الإتجاه على مستوى رجال الأعمال وأصحاب النفوذ والأموال ، أسوة بالمدونات والتي تهتم معظمها بسيرة الشخص الذاتية ... ومسيرته النضالية .... وأنشطته الخرافية .... وكتاباته الإبداعية .... وكنوزه ومآثره الثرية .... وصوره الشخصية .  

وأخيرا ما موقفنا كآباء ومربين تجاه هذه الفضائيات بعد أن غزتنا في بيوتنا وعقر دورنا بل واقتحمت علينا غرف نومنا ؟

إن القنوات الفضائية بحسب ما سردنا ، فيها الغث والسمين ، وفيها النافع والضار،  وفيها الخير والشر، وفيها الصالح والطالح ، وفيها اللهو المباح واللهو المحرم ، وبعبارة أخرى فإنها سلاح ذو حدين، فيها ما يناسبنا وينسجم مع طبيعتنا وما لا يناسبنا، وما يناسب أسرنا وأطفالنا وما لا يناسبهم .

 والأمريتطلب منا تجاه ذلك : موقف المراقب الحصيف ، والمتابع اللطيف ، والحازم الحكيم ، فنشجع بعض هذه الفضائيات ونتابعها ونرغب بها أطفالنا وأبناءنا ، ونمتنع ونمنع بعضها الآخر عن أبنائنا وأطفالنا مع بيان ذلك لهم ، وإقناعهم إن سألونا بهدوء وحكمة .

ونترك لهم أخرى للهو المباح التي لا تعارض معتقداتنا ، أو أعرافنا وتقاليدنا الأصيلة .

 كما المطلوب منا أن لا تشغل هذه القنوات  وقتنا ووقت أبنائنا في المشاهدة والمتابعة ، على حساب أعمالنا  وفروضنا  وعباداتنا ، ودراسة أطفالنا وألعابهم الرياضبة لتنشيط الجسم ،  وتصفية العقل ،

 فالعقل السليم في الجسم السليم .

 وأخيرا : أن لا نحصرأنفسنا في  نوع واحد من القنوات  وندمن عليها ، كانت ما كانت ، إخبارية أو علمية ،  إسلامية أو رياضية ، فنية أو تعليمية ، أو غير ذلك .

 بل لا نعتمد على فضائية واحدة نتابعها في كل نوع من أنواعها ، حتى لا تبرمج هذه القناة عقولنا وننغلق على أنفسنا ، فلا نرى حقيقة الأشياء من حولنا إلا من خلال نافذة ضيقة ، وتنطبع تفسيراتنا وتحليلاتنا ورؤانا وفق منهل واحد ، فتنعكس على  ميزاننا للأشياء  وتوجه تفكيرنا باتجاه واحد ، فتحركنا وفق بوصلة موجهة بخط مستقيم  وإن اعترض طريقنا البحار والمحيطات ، أوأشد المسالك والدروب وعورة من جبال وهضاب ومرتفعات ، أو حتى أرض منبسطة مسطحة من صحراء قاحلة ، تموج بكثبان متحركة ، وتمتلأ بمفاوز مهلكة .

 فإن الخيارات أمامنا متاحة ومفتوحة ، ومجال الطيف واسعا للإختيارضمن حدود الأدب والشرع .