نظرة في القومية والدين والمعاصرة

نظرة في القومية والدين والمعاصرة

مقاربات ملتبسة !

د. نصر حسن

[email protected]

(2-4)

في نظر الكثير من الحركات والأحزاب السياسية ومثقفي ( اليسار العلماني) التقليدي لمسألة القومية العربية , قسطاًكبيراً من التجريد وأكبر منه عجزاً  في قراءة  الواقع الحي للمفهوم نفسه من قبل هذه الفلسفة أو تلك النظرية , ولم تستطع تلك الأحزاب والحركات أن تجيب بوضوح ومباشرة على الكثير من الأسئلة التي يطرحها الواقع , من شاكلة هل العرب قومية واحدة ؟ ماهي جذورها التاريخية ؟ ماهي محدداتها وهل يمكن تحقيق كيان القومية العربية الواحدة , والدولة العربية الواحدة ؟ وضمن أية شروط وأية هيكلية ؟, وماهو دور الدين في ذلك ؟وماهي محدداتها الفعلية في الواقع الحالي ؟ وتأسيساً هل الوحدة العربية حقيقة موضوعية يمكن تحقيقها ؟ أم هي مجرد حلم وتعبير عاطفي عن هواجس ورغبات مثالية فرضها الإستعمار في مرحلة ما واليأس في معظم المراحل ؟!. والكثير من أسئلة أخرى لازالت بدون فرز منهجي وبدون إجابات فكرية وسياسية واضحة ,شأنها شأن ماعاشه الواقع العربي في السابق ,ومايطرحه الواقع العربي اليوم , حيث لازالت الأطر الفكرية والسياسية غير قادرة من الإجابة الموضوعية الصريحة عليه ,تتجلى في اللحظة الراهنة بيأس مطبق يطغى على الفهم والمفهوم على حد سواء.

وبديهي أن نزعة الإنتماء لدى الإنسان هي حاجة  فطرية ولدت معه وتستمر معه في سنة من سنن التاريخ , والتعبير عن هذا الإنتماء يأخذ أشكال شتى ومستويات متعددة حسب مستوى المواجهة مع الواقع ومستوى التطور العام والوعي الفردي والجماعي والقدرة على صياغته في مفاهيم نظرية عملية, وحسب التشكيلات الإجتماعية والإقتصادية التي تتصدر عملية الوعي وترجمته إلى مشروع سياسي معين هدفه العام هو التحرر والإستقلال وتحقيق العدالة الإجتماعية والمساهمة الإيجابية في حفظ التوازن الحضاري والإنساني , لكن اللبس الكبير الحاصل هو في فهم البعض على أن القومية عرق وهذا غير صحيح , أو أن القومية العربية هي ذات مواصفات خاصة تكوينية تمييزية عن الآخرين وهذا أيضاً غير صحيح , أو أن القومية العربية هي نفي للأخر القومي والديني والثقافي والحضاري وهذا منتهى الإجحاف والجهل بالمفهوم القومي العربي نفسه والقصور في فهم حركة التاريخ العربي وتجلياته السياسية والحضارية , قد يكون الإسقاط النظري الهجين على الواقع العربي هو مصدر الخلل المنهجي في فهم القضية القومية , الذي عبر عنه الإنفصال بين النظرية القومية والتجربة القومية السياسية الفاشلة في الفترة الماضية ,الأمر الذي انعكس سلباً على المفهوم القومي العربي وعلى الواقع العربي ,أي الشعوب العربية كلها , بتعبير أكثر وضوحاً هو الإنفصام بين الأحزاب السياسية القومية واليسارية وبين حاضنتها الإجتماعية المباشرة التي هي الشعوب العربية وواقعها وطموحاتها.

لسنا في معرض التقرير المنهجي للمفهوم نفسه بقدر ماندلي بوجهة نظر في هذا الموضوع ,وبعيداًعن الدخول في التحديدات المدرسية والأكاديمية النظرية , نستند للتاريخ العربي في الماضي والواقع العربي الآن لنستخلص بعض المحددات الموضوعية التي تساعد على فهم ومقاربة المفهموم بشكله العملي كما يعكسه الواقع لاكما يركبه التفكير المجرد ويسقطه على الواقع , إذ لاأحد يشك بأن هذه المجموعة البشرية التي تتكلم نفس اللغة ولها نفس التركيب الإجتماعي وتملك هوية ثقافية واحدة تقريباً هي الأكثر تجانساً في التجمعات البشرية في التاريخ , وتعيش على مساحة واحدة من الأرض ولها آلية تفكير واحدة تقريباً, ويوحدها شعور الإنتماء المشترك إلى الآن رغم كل ماتعرض له عبر التاريخ من محاولات الطمس والتشويه والإحتلال , وتشترك في إيمان عميق بالدين , باختصار هذا هو التحديد العملي الواقعي والعلمي لمفهوم الأمة , وأما مشروع الدولة الواحدة فهو رهن بالأداة السياسية وموازين القوى المادية التي تتصدر العمل في هذا الإتجاه , في النصف الثاني من القرن العشرين كانت تلك الأدوات السياسية ليست بمستوى الصراع القومي بمستوياته الداخلية والخارجية ,وهذا هو أحد مسببات الإستعصاء الذي تعاني منه معظم الدول العربية اليوم .

إذ مامن شك أن رواد النهضة القومية الذين عاصرا السيطرة الخارجية كانوا نواة الدعوة القومية , بدءاً من الإحتلال العثماني الذي تم تحت غطاء الإسلام إلى الإستعمار الذي تقاسم الدولة الإسلامية بعد تفككها , أي أن الآخر الذي يحتل الأرض وينهب الثروات ويصادر الحقوق الثقافية والقومية ويصادر رغبة الإستقلال هو الذي دفع إلى بروز المفهوم القومي من جديد في محاولة للحفاظ على الشخصية والحقوق والإستقلال , رغم أنه كان موجوداً بأوضح صوره في عصر الدولة الإسلامية وعبر عن دور أساسي في رفد الحضارة البشرية بأسس العلم والعدل والمساواة والقيم الإنسانية , حينها توحد الهدف والأداة وأنتج بناء عربي إسلامي إنساني وحضاري معروف في التاريخ , وعندما ضعفت الدولة الإسلامية وبرزت التيارات الإنعزالية  من الصفوية إلى الطورانية ...وأخذت شكل التناقض مع القومية العربية أولاً ومع الإسلام ثانياً وبدأ صراع المصالح الذاتية يتعارض مع الإسلام ورسالته وأصبح الصراع على السلطة وتحقيق المصالح هو المعيار , من هنا بدأ الصراع مع الإسلام وضمناً مع العروبة يأخذ طابع الإحتلال بأكثر مظاهره سوءاً وهو إلغاء الشخصية العربية واللغة العربية ( التتريك) وماعنى من مواجهة بين العرب والإحتلال الخارجي,

من رحم الإحتلال والمعاناة والتجريد من الحقوق ظهرت بواعث المفهوم القومي العربي الحديث,وهو امتداد لفعل حضاري عربي اسلامي له جذوره الواضحة في التاريخ ,لكن أخذ في مرحلة تفكك الدولة الإسلامية ومجيء الإستعمار صورة رد فعل مشروع حدد بعده القومي الواضح ومحتواه في الحرية والخلاص من الإحتلال والإضطهاد وحق الشعوب في تقرير مصيرها ,وهذا ماأعطاه شكلاً مختلفاً عن المفهوم القومي الأوروبي بل كان مناقضاً له لأن مفهوم القومية العربية أخذ منحى تحرري وإنساني وحضاري عبر عنه بوضوح رموز القومية العربية بإعادة التركيز على مفهوم الهوية والحرية والتنمية ,ومع استمرار نمو الشعور القومي الذي تجسد بشكل عملي بالنهضة والتحرر من الإستعمار وتحقيق الإستقلال السياسي لمجمل أجزاء الدولة الإسلامية التي أخذت  أشكال إدارية سياسية مستقلة أنتجت واقع التجزئة الحالي وبروز الدول القطرية, وأول مرة في التاريخ العربي يتراجع دور الإسلام الذي صاغ كل مكونات الأمة بشكل فريد وكان هذا أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تفتيت الأمة العربية إلى كيانات هزيلة وتغييب العامل الجامع ودفعها إلى التحرك بناءً على حوامل نظرية وفكرية جزئية ,ومع تجزئة الواقع الجغرافي تجزأ الواقع الفكري والسياسي,واختلطت الأمور بين تيارات سياسية طبعها الصراع والتنافر والقصورعن المقاربات الصحيحة وبالتالي الدوران حول محاور خارجية جعلت من الواقع العربي حقل تجارب لنظريات ملتبسة خارجية ليس لها صلة بالواقع العربي وتناقضات الشعوب الإجتماعية والإقتصادية ,ففقدت المشروع المستقبلي الواضح وأدخلت المنطقة في دوامة الضياع التي لازالت فيها...هل وقعنا في" سخرية التاريخ"؟!

...يتبع