مساحة الخلاف وحجم الود في أي قضية
د.محمد جمال حشمت
من أدبيات الحركة الإسلامية أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية وهى تكاد تكون من البديهيات على المستوى النظري يتكلم بها الكثيرون لكن لا يعمل بها إلا القلة التي تعي قيمة هذا السلوك الذي يجعل التحيز للحق أولى وإقرار العدل أسمى من كل شئ ! أحبك نعم ولكن حبي للحق أشد ، أتفهمك نعم لكن السعي وراء الحقائق أولى !
ومن هنا تنشأ كثير من المشاكل عندما يخشى الرجل من قولة حق أمام مسئوله أو كبيره فتترسخ معاني التفرد والإحساس بالصواب والتميز وامتلاك الحكمة وعدم القدرة على قبول الرأي الأخر في نفوس المسئولين كما تتوطن معاني الإحساس بالضمور العقلي والتبعية النفسية ورهبة المواجهة حتى ولو في الحق في نفوس الجنود الذين خافوا أن يفسد رأيهم أو موقفهم للود قضية ! ومن هنا صارت بعض المسلمات داخل الحركة الإسلامية لا تتعدى كونها إطارا نظريا وقيما معرفية لا علاقة لها بالواقع رغم أن القرآن والسنة النبوية المشرفة تمتلآن بالنماذج والمواقف ، فغياب الود قد يعنى غياب المواجهة أو الصمت أو الخصومة لا قدر الله وقد يمتلك الشيطان ناصية الموقف فنقع تحت ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "إذا خاصم فجر" وهنا تختفي ظلال "رحماء بينهم" وتتبدل مواقف العزة والذلة في "أذلة على المؤمنين" وقد تنتهي إلى قطيعة لا تتحملها النفس السوية ولا يقبلها التنظيم الذي يعمل في خدمة الإسلام على قاعدة الحب في الله التي تجمع بين أفراده هنا نتساءل أين مصلحة الدعوة في هذا الخلاف ؟ بل أين الأخلاق الأساسية التي تضبط حركة المسلم في حياته وعلاقاته وهو صاحب الرسالة والمبشر بها وسط أهله وإخوانه عسى أن يستيقظوا على حقائق عظمة هذا الدين!! وأين الفضيلة في حديث الرســول صلى الله عليه وآله وسلم (أفضل الفضائل: أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك) .
قد يغيب عن البعض أن الخلاف الحادث إنما في الفروع لا في الأصول وهنا تتسع مساحة الاجتهاد وتتعدد الرؤى ولامانع من الاستماع والبحث والتنقيب عن الحقيقة والأصوب اعترافا بما أقره الإمام أبو حنيفة من "أنى رأيي صواب يحتمل الخطأ وأن رأى غيري خطأ يحتمل الصواب" . وهنا قد نحتاج إلى معرفة كيفية تسوية مثل هذه الخلافات بعد أن نقر أن وجودها علامة صحة و أن منعها أو تحويلها إلى خصومة نذير شؤم على الجميع ! ومن أهل العلم – أنقل عنهم- من وضع استراتيجيات لمواجهة هذا الخلاف و فيما يلي نوضح لك هذه الإستراتيجيات:-
أولاً: إستراتيجية الانسحاب:- وهي أن الشخص عندما يشعر أن هناك بداية لخلاف لا نفع من وراءه يبدأ بتغيير موضوع الحديث بسرعة ويغض الطرف عن النقد.وقد يستسلم للطرف الأخر دونما حل للخلاف القائم
ثانياً: إستراتيجية الإكراه:- وهى تجعل من يتبع هذه السياسة يحرص في أي خلاف على أن يخرج منه منتصراً مهما كلفه الأمر من تدمير علاقات أو إساءة في الألفاظ أو التصرفات
ثالثاً: إستراتيجية التهدئة:- هذه السياسة من ينتهجها يحاول أن يجعل كل أطراف الخلاف راضية وسعيدة، فهو يهتم بالعلاقة مع الناس إلى درجة كبيرة حتى لو تصادمت مع مصالحه ، ومن وجهة نظره يرى أن التحدي والمجابهة مدمرة، لذلك عند بدء الخلاف يعمد إلى كسر حاجز التوتر.
رابعاً: إستراتيجية التسوية:- وهي سياسة مسك العصا من المنتصف وهي تشعر الأطراف في أي نزاع أنهم رابحون لأول وهلة مع أنهم في حقيقة الأمر خاسرون لأن هذه السياسة تعطي بعض الكسب لكلا الطرفين بدلاً من الانتصار للحق وإعطاء الكسب للمصلحة العامة والمرجوة من حل ذلك الخلاف.
خامساً: إستراتيجية التكامل:- تمثل قمة النجاح لحل الخلاف لأنها تتطلب مهارات إدارية واتصالية عالية المستوى وهي طريقة مشتركة لحل المشاكل, ويلزم على جميع الأطراف افتراض وجود حل ما وبالتالي هم يجتهدون لهزمية المشكلة لا لهزيمة أنفسهم. هنا يتضح أن الخلاف المقبول والذي ينظر إلى المصالح العليا هو علامة صحة كما أن محاولات استثماره لا كبته هي علامة نضج يجب أن تحرص عليه الحركات الإسلامية التي تقدم نفسها للشعوب كقاطرة من أجل الحق والعدل والحرية .