نظرات في التصوف الإسلامي

نظرات في التصوف الإسلامي

د. بدر عبد الحميد هميسه

[email protected]

أعرف أن قضية التصوف من القضايا التي تثير نوعاً من الحساسية لدى بعض الناس فيرفض هذا المصطلح جملة وتفصيلاً , بل ويرفض الحوار والمناقشة حول تلك القضايا بحجة أن مناقشتها قد يثبت وجودها ويضفي عليها نوعاً من الشرعية المرفوضة من أساسها , ولقد علمنا الإسلام أن الحوار والمناقشة قد يكونان سببا مباشراً لإقامة الحجة على الخصم , وليس رفض مناقشته فيما يعتقد هو الذي يقيم الحجة عليه , فالإنصاف يقتضي سماع الخصم ومحاورته وليس نفيه , فبعض الناس مولع بنفي الآخرين ممن يخالفونه في الرأي أو في المعتقد , فمن الإنصاف أن تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب، حتى لو كان فاسقاً، بل حتى لو كان مبتدعاً، بل حتى لو كان كافراً. ولذلك استنكر ابن تيمية -رحمه الله- على بعض المنتسبين للسنة فرارهم من التصديق، أو الموافقة على حق يقوله بعض الفلاسفة، أو المتكلمين؛ بسبب النفرة والوحشة، أو إعراضهم عن بعض فضائل آل البيت، فقال -رحمه الله-:" لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني، فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق". راجع :منهاج السنة النبوية: (2/342).

ولا يحملنا رفض من عن الآخر من ظلمه وعدم العدل معه, قال تعالي:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" (المائدة:8) .

قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: ( أي لا يحملنكم بغض قوم علي ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقاَ كان أو عدواً،ولهذا قال: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى, أي: عدلكم هو أقرب للتقوى من تركه). تفسير ابن كثير:(2/35).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية " وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار،وهو بغض مأمور به،فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف بمن يبغض مسلماً بتأويل وشبهة أو بهوي النفس ؟ فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه . منهاج السنة النبوية:(5/126).

فإن الله تعالى قد خلق الناس مختلفين قال تعالى "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ . سورة هود , وقال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم : {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } (272) سورة البقرة.

وقال : {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص , وقال : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس.

قال ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ) إعلام الموقعين : 2 / 173  .

قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) سير أعلام النبلاء : 40/14.

لذا فقد قال الذهبي في ترجمة قتادة :"وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه وإتباعه يغفر له زلـله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" [سير أعلام النبلاء 5/271 ].

وهذا هو العلامة ابن القيم كما ذكر الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في الذيل علي طبقات الحنابلة ( الجزء الثاني ) صفحة (448) عن ترجمة ابن القيم بقوله :( وكان عالما بعلم السلوك وكلام أهل التصوف وإشاراتهم ودقائقهم ، له في كل فن من هذه الفنون اليد الطولي ) ,وجاء في كتاب مدارج السالكين عن تعريف التصوف لابن القيم في الجزء الثاني من صفحة "307" ما نصه :الدين كله خلق ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين ، وكذلك التصوف .

وكتاب مدارج السالكين وكذا مؤلفات ابن الجوزي ومن قبلهما كتب الزهد لأحمد بن حنبل وأبي داود السجستاني وابن المبارك وغيرهم تدل على أن هؤلاء الأعلام كان لهم كلام في التصوف أو الحياة الروحية في الإسلام التي هي جانب مهم وعظيم ومشرق في هذا الدين .

ودراسة التصوف دراسة تحليلية تاريخية يعيننا على معرفة الحياة الروحية في الإسلام واستكناه أسرارها وكشف العناصر التي تتألف منها .. فمما لا شك فيه أن التصوف جزء من الأجزاء التي يتألف منها التراث الديني والعقلي والشعوري للإسلام . محمد مصطفى حلمي : الحياة الروحية في الإسلام ص 10, 11.

إذن فطالب الحق لا يزكى نفسه ولا يتطاول بعلمه , بل ينشد الحق حيثما كان وأينما وجد ,يقول الإمام الغزالي عند ذكره لعلامات طلب الحق: "أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرّق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق"  إحياء علوم الدين 1 / 57.

وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ : أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلاَمَ ، فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللهِ ، فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ : بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ ، أَمَا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ ، قُمْ يَا فُلاَنُ ، رَجُلاً مِنْهُمْ ، فَأَخْبِرْهُ ، قَالَ : فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ ، فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ  r ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلاَنٌ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلاَمَ ، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلاَنًا قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللهِ ، فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلاَمَ يُبْغِضُنِي ؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ  r فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَقَالَ : قَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ  r : فَلِمَ تُبْغِضُهُ ؟ قَالَ : أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّي صَلاَةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، قَالَ الرَّجُلُ : سَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ : هَلْ رَآنِي قَطُّ أَخَّرْتُهَا عَنْ وَقْتِهَا ، أَوْ أَسَأْتُ الْوُضُوءَ لَهَا ، أَوْ أَسَأْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ  r عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْتُ فِيهِ ، أَوِ انْتَقَصْتُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ  r فَقَالَ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُعْطِي سَائِلاً قَطُّ ، وَلاَ رَأَيْتُهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ ، إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، قَالَ : فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ كَتَمْتُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ ، أَوْ مَاكَسْتُ فِيهَا طَالِبَهَا ؟ قَالَ : فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ  r عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لاَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ  r : قُمْ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ. مسند أحمد (7 / 856)(23803) 24213-  صحيح وصحح إسناده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ( 3 / 145 - بهامش الإحياء ) .

ومرّ أبو الدرداء رضي الله عنه على رجل قد أصاب ذنباً فكانوا يسبّونه فقال : أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه ؟ .قالوا : بلى . قال : فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم ؛ قالوا : أفلا تبغضه ؟قال : إنما أبغض عمله ، فإذا تركه فهو أخي !!. ورواه البيهقي في الشعب (6415)وأخرجه ابن عساكر (47/177) . صحيح: أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء رقم 757.

وقد حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره ثلاث خصال:  إن كان أعلى مني عرفتُ له قدره , وإن كان دوني رفعتُ قدري عنه , وإن كان نظيري تفضلت عليه.

وها هو الإمام أحمد بن حنبل بالرغم من موقفه الشديد من الصوفية إلا أنه ذهب ليستمع إليهم ويرى ما عندهم.

 ذكر الحاكم أبو عبد الله أن أبا بكر أحمد بن إسحاق الصبغى أخبره قال سمعت إسماعيل بن إسحاق السراج يقول قال لى أحمد بن حنبل بلغنى أن الحارث هذا يكثر الكون عندك فلو أحضرته منزلك وأجلستنى من حيث لا يرانى فأسمع كلامه فقصدت الحارث وسألته أن يحضرنا تلك الليلة وأن يحضر أصحابه فقال فيهم كثرة فلا تزدهم على الكسب والتمر فأتيت أبا عبد الله فأعلمته فحضر إلى غرفة واجتهد فى ورده وحضر الحارث وأصحابه فأكلوا ثم صلوا العتمة ولم يصلوا بعدها وقعدوا بين يدى الحارث لا ينطقون إلى قريب نصف الليل ثم ابتدأ رجل منهم فسأل عن مسألة فأخذ الحارث فى الكلام وأصحابه يستمعون كأن على رؤوسهم الطير فمنهم من يبكى ومنهم من يحن ومنهم من يزعق وهو فى كلامه فصعدت الغرفة لأتعرف حال أبى عبد الله فوجدته قد بكى حتى غشى عليه فانصرفت إليهم ولم تزل تلك حالهم حتى أصبحوا وذهبوا فصعدت إلى أبى عبد الله فقال ما أعلم أنى رأيت مثل هؤلاء القوم ولا سمعت فى علم الحقائق مثل كلام هذا الرجل ومع هذا فلا أرى لك صحبتهم ثم قام وخرج وفى رواية أخرى أن أحمد قال لا أنكر من هذا شيئا. السبكي : طبقات الشافعية الكبرى 2/279 , تاريخ الإسلام , للذهبي 1/1900.

وإذا ما رأى الخطأ عند غيره وجب عليه أن يصوبه ويسدده ,قال مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ: وَصَلْت الْفُسْطَاطَ مَرَّةً، فَجِئْت مَجْلِسَ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ، وَحَضَرْت كَلَامَهُ عَلَى النَّاسِ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جَلَسْت إلَيْهِ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ وَظَاهَرَ وَآلَى، فَلَمَّا خَرَجَ تَبِعْته حَتَّى بَلَغْت مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ فِي جَمَاعَةٍ، فَجَلَسَ مَعَنَا فِي الدِّهْلِيزِ، وَعَرَّفَهُمْ أَمْرِي، فَإِنَّهُ رَأَى إشَارَةَ الْغُرْبَةِ وَلَمْ يَعْرِفْ الشَّخْصَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْفَضَّ عَنْهُ أَكْثَرُهُمْ قَالَ لِي: أَرَاك غَرِيبًا، هَلْ لَك مِنْ كَلَامٍ؟ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَفْرِجُوا لَهُ عَنْ كَلَامِهِ. فَقَامُوا وَبَقِيت وَحْدِي مَعَهُ فَقُلْت لَهُ: حَضَرْت الْمَجْلِسَ الْيَوْمَ مُتَبَرِّكًا بِك، وَسَمِعْتُك تَقُولُ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقْت، وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقْت وَقُلْت: وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَ رَأْسِي، وَقَالَ لِي: أَنَا تَائِبٌ مِنْ ذَلِكَ، جَزَاك اللَّهُ عَنِّي مِنْ مُعَلِّمٍ خَيْرًا.ثُمَّ انْقَلَبْت عَنْهُ، وَبَكَّرْت إلَى مَجْلِسِهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَأَلْفَيْته قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْجَامِعِ، وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمَّا دَخَلْت مِنْ بَابِ الْجَامِعِ وَرَآنِي نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: مَرْحَبًا بِمُعَلِّمِي؛ أَفْسِحُوا لِمُعَلِّمِي، فَتَطَاوَلَتْ الْأَعْنَاقُ إلَيَّ، وَحَدَّقَتْ الْأَبْصَارُ نَحْوِي، وَتَعْرِفنِي: يَا أَبَا بَكْرٍ1 يُشِيرُ إلَى عَظِيمِ حَيَائِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ إذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ فَاجَأَهُ خَجِلَ لِعَظِيمِ حَيَائِهِ، وَاحْمَرَّ حَتَّى كَأَنَّ وَجْهَهُ طُلِيَ بِجُلَّنَارٍ قَالَ: وَتَبَادَرَ النَّاسُ إلَيَّ يَرْفَعُونَنِي عَلَى الْأَيْدِي وَيَتَدَافَعُونِي حَتَّى بَلَغْت الْمِنْبَرَ، وَأَنَا لِعَظْمِ الْحَيَاءِ لَا أَعْرِفُ فِي أَيْ بُقْعَةٍ أَنَا مِنْ الْأَرْضِ، وَالْجَامِعُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَأَسَالَ الْحَيَاءُ بَدَنِي عَرَقًا، وَأَقْبَلَ الشَّيْخُ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا مُعَلِّمُكُمْ، وَهَذَا مُعَلِّمِي؛ لَمَّا كَانَ بِالْأَمْسِ قُلْت لَكُمْ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَّقَ، وَظَاهَرَ؛ فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَقُهَ عَنِّي وَلَا رَدَّ عَلَيَّ، فَاتَّبَعَنِي إلَى مَنْزِلِي، وَقَالَ لِي كَذَا وَكَذَا؛ وَأَعَادَ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَأَنَا تَائِبٌ عَنْ قَوْلِي بِالْأَمْسِ، وَرَاجِعٌ عَنْهُ إلَى الْحَقِّ؛ فَمَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ حَضَرَ فَلَا يُعَوِّلْ عَلَيْهِ. وَمَنْ غَابَ فَلْيُبَلِّغْهُ مَنْ حَضَرَ؛ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا؛ وَجَعَلَ يَحْفُلُ فِي الدُّعَاءِ، وَالْخَلْقُ يُؤَمِّنُونَ. ابن العربي : أحكام القرآن 1/202.

من هنا كان يجب علينا أن نناقش قضية التصوف يعيداً عن الشغب والغلط , وعن نفي الآخر , فنفي الآخر لا ينفي وجوده ولا يلغي أثره فالتصوف صار جزءاً من تراثنا الإسلامي , على الرغم من أنه لم يشتهر كمصطلح ومفهوم إلا  في القرن الثالث الهجري - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (11/6-7) وقد قرر هذه القضية أيضاً قبله العلامة ابن الجوزي في كتابه "تلبيس إبليس" (ص:199) وما بعدها.

وإذا رفض هذا المصطلح لاستحداثه فإننا بذلك نفتح باباً لرفض مصطلحات وعلوم أخرى مستحدثة لم تكن في القرون الأولى التي هي خير القرون , فعلم العقيدة لم يكن موجوداً بتفصيلاته ولا علم التوحيد . فلم يناقش الصحابة رضوان الله عليهم ولا من بعدهم من التابعين قضية توحيد الإلوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد العبودية وتوحيد الأسماء والصفات , بل عاشوا الإسلام الفطري النقي البعيد كل البعد عن تهويمات الفلاسفة وجدل المتكلمين , وحواشي الفقهاء.

 فالذم والمدح في الشرع لا يرتبط بالألفاظ والمباني، بل بالمضامين والمعاني. وكل واحد يفهم من التصوف أشياء وأشياء. وهو ليس من الألفاظ الواردة في الشرع حتى يكون معناها محددا به. لذلك فما كان من معانيه مقبولا شرعا أو مستحبا فهو كذلك، وما كان منه مردودا فهو مردود.

من هنا ينبغي علينا مناقشة القضية ومعرفة أصولها ومبتغاها .

 

أولاً : مفهوم التصوف :

إن الذين تحدثوا عن التصوف والصوفية اختلفوا في أصل الكلمة واشتقاقها وكذلك اختلفوا في نسبة الصوفية اختلافاً كبيراً ، وإن المؤيدين والمعارضين للتصوف لم يتفقوا على نسبة للتصوف، كما أن الصوفيين أنفسهم لم يتفقوا على شيءٍ من ذلك , ويرى صاحب (المصباح المنير) أن كلمة صوفية كلمة مولدة لا يشهد لها قياس ولا اشتقاق في اللغة العربية. وعلى هذا تكون كلمة تصوف مبتدعة محدثة وغير معروفة عند العرب الأوائل ولا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

وقد ذهب الكلاباذي إلى أن أصل الصوفية ينتسبون إلى الصفاء وأنهم سموا صوفية لصفاء أسرارهم وشرح صدورهم وضياء قلوبهم.

والذي ذهب إلى ذلك نظر إلى حال الصوفية الأوائل ولم ينظر إلى الاشتقاق اللغوي لذلك يرى القشيري أن هذه النسبة غير صحيحة لغة لأننا لو نسبنا أحداً إلى الصفاء لقلنا صفائي.

وقـد قـال زكي مبـارك إن نسبـة التصـوف إلى الصفـاء ليس إلا حذلقـة مـن بعـض الصوفيـة.

وقال آخرون إن الصوفية نسبة إلى أهل الصفة وهم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينزلون في مكان خلف الحجرات في المسجد النبوي وعرف المكان باسمهم وكانوا متفرغين للعبادة وللمجاورة وهم فقراء المهاجرين الذين ليس لهم مأوى.

وهذا الكلام لا يستقيم بالنظر إلى الاشتقاق اللغوي لأن النسبة إلى أهل الصُفَّة صُفي وليس صوفي.

ثم إن مكان أهل الصفة لم يكن مخصصاً للعبادة بل كانوا يذهبون للعبادة والصلاة في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النزلاء ينزلون فيه حيث لا مأوى لهم ولا عمل يرتزقون منه فكان أحدهم إذا وجد عملاً وبيتاً وزوجةً ترك مكان الصفة وذهب إلى عمله وهو ليس خاصاً بأحد بل هو مكان لعامة المسلمين وآحادهم.

ولم يكن انتسابهم إليه شرفاً لذلك كانوا يزيدون وينقصون وكان بعضهم لا يطول مقامه فيه بل بحسب ما يتيسر له العمل والبيت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم بما يكون عنده من طعام.

وادعاء بعض المتصوفة أن اشتقاق التسمية من صُفَّة المسجد إنما يهدف إلى ربط نشأة التصوف بعهد النبي صلى الله عليه وسلم وكأن النبي قد أقرهم على منهجهم في الاعتزال والتجرد والتواكل وهذا مخالف لسنته صلى الله عليه وسلم في التوكل والجد والاجتهاد وطلب الرزق، وسنته وتعاليمه خير شاهد على ذلك.

وقيل إن التصوف نسبة إلى الاتصاف بالصفات الحميدة وترك الصفات الذميمة ويرى عبد الله الأمين أن هذه النسبة لم تلق من الاستحسان ، فضلاً عن عدم الاستقامة العلمية ما حصرها في نطاق الرأي الضعيف الذي لم ينظر إليه تاريخياً.

والنسبة إلى الصفات ليس صوفي بل صفاتي، والصفاتية المراد بها مثبتةُ الصفات فالبعض يطلقها على المشبهة ويطلقها المؤولة والنفاة على كل من أثبت الصفات بما فيهم السلف الصالح.

و نسبة الصوفية إلى " سوفيا " اليونانية ومعناها الحكمة، والقائلين بذلك حجتهم أن القوم كانوا طالبين للحكمة حريصين عليها فأطلقت عليهم الكلمة وعربت أو حرفت فأصبحت صوفية وصوفي.

وأكد البيروني هذه النسبة لأن فكرة القول بالوحدة ظهرت فيهم وردَّ هذا القول زكي مبارك في كتابه (التصوف الإسلامي).

وذهب قوم إلى أن الصوفية نسبة إلى الصوف وذلك لأن النسبة إلى الصوف صوفي وممن رجح هذا القول شيخ الإسـلام بـن تيميـة رحمه الله في الفتاوى والسهروردي وابن خلدون وحجتهم على صحة هذه النسبة:

 إن الصوف لباس الأنبياء وخاصة سيدنا محمد وعيسى عليهما السلام وهو لباس الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والصوفية المتقدمين رحمهم الله تعالى .

 وإن لبس الصوف هو أقرب إلى التواضع والخمول والذل يقول أبو فراس الحمداني مخاطباً سيف الدولة.

يا واسع الدار كيف توسعها                        ونحن في صخرة نزلزلها

يا ناعـم الثوب كيف تبدله                        ثيابنا الصوف ما نبدلهـا

وإن الصوفية كانوا يعرفون هذه النسبة فقد دخل أبو محمد بن أخي معروف الكرخي على أبي الحسن بن بشار وعليه جبة صوف فقال له أبو الحسن: يا أبا محمد صوف قلبك أو جسمك وقال النضر بن شميل لبعض الصوفية تبيع جبتك الصوف ؟ فقال إذا باع الصياد شبكته فبأي شيء يصطاد. (تلبيس إبليس 198).

وإن نسبتهم إلى لبس الصوف تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو إليه النفس بالهوى من الملبوس الناعم، ويكون اللابس خشناً مثل الملبوس في خشونته.

 وإن هذا الرأي قد سلم مما توجه إلى غيره من الآراء فإنه يوافق قواعد اللغة من حيث النسبة والاشتقاق لأنه يقال تقمص لمن لبس القميص وتصوف إذا لبس الصوف,ولكن كثير من الزهاد الأوائل كان يذم لبس الصوف.

ومـن ذلـك مـا ورد فـي بأن حماد بن أبي سليمان رأى رجلاً عليه ثوب صوف فقال له " ضع عنك نصرانيتك هذه ". (تلبيس إبليس ص 178).

وقال أبو العالية لرجل آخر لبس الصوف " إنما هذه ثياب الرهبان ". ورأى سفيان الثوري رجلاً لبس الصوف فقال " لباسك هذا بدعة ". التصوف المنشأ والمصدر : إحسان إلهي ظهير 84.

ورحم الله ابن الجوزي الذي عاب على الذين خربوا بواطنهم وتظاهروا بالزهد والتقشف فقال " كان الزهد في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب " ، وكان الزهد حرقة فصار اليوم خرقة ، "

ويحك صوف قلبك لا جسمك وأصلح نيتك لا مرقعتك ".

قال أحدهم :

لَيْسَ التَّصَوُّفُ لُبْسَ الصُّوفِ تُرَقِّعُهُ  * * * وَلَا بُكَاؤُك إنْ غَنَّى الْمُغَنُّونَا

وَلَا صِيَاحٌ وَلَا رَقْصٌ وَلَا طَرَبٌ * * * وَلَا ارْتِعَاشٌ كَأَنْ قَدْ صِرْت مَجْنُونًا

بَلْ التَّصَوُّفُ أَنْ تَصْفُوَ بِلَا كَدَرٍ * * * وَتَتْبَعَ الْحَقَّ وَالْقُرْآنَ وَالدِّينَا

وَأَنْ تُرَى خَاشِعًا لِلَّهِ مُكْتَئِبًا * * * عَلَى ذُنُوبِك طُولَ الدَّهْرِ مَحْزُونًا

 ويرى الإمام القشيري في الرسالة القشيرية أن التصوف اسم عَلَم على طائفة الصوفية بغض النظر عن اشتقاق الكلمة والأصل الذي أخذت عنه.

والراجح في هذه الأقوال هو نسبتهم إلى الصوف لأنه حكم بالظاهر وتصح لغة ،أو قول الإمام القشيري وهو من أوائل الصوفية فهو أعلم بشؤونهم.  راجع : مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي محمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص6 - 13

ولقد تشعبت آراء الصوفيين أنفسهم في تحديد مفهوم التصوف :

 قال معروض الكرخي: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق .

وقال النوري: التصوف من لا يتعلق بشيءٍ ولا يتعلق به شيء.

وقال سمنون: التصوف أن لا تملك شيئا ولا يملكك شيء .

وقال ذو النون المصري: الصوفي من لا يتعبه طلب ولا يزعجه سلب .

وقال أبو محمد الجريري: التصوف الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دنى.

وقال سهل بن عبد الله: الصوفي من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، وانقطع إلى الله عن البشر واستوى عنده الذهب والمدر.

وقال بشر الحافي: الصوفي من صفا لله قلبه.

وقال محمد بن أحمد المقرئ: التصوف استقامة الأحوال مع الله.

قال ابن بُنان: كل صوفيِّ كان همٌّ الرزق قائماً في قلبه فلزومُ العمل أقرب إليه,وعلامة سكون القلب إلى الله: أن يكون بما في يد الله أوثقُ منه بما في يده.

وقال: اجتنبوا دناءة الأخلاق كما تجتنبون الحرام. الرسالة القشيرية 27.

قال ذو النون: رأيت امرأة ببعض سواحل الشام، فقلت لها: من أين أقبلت رحمك الله؟قالت: من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفا وطمعا.قلت: وأين تريدين؟ قالت: إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.قلت: صفيهم لي؟ فأنشأت تقول:

قومٌ: هُمُومُهم بالله قد عَلِقَت *** فما لهم هِمَمٌ تسمو إلى أحد

فمطلب القوم مولاهم وسيدهم *** يا حسن مطلبهم للواحد الصمد

ما إنْ تَنَازَعهُم دُنْيا ولا شرف *** من المطاعم واللذات والولد

ولا للبس ثياب فَائِقٍ أنِقِ *** ولا لروح سرور حلَّ في بلد

إلا مسارعة في إثْرِ منزلة *** قد قارب الخطو فيها بَاعِدُ الأبد

فهم رهائن غدران وأوديَة *** وفي الشوامخ تلقاهم مع العدد

وبالنظر في الأقوال المتقدمة نجد أن كل تعريف من تعريفات أئمة التصوف والمنتسبين إليه يشير إلى جانب من الجوانب، وهذه الجوانب مجتمعة تشير إلى جوانب عظيمة من جوانب هذا الدين فالتصوف السني ينبغي أن يتوفر فيه جميع ما ذكر من زهد وإخلاص ومجاهدة وخلق كريم وتسليم لرب العالمين والتزام بشرعه وترك للتكلف، وأن يلتزم المنتسب إلى الله تعالى  بالعبادة الدائمة لله عز وجل كما أمر، والبعد عن كل ما نهي  الشارع عنه، وعن البدع المضلة وعن الفكر الغريب والفلسفات الباطلة.

ولقد عرف ابن خلدون التصوف بأنه هو " العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى  والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة ". مقدمة ابن خلدون 281, وراجع : مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي : محمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) ص 13- 16.

عن يونس بن ميسرة ، قال : ليس الزَّهادة في الدُّنيا بتحريم الحلال ، ولا بإضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدُّنيا أنْ تكونَ بما في يد الله أوثق منك بما في يدك ، وأنْ يكونَ حالك في المصيبة وحالُك إذا لم تُصب بها سواءً ، وأنْ يكون مادحُك وذامُّك في الحقِّ سواء .

 

ثانياً : نشأة التصوف :

لم تعرف كلمة التصوف إلا في أواخر القرن الثاني وشاعت في القرن الثالـث للهجـرة إلى يومنـا هذا .

وقد استعمل كلمة التصوف شيخ الإسلام ابن تيمية وامتدح بعضاً من أئمة التصوف، وتكلم في ألفاظهم المستعملة ، ورد على المنحرفين منهم ، وقال نقبل ما عندهم من حق ونحثهم عليه ونرد باطلهم ونزجرهم عنه. مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي : محمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص16، 17.

ولم يكن التصوف معروفاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا في عصر التابعين رحمهم الله ، وإن كانت حقيقته معروفة ، إذا كانت حقيقته تعني الإخلاص وحسن الظن بالله تعالى , وحسن التوكل عليه والانشغال به عمن سواه .

وفي القرن الأول لم يكن يعرف اسم التصوف، بل كان أهله يعرفون باسم الزهاد والنساك والبكائين , وليس باسم الصوفية، وكان اعتقادهم صافياً وإيمانهم نقياً خالصاً وما كان ابتعادهم عن الدنيا إلا لارتياعهم من عذاب الآخرة،وخوفهم من خالقهم فهرعوا إلى الكهوف والمغاور ورؤوس الجبال حيث الوحدة الصافية والانعزال عن صخب الحياة المادية .

ثم بعد مضي عصر الصحابة والتابعين وفي أواخر القرن الثاني الهجري بدأ لفظ الصوفية يظهر ، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (164ـ241هـ) وأبو سليمان الداراني المتوفى سنة 215هـ وقيل إن أول من بنى دويرة للصوفيـة هو بعض أصحـاب عبد الواحد بن زيد المتوفى بعد الخمسين ومائة للهجرة. وهـو مـن أصحاب الحسن البصري وكان ذلك في البصرة (وإن أول من عرف باسم صوفي في المجتمع الإسلامي هو أبو هاشم الصوفي المتوفى قبل منتصف القرن الثاني الهجري)  (ويقول عمر رضا كحالة ورد لفظ (الصوفي) لقباً مفرداً في النصف الثاني للهجرة إذ نعت به جابر بن حيان الكوفي وأما صيغة الجمع (الصوفية) فإنها ظهرت فيما انتهي  إليه عمر رضا كحالة عام 199هـ) .

مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) - ص 18.

ويرى المؤرّخ والرّياضي والفيلسوف محمد بن أحمد البيروني (د/440) أنّ مَرَدَّ التَصّوف في بلاد المسلمين إلى تصّوف الهندوس في الهند، وقد نشأت وثنيّتهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بألفي سنة وأخذها منهم البوذيّون منذ انفصالهم عنهم بعد ألف سنة من نشأة الهندوسيّة، وأنّ كلمة المتّصّوف جاءت من كلمة فيلسوف أي: محبّ الحكمة. والبيروني حري بأن يَشْهد بما عَلِم؛ لطول مُكثِه في الهند يَدْرسُ أحوال أهلها عدد سنين، ولِذِهْنِه الرّياضي ودقّته في البحث ثم في تسجيل نتائج بحثه، ولسعة اطلاعه وطول باعه في المعرفة، يدلّ على ذلك ما ذكره ياقوت عنه (من أن سجلّ مؤلّفاته بلغ ستّين ورقة) وكثرة نقله عنه (أعلام الزّركلي) ويدلّ على صحّة استنتاجه أن الله ذكر في كتابه الكريم أنّ النّصارى (قبل المسلمين) نَزَعُوا إلى شيء من المنهج التصّوفي وأنّه مما ابتدعه البشر وليس مما شرعه الله فقال تعالى : {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا}[الحديد: 27]، وعَنْ أَبي سَعِيدٍ ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:لَتَتُّبِعُن سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ، شِبْرًا بِشِبْرٍ ، وَذِرَاعًا بِذِرَاع ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبّ لَسَلَكْتُمُوهُ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، اَلْيَهُودَ وَاَلنُّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟.أخرجه أحمد 3/84(11822و"البُخَارِي" 4/206(3456) و"مسلم" 8/57(6875) .

وأما التصوف الذي هو قرين الزهد والتقلل من متاع الدنيا وملذاتها وهو امتداد لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وإن كان هذا الزهد لم يعرف باسم التصوف إلا في أواخر القرن الثاني الهجري فإن أصله ومعناه وحقيقته كان معروفاً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حث على ذلك القرآن الكريم في كثير من آي الكتاب الحكيم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[فاطر:5]. وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:65].وكذلك كثر ذكر الزهد في كتب الحديث والسنن وكثرت أبوابه، والناظر فيها يجدها قد اشتملت على أبواب كثيرة مثل باب الزهد في الدنيا ، باب فضل الجوع ، باب القناعة والعفاف، باب فضل البكاء من خشية الله …… والناظر في هذه الكتب يجد كثيراً من الأحاديث والآثار الواردة في الزهد .

والزهد أو التصوف السني: له مصادره التي استقاها من القرآن الكريم الذي هو الأساس الذي يستمد منه كل علم شرعي شرعيته، وعليه يعتمد أهل الحـق فـي التمسك بحقهم. كما أن القرآن الكريم هو الكتاب الخاتم وهو الكامل الشامل كما قال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ٌ}[المائدة:3].

لذلك لم يهمل القرآن الدعوة إلى الزهد والتقلل من متاع الحياة الدنيا التي يضرب لها مثلاً بقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24].

وقال أيضاً:  {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:45- 46].

وكذا السنة النبوية  فالناظر في كتب السنن وفى شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يجدها مليئة بالدعوة إلى الزهد مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بْنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وقوله : " لاَ الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ.  أخرجه أحمد 4/137(17366) و"البُخَارِي" 4/117(3158) و"مسلم"8/212(7535) و"ابن ماجة"3997 و"التِّرمِذي"2462 .

وعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ فَقَالَ يَا نَبِىَّ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا فَقَالَ مَا لِى وَلِلدُّنْيَا مَا مَثَلِى وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ سَارَ فِى يَوْمٍ صَائِفٍ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا.أخرجه أحمد 1/301(2744).

وعند الرجوع إلى أحوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين نرى فيهم التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم بترك متاع الدنيا وزخرفها.

فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين وليَّ الخلافة دفع كل ما له في بيت مال المسلمين، فلما سئل عن ذلك قال: كنت أتجر فيه فلما وليتموني شغلتوني عن التجارة وحين وليَّ الخلافة خرج إلى السوق ليعمل فقال له الصحابة رضي الله عنهم: نفرض لك ففرضوا له قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم، فكان له برداه للصيف والشتاء إن أخلقهما " أي قَدِمَا " وضعهما وأخذ مثلهما وظهره إذا سافر ، ونفقته على أهله كما كان ينفق عليهما قبل أن يُستخلف، فقال أبو بكر رضي الله عنه قد رضيت .

وكان عمر رضي الله عنه على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه فحين فتحت عليه الدنيا كلمتاه عائشة وحفصة رضي الله عنهما في تغيير جبته التي كانت فيها اثنتا عشرة رقعة ويقدم له طعام يأكل منه وأضيافة، فأبا وقال إن له أسوة بصاحبيه فلا يجمع بين أُدمين إلا الملح والزيت، ولا أكل لحماً إلا في كل شهر ينقضي ما انقضى من القوم ولما قدم له ما ء قد شيب بعسل فقال: إنه لطيِّب وقال:  {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}[الأحقاف:20]. فأخاف أن تكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه " .

وفي البداية والنهاية لابن كثير أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج بسيفه إلى السوق وقال: من يشتري مني سيفي هذا فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً ما بعته .

ورضي الله عن أبي الدرداء إذ يقول: والذي نفس أبي الدرداء بيده ما أحب أن لي اليوم حانوتاً على باب المسجد ، لا يخطئني فيه صلاة ، أربح فيه كل يوم أربعين ديناراً وأتصدق بها كلها في سبيل الله. قيل له: يا أبا الدرداء وما تكره في ذلك؟ قال: شدة الحساب .

والمتبع لقصص الصحابة في (الحلية) ، و(كنز العمال) ، و(البداية والنهاية) ، وكتب السنن يجد الشيء الكثير من ذلك وكذلك قصص التابعين.

 وعند تتابع أحداث الفتنة في الدولة الإسلامية بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه ظهرت في الكوفة جماعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد وخاصة بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه وسموا أنفسهم بالتوَّابين أو البكَّائين. كما ظهرت طبقة من العبَّاد غلب عليهم جانب التشدد في العبادة والبعد عن المشاركة في مجريات الدولة، مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة، واشتغالهم بالكتاب والسنة تعلماً وتعليماً، بالإضافة إلى صدعهم بالحق وتصديهم لأهل الأهواء. كما ظهر فيهم الخوف الشديد من الله تعالى، والإغماء والصعق عند سماع القرآن الكريم مما استدعى الإنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم رضي الله عنهم، وبسببهم شاع لقب العُبَّاد والزُهَّاد والقُرَّاء في تلك الفترة. ومن أعلامهم: عامر بن عبد الله بن الزبير، و صفوان بن سليم، وطلق بن حبيب العنزي، عطاء السلمي، الأسود بن يزيد بن قيس، وداود الطائي، وبعض أصحاب الحسن البصري.

ولقد تطور مفهوم الزهد في الكوفة والبصرة في القرن الثاني للهجرة على أيدي كبار الزهاد أمثال: إبراهيم بن أدهم، مالك بن دينار، وبشر الحافي، ورابعة العدوية، وعبد الواحد بن زيد، إلى مفهوم لم يكن موجوداً عند الزهاد السابقين من تعذيب للنفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحاري، وترك الزواج. يقول مالك بن دينار: "لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب". وذلك دون سند من قدوة سابقة أو نص كتاب أو سنة.

وهؤلاء هم الذين لبس عليهم إبليس كما قال ابن الجوزي " وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات فمنهم من أراده أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم وشبهوا المال بالعقارب ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى أنه كان فيهم من لا يضطجع وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري. ابن الجوزي : تلبيس إبليس 147.

ولكن مما يجدر التنبيه عليه أنه قد نُسب إلى هؤلاء الزهاد من الأقوال المرذولة والشطحات المستنكرة ما لم يثبت عنهم بشكل قاطع كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.

ويلخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التطور في تلك المرحلة بقوله: "في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام ، والتصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهر أحمد بن علي الهجيمي ت200هـ، تلميذ عبد الواحد بن زيد تلميذ الحسن البصري، وكان له كلام في القدر، وبنى دويرة للصوفية ـ وهي أول ما بني في الإسلام ـ أي داراً بالبصرة غير المساجد للالتقاء على الذكر والسماع ـ صار لهم حال من السماع والصوت ـ إشارة إلى الغناء. وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل، وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين".

ولقد ظهر التصوف نتيجة لعدة ظروف وملابسات من أهمها :

1-    التصوف رد فعل لتيار الحياة المادية الذي غلب على كثير من المسلمين منذ قيام الدولة الأموية .

2-    التصوف استكمال لقصور علماء الرسوم في الفقه وفي التفسير .

3-  التصوف رد فعل لتصور المتكلمين للعقيدة . راجع : أحمد محمود صبحي : التصوف إيجابياته وسلبياته ص 20.

ولم يكن التصوف الحقيقي له دوره السلبي في الحياة الاجتماعية الإسلامية بل كان في بعض فترات التاريخ له دوره الايجابي والمهم فقد استطاعت الدولة النورية التأثير على التصوف السني، وساهم التصوف السني في محاربة الدولة الفاطمية ومّد نفوذه في أنحاء بلاد الشام ومصر مع توسع الدولة النورية خارجياً والتي كانت من وسائلها دعم التصوف السني لمقاومة المذهب الإسماعيلي والتيار الفلسفي، وقد مدت مقاومتها إلى مصر أيضاً ولذا كان اتساع نطاق الاتجاه الصوفي على مستوى قطاعات جماهيرية كبيرة فيما بعد في عهد الأيوبيين والمماليك. الصلابي : عصر الدولة الزنكية 311.

فقد دعم نور الدين التصوف السني وبنى لهم خوانق وربط واستفاد منهم في الدعاء وجمع المعلومات على الأعداء وفي الجهاد وكان يرحب بهم في بلاطه ويتواصل مع شيوخهم، واستطاع نور الدين أن يستفيد من التصوف السني في محاربة الدولة الفاطمية في بلاد الشام ومصر واستفاد من هذه الطاقات الكامنة في الأمة ولم يعاديها.الصلابي : عصر الدولة الزنكية 396.

ويقول أبو الحسن الندوي في كتابه : " المسلمون في الهند ص 140 ": إن هؤلاء الصوفية كانوا يبايعون الناس علي التوحيد والخلاص واتباع السنة . وقال أيضا في كتابه : "روائع إقبال ص 7 "ولولا وجودهم وجهادهم لابتلعت الهند بحضارتها وفلسفتها الإسلام" .

 

ثالثاً : من أشهر أعلام التصوف :

1- الحسن البصري( ت 110 هـ ) :

هو أبو سعيد ، الحسن بن أبي الحسن بن يسار ، كان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، وكان يسار من سبي حسان ، سكن المدينة ، وأعتق وتزوج في خلافة عمر رضي الله عنه بأم الحسن وأسمها خيرة، كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة المخزومية .

ويعتبر الحسن البصري من علماء السلوك النادرين وممن اهتموا بأمراض النفوس وعلاجها، وإحياء القلوب وإمدادها بالإيمان والمعاني الربانية السامية، وكان رحمه الله سليم العقيدة، متقيد بالكتاب والسنة في تعليمه وتربيته، ولا شك أن الأساس في التصوف السني هو الالتزام بالكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة.

قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي قال: أدنه من الذكر، وقال: إن القلوب تموت وتحيا، فإذا ماتت فاحملوها على الفرائض، فإذا هي أحييت فأتبعوه بالتطوع. الزهد للحسن البصري صـ123 .

وكان يقول: سبحان من أذاق قلوب العارفين من حلاوة الانقطاع إليه، ولذة الخدمة، له ما علق همهم بذكره وشغل قلوبهم عن غيره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته، ولا أقر إلى أعينهم من خدمته ولا أخف على ألسنتهم من ذكره سبحانه وتعالى مما يقول الظالمون علواً كبيراً، وكان يقول: تفقد الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة والقراءة والذكر، فإن وجدت ذلك فامض وأبشر وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه. الزهد للحسن البصري صـ79 .

2- إبراهيم بن أدهم (199) :

هو إبراهيم بن أدهم بن منصور البلخي التميمي كنيته أبو اسحق، كان أبوه من ملوك خراسان وكان موسراً ، وعاش مترفاً منعماً ، وقد خرج إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه للصيد فسمع صوتاً يناديه فالتفت إليه فلم ير شيئا وتكرر ذلك معه ، ثم قال له المنادى: ما لهذا خلقت ولا بذا أمرت فعزم أن لا يعصي الله تعالى  بعد ذلك ورجع إلى بيته فترك فرسه وعمد إلى أحد رعاة أبيه فأخذ منه جبةً وكساءً وتخل عن ثيابه وترك المتع.

 خرج إلى العراق وإلى الشام طلباً للعمل وللرزق الحلال وتجول فيها وكان يأكل مـن عمل يده ، كان يعمل بالحصاد وجني الثمار وحفظ البساتين والحمل والطحن ، وكان إذا أنهي  عملـه قبـل أن ينـام ينادي في الناس من يريد أن يطحن ؟ فيأتيه الناس فيطحن لهم بلا كراء.

 أخذ عن كثير من علماء العراق والحجاز ، وكان قد تفقه ، وكان يشترك مع الغزاة في قتال الروم. وكان يتكلم الفصحة ولا يلحن في العربية ، وكان إذا وقف سفيان الثوري في مجلسه يعظ أوجز مخافة الزلل.

 كان يلبس في الشتاء فرواً لا قميص تحته، وفى الصيف لا يتعمم ولا يحتذي، وكان يصوم في السفر والإقامة.

 ولمـا سئل كم لك في الشام ؟ قال: أربعة وعشرون عاماً ، ولما سئل ما جاء بك إليها قال: لأشبع من خبز الحلال.

عمل في أحد البساتين سنين ، فجاءه صاحب البستان وطلب منه رماناً حلواً فجاءه به فوجده حامضاً فقال له: تأكل فاكهتنا سنين ولا تميز الحلو من الحامض. فأقسم أنه ما أكل فاكهتهم ولا يميز الحلو من الحامض.

وجاءه عبد لأبيه يحمل له عشرة آلاف درهم ، ويخبره أن أباه قد مات في بلخ وخلف له مالاً كثيراً، فأعتق العبد ووهبه الدراهم ولم يعبأ بمال أبيه.

 هذا هو إبراهيم بن أدهم الذي ترك الدنيا ومتاعها طلباً لبحبوحة الجنة وقد توفي رحمه الله سنة 161هـ –778م. وأخباره كثيرة وفيها اختلاف في مسكنه ونسبته ووفاته.

 3- عبد الله بن المبارك (200):

 هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي بالولاء التميمي المروزي ، يكنى بأبي عبد الرحمن وهو شيخ الإسلام ، كان من الربانيين في العلم الموصوفين بالحفظ المذكورين بالزهد وقد جمع الحديث والفقه والعربية ، وأيام الناس والشجاعة والتجارة، والمحبة عند الفرق، كان من سكان خراسان ولد سنة 118 هـ، سمع سفيان الثوري وشعبه والأوزاعي والليث بن سعد، أفنى عمره في الأسفار حاجاً وتاجراً ومجاهداً ، كان سخياً ، وكان يقضي الدين عن المدينين، ويسعى في فك المحبوس، له كتاب في الجهاد وهو أول من صنف فيه. مات بهيت على الفرات منصرفاً من غزو الروم سنة 181هـ.

قال الأوزاعى: لو رأيت ابن المبارك لقرت عينك.

وقال سفيان الثوري: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر.

قال ابن المبارك: زيادة دنياكم بنقصان آخرتكم ، وزيادة آخرتكم بنقصان دنياكم. وكان يقول: أحب الصالحين ولست منهم ، وأبغض الطالحين وأنا شرٌ منهم.

وقال: الصمت أزين للفتـى من منطق في غيـر حينه ، والصدق أجمل بالفتى في القول عندي من يمينه.

وسئل ابن المبارك مَنْ الناس ؟ قال العلماء: فمن الملوك ؟ قال: الزهاد. فمن سفلة الناس ؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.

  4- الفضيل بن عياض (201):

الفضيل بن عياض التميمي من بني يربوع ولد بخراسان ، قدم الكوفة وهو كبير كان ثقة ثبتاً فاضلاً عابداً ورعاً ، وكان من شدة الخوف نحيفاً.

كان كثير الحديث وسمع الحديث من منصور بن المعتمر وغيره ، وروى عنه ابن المبارك والشافعي وبشر الحافي وغيرهم. ثم تعبد وانتقل إلى مكة وكان لا يقبل هدايا الدولة.

وتوفى بمكة المكرمة سنة 187هـ في خلافة هارون الرشيد وكان ذلك يوم عاشوراء، وقد نيف على الثمانين عاماً. قال هارون الرشيد: ما رأيت في العلماء أهيب من مالك ولا أورع من الفضيل.

وقال إبراهيم بـن الأشعت: كان الفضيل إذا ذكر الله ، أو ذُكر عنده ، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكي حتى يرحمه من بحضرته. وقال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة يعظ ويذكر ويبكي كأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة فإذا وصلنا المقبرة جلس كأنه بين الموتى.

قال عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.

وللفضيل أقوال كثيرة في كتب التراجم منها: " من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة " . " ليس من عبد أُعطي شيئا من الدنيا إلا كان نقصاناً له من الدرجات في الجنة " ." ليست الدار دار إقامة وإنما أُهبط آدم إليها عقوبة " ." لو خيرت لاخترت أن أعيش كلباً وأموت كلباً ولا أرى يوم القيامة " وكان رحمه الله يكثر من صلاة الليل فيلقى إليه حصيـر فإذا غلبته عيناه استلقى عليه ثم يفيق يصلي .

 5- معروف الكرخي (202):

هو معروف بن فيروز " الفيرزان " الكرخى أبو محفوظ ولد في كرخ بغداد ونشأ فيها، كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدبهم فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة فيقول: بل هو الواحد فيضربه معلمه ضرباً مبرحاً فهرب وأسلم على يد على بن موسى الكاظم. وكان أبواه يقولان ليته يرجع على أي دين فنتبعه فرجع إليهما مسلماً فأسلما. وكان مولى من موالي علي بن موسى الكاظم وكان يحجبه فكثر الزحام فضغطه الناس فتكسرت أضلاعه فمات ببغداد سنة 200هـ.

لما حضرته الوفاة قيل له: أوصى. فقال: أوصى بقميصي إذا مت فتصدقوا به أريد أن أخرج منها عرياناً كما دخلتها. وقبره ببغداد مشهور ويزار ويستشفع به ويتبرك به ويستسقى به " وهذا لا يصح " وكان رحمه الله مشهوراً بالصلاح مستجاب الدعوة حريصاً على الحق ، ذات يوم مر بسقاء يقول رحم الله من يشرب وكان صائماً فشرب طمعاً ببركة دعائه. قال رجل لمعروف الكرخى: ما شكرت معروفي. فقال: وقع معروفك من غير محتسب عند غير شاكر. وقال معروف الكرخى: " طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور وارتجاء رحمة من لا يطاع جهل وحمق ".

 

رابعاً : التصوف السني والتصوف البدعي :

التصوف من حيث هو ظاهرة سلوكيّة وعباديّة، وتطهير للنفس الإنسانيّة وتأمل وفكر في الوجود، أصيل في الإسلام. فالتربية الروحيّة في المجتمع الإنسانيّ وصياغة شخصيّة الإنسان في ظلها لكي تحفظ توازنها أمام مغريات الحياة، كانت من المهمات الواضحة للوحي (القرآن والسنة).

فالقرآن الكريم قائم أساساً على الدعوة إلى الله تعالى وعبادته، وتطهير النفس الأمّارة بالسوء، وبيان سبل الاستقامة والسلوك الموزون في الحياة.

وإنّ الإيمان العقليّ المجرد بخالق الكون ثم بالقيم والفضائل التي تنبعث من هذا الإيمان لا يمكن أنْ يجعل من الإنسان يقظ الحس، رقيق الوجدان، مستقيم السلوك، رباني المشاعر، متطلعاً إلى رضوان الله بشوق وانتظار.

ولقد بقي الاتجاه الروحي على صفائه الإسلاميّ، حتى بعد تطوره إلى فكر، واتخاذه مصطلح "التصوّف" بوضوح ابتداء من القرن الثالث الهجريّ، حيث انقلب التصوّف إلى علم قائم بذاته، سمّي بعلوم الخواطر أو الأحوال أو المكاشفات. راجع : محمد جلال شرف، دراسات في التصوف الإسلامي، ص28.

يقول ابن خلدون:"هذا العلم من علوم الشريعة الحادثة في الملّة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصّحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحقّ والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذّة ومال وجاه، والانفراد في الخلوة للعبادة. وكان ذلك عامًّا في الصّحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفيّة والمتصوفة" ابن خلدون، المقدمة، 3/1063.

غير أنّ هذا الفكر الصوفيّ السليم الذي تضبطه ضوابط القرآن الكريم والسّنة النبويّة، لم يستطع أنْ يسيطر على عالم التصوّف، بل ظهرت منذ "الجنيد" بوادر انحرافات واضحة، تمثلت في شَطَحات الحلاج التي كانت نتيجة الغنوصيّة الشرقيّة (الهنديّة والمجوسيّة.) التي دخلت المجتمع الإسلاميّ، ودعت إلى الحلول عند الحلاج، والإشراق عند السهروردي الزنديق المقتول، ووحدة الوجود عند ابن الفارض والجيلي وابن سبعين وابن عربي، هذا الأخير الذي قال بوحدة الأديان وأوّل الحقائق الشرعيّة تأويلا منكرًا، ودعا إلى نظريّة الاتحاد بين الخالق والمخلوق، وغيرها. محمد الغزالي، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، ص 60 وما بعدها.

ويقول أيضا : "لو غربلنا التراث الصوفى وقدرنا جهود ابن القيم وابن الجوزى والغزالى وابن عطاء الله السكندرى وغيرهم لأمكننا أن نخرج بحصيلة رفيعة القدر فى مجال الخلق والتربية والسلوك ولأمكننا أن نصوغ نصف العلوم الإنسانية في قالب إسلامي جميل ونافع. لقد رفض كثير من الموجهين اعتبار التصوف علما، وتركوه للجماهير تتبع فيه آثار شيوخ لا يحسنون التربية والقيادة، بيد أن هؤلاء القاصرين كانوا أقدر على اقتياد العامة من فقهاء جافين مكروهين فقدوا صفاء النفس وسماحتها وطيبتها. فإلى متى يبقى هذا الموقف الرافض؟ وماذا كسبنا منه؟ كسبنا أن الدين عند العوام وأشباههم جملة من الأحكام الجزئية، والمعارف المبتورة، من ورائها طباع لم تهذب، وأهواء قد تعلن عن نفسها بمكر في صور الطاعات وقشور العبادات، أما الضمير فميت! إن الدين يفقد جوهره حين تضعف علاقته بالقلب، وعلم القلوب أو علم السلوك وجد في التصوف الإسلامي خواطره ومراحله، والمهم هو ضبطها بتعاليم الشريعة، ومنع العواطف السائلة الرجراجة من الانطلاق دون حدود. محمد الغزالي : علل وأدوية 154.

إنّ التصوّف لا يعدو أنْ يكون خطًّا فكريًّا، وُلد مبكّرًا في المجتمع الإسلاميّ، ومرَّ بمراحل وتطوّرات هامّة، وأثناء تطوّره تشكّلت فيه مدرستان؛ مدرسة التصوّف السّني التي يمكن اعتبارها "مدرسة تربية الرّوح، وتزكية النفس، وتطهير القلب، وهذه تحتاج إلى قليل من المراجعة ليستفاد منها في ميدان علم النفس والتربية والاجتماع والسلوك".

أمّا المدرسة الثانية، فهي مدرسة التصوّف الفلسفي التي اخترقتها تيارات الإشراق والغنوصيّة والحلول والأفلاطونيّة، فابتعدت عن معايير العقل فضلاً عن الوحي. وهذه الأخيرة هي التي قالت بالحلول، والاتحاد، والفَيْض، ووَحْدة الوجود، والحقيقة الباطنيّة، وأسقطت ظاهر الشريعة من الاعتبار، وهذه تحتاج إلى نقد وتفكيك ومواجهة علميّة، لهدم ما يبدو فيها من تناسق علميّ ومنطقيّ على غير أساس متين.

ومن هؤلاء من انحرف عن العقيدة الصحيحة فجاوز الحد في أمر الكرامة والولاية فأخذ يتمسح بالقبور وينذر ويذبح لغير الله ويستغيث بالأموات لطلب الشفاء ورفع البلاء , كما يفعل الطرقيون وفي هؤلاء قال الشاعر :

يا طالباً من دفين في الثرى مددا  * * * ‍ ليس الشراب  بمُروٍ ظامئاً أبدا
كيف اتجهت إلى من مات تسأله  ‍* * * سل الذي أبوابه لا تنتهي عددا
إنا وإياه أموات ويا عجباً  ‍* * *   لميت يبتغي من ميت مددا
ارجع إلى الله واسأله ما شئت  ‍* * *   فهو الذي أعطى الورى وهدى
محمد وهو خير خلق الله منزلة  * * *  لا يمتلك للورى ضراً ولا رشدا

قال أبو يزيد البسطامي : لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبدالأعلى أنه قال للشافعي أتدري ما قال صاحبنا يعني الليث بن سعد ؟ قال : لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به . فقال الشافعي : لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به؛ وتكلمت بهذا ونحوه بكلام بعد عهدي به . الفتاوى 11/666وانظر : عبد الرحمن عبد الخالق : الفكر الصوفي 131.

قال شيخ الإسلام : ((قد جمع أبو الفضل الفلكي كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سمّاه "النور من كلام طيفور" فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي ، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد ، رحمة الله عليه ، وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد وكل أحد من الناس يؤخذ قوله ويترك إلا رسول الله)).انتهى[الفتاوى13/257].

والإمام ابن القيم في كتابه القيم (مدارج السالكين) شرح فيه كتاب "أبي إسماعيل الهروي" (منازل السائرين) وهو من كتب التصوف وكانت حجته في ذلك أنّ الهروي من أهل الدين والصلاح ، ولا يُتصوّر منه أن يتكلّم بخلاف الشرع!.

ولما ذكر الهروي في كتابه قوله: ((الدرجة الثالثة : صفاء اتصال . يُدْرِج حَظَّ العبودية في حق الربوبيّة! ويُغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ، ويطوى خِسَّة التكاليف في عين الأزل))!!!.

علق عليه الإمام ابن القيّم قائلاً : ((في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير ، يَجْبُرُه حُسْنُ حالِ صاحبه وصدقُه ، وتعظيمُه لله ورسوله . ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلاّ له . ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتًا عظيمًا..)) إلى أن قال ((ولولا مقَامُه في الإيمان والمعرفة ، والقيام بالأوامر ، لكُنَّا نُسيء به الظنّ)). مدارج السالكين3/150ـ155.

قال الشاطبي في الاعتصام : إِن كثيراً من الجهال، يعتقدون في الصوفية أنهم متساهلون في الإتباع والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه، مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به. فأول شيء بَنَوْا عليه طريقهم إتباع السنة واجتناب ما خالفها، حتى زعم مُذكِّرُهُم وحافظ مأخذهم، وعمود نحلتهم أبو القاسم القشيري: إِنهم إِنما اختصوا باسم التصوف انفراداً به عن أهل البدع. فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسَمَّ أفاضلهم في عصرهم باسم عَلَمٍ سوى الصحبة، إِذ لا فضيلةَ فوقها، ثم سمي من يليهم التابعون، ثم اختلف الناس، وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية في الدين: الزهاد والعبَّاد. قال: ثم ظهرت البدع وادَّعى كل فريق أن فيهم زهاداً وعُبَّاداً، فانفرد خواص أهل السنة، المراعون أنفسهم مع الله، والحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف، فتأمل تغنم، والله أعلم .الاعتصام : للشاطبي 1/90.

أرأيتم كيف كان هؤلاء الأئمة الكبار يتعاملون مع المسألة ؟ وكيف كانوا ينشدون الحق ويسعون للانتصار له وليس للانتصار لأشخاصهم وذواتهم ؟ .

فهناك فرق شاسع وبون كبير ومنأى خطير بين التصوف الشائع الذي نراه –في أغلب الأحيان- وبين التصوف السني إذ أن الأول يضل أكثر مما يهدي للسواء والرشاد, ولكن الثاني هو طريق الحق وجادة الاستقامة مجرداً من البدع والوثنيات والشركيات التي تتعارض مع التوحيد الخالص . انظر : السيد الجميلي : التصوف السني 15.

فحقيقة التصوف السني هو الذي لا يخالف منهج العقيدة الصحيحة في الله , وليس فيه فلسفات ولا جدليات تؤدي إلى الشطح والانحراف , فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعقيدة بيضاء نقية صافية , عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ فَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِيِِِِ. أخرجه أحمد (3/387 ، رقم 15195)حسنه الألباني في ظلال الجنة 21.

اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً واجعلنا هداة مهتدين وجنبنا الزلل في القول والعمل .