الحوار ثم الحوار

رضوان سلمان حمدان

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

إنَّ المتأمِّل لما يجري على الساحة العالمية الآن يجد نمَطًا من التعامل اللا إنساني يقوم على نفْي الآخر، وانتهاك حقوقه، واستباحة حرماته، دون النَّظر لاعتبارات الانتماء الإنساني، التي تجمَع بين البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، فنرى الآن قوةً واحدةً تسعى إلى السيطرة والهيمنة على العالم، وتحاول أنْ تفرض عليه أجندتَها وثقافتَها بل وقيمَها، دون اعتبارٍ لسُنن الاختلاف وطبيعة التبايُن التي وضعها الخالق عزَّ وجل في خلقه، وجعلها سمةً بين الأمم والشعوب لتحقيق عنصر التَّكامُل والتَّعارُف والتعاون فيما بينها؛ لما فيه خيرها جميعًا.. قال تعالى:  

{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } هود: 118-119

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا } الحجرات: من الآية 13.

 إن الولايات المتحدة والحلف الصهيوني- الغربي الذي تقوده يعتمدون في الغالبِ الأعمِّ استخدامَ لغة واحدة، هي لغة العنف والدماء والدمار، مع عدم طرْح خيار الحوار لعلاج أية مشكلة أو لحل أيِّ خلافاتٍ ولو حتى على سبيل إبراء الذِّمَّة والضمير أمام الرأي العام الإنساني.

 وكما هي العادة نجد قوى الاستكبار العالمي تقِف إلى جوار قوى الاستبداد الدَّاخلي في الكثير من بلدانِ عالمنا العربي والإسلامي؛ حيث السُّلوك الفاسد ذاته، القائم على الإكراه والجبْر ونفي الآخر وغلقِ كلِّ أبواب الحوار معه.

 وفي حقيقة الأمر فإنَّ هذا "الهروب من الحوار" لا يدل على القوة كما يتصوَّر البعض، بل يدلُّ على الضَّعف والإفلاس الفكري، فالأصل أن يعتمد الإنسان على عقله، والأصل في العلاقات الإنسانيَّة التَّعارُف والحوار، وليس القطيعة والاعتماد على القمعِ والجبر.

 فالضعيف المفلس فكريًّا الذي لا يستطيع الانتصار لموقفه ومبدئه، أو تحقيق مصالحه عن طريق الحوار والإقناع والعقل، يلجأ للقوة الغاشمة والقهر لتحقيق أهدافه وفرض أجندته.

 حوار الأخ قبل العدو

إن الأزمة الراهنة في فلسطين الحبيبة هي أزمةٌ بين إخوةِ دمٍ وعروبة ودين، ورفاقِ سلاحٍ.. رفقةٍ دامت سنوات طويلة منذ بزوغِ فجر المقاومة الفلسطينية ضد المحتل الصُّهيوني الغاصب، هي في الواقع أزمة تعكس تناقضًا بين مشروعَين، وفي الوقت الذي قام فيه أحد أطراف الأزمة (فتح) بغلقِ باب الحوار مع الطرفِ الآخر(حماس) إذ به يفتح باب الحوار مع الكيانِ الصُّهيوني!! هل يقول أي منصف بذلك؟! هل يرى أيُّ صاحب حسٍّ وطنيٍّ أنْ نتحاور مع الأعداء ونغلق في المقابل كافةَ السُّبل والمنافذ أمام الحوار مع الإخوة ورفاق السِّلاح؟!

مَن يقتل الأطفال  الفلسطينيين.. حماس أم آلة الرعب العسكري الصهيوني؟!

من يقتل رموز المقاومة؟!

من يُحاصر الشعب الفلسطيني؟!

من يمنع دخول الدَّواء والغذاء؟!

مَن الذي يُدمِّر الأرض ويحرق الشَّجر ويقطع الأرزاق ويمنع الأقوات؟!.. حماس أم الكيان الصُّهيوني؟!

 إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها تكشف عن الكثير من الحقائق التي تقف وراء هذا الموقف المُتعنِّت الذي تتبنَّاه بعض الأطراف الفلسطينيَّة؛ ممَّا يُفاقم كثيرًا من الوضع المتردِّي أساسًا داخل الأراضي الفلسطينية على مختلفِ المستويات الإنسانيَّة والسِّياسيَّة، بفعل ممارسات الكيان الصهيوني وليس بفعل ممارسات حماس!!

 ومن هنا يجب تبني موقفَ من الأزمة الفلسطينيَّة الرَّاهنة على أساس التأكيد على مجموعة من الثوابت، على رأسها وحدة التراب الفلسطيني، وضرورة الحفاظ على سلاح المقاومة، وحرمة الدم الفلسطيني، مع وجود مسارٍ وحيدٍ لحلِّ الأزمة، وهو مسار الحوار الداخلي الذي يضع الأجندة الوطنية الفلسطينية على قمة أولوياته، من إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس، وتفكيك المستوطنات، وإزالة الجدار العازل، وحق العودة للاجئين، والإفراج عن عشرة آلاف أسير في سجون الاحتلال.

 هذا هو الموقف الذي ينبغي أن يدعو إليه كلَّ الشرفاء في العالم العربي والإسلامي، وأن يتبناه كل الأحرار في العالم الخارجي ؛ حيث إنَّ مصلحة الشعب الفلسطيني لن تتحقَّق، ولن تستمر القضية الفلسطينية بذات زخمها السابق إلا بإصلاح ذات البَين الفلسطيني، بعيدًا عن مزايدات بعض الأطراف على القضية وعلى خيار المقاومة الفلسطينية، وعلى وطنية الفلسطينيين.. كل الفلسطينيين

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } الحجرات: 10.

 وقبل هؤلاء جميعًا فإنَّ القيادات الفلسطينية مُطالَبةٌ أكثر من غيرها بتبنِّي صيغة الحوار الوطني كحلٍّ وحيدٍ للأزمة الفلسطينية الراهنة، وقطعًا للطريق أمام العدوِّ الصهيوني للعب دور الشيطان في التفرقة بين الإخوة الفلسطينيين.

 ولكي يكون الحوار بين القيادات الفلسطينيَّة فاعلاً فإنَّه ينبغي له أن يقوم على مجموعةٍ من الأسس المتينة، من بينها احترام كل طرف لشرعية الآخر، واحترام خيار إرادة الشعب الفلسطيني، كما عبَّرت عنها صناديق الاقتراع في يناير 2006م، والتَّأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني، واحترام اتفاق مكة، وإقامة حكومة وحدة وطنية لكل الشعب الفلسطيني.

ومن نافلة القول التذكير بضرورة إيقاف حملات الشَّحن السياسي والإعلامي في وسائل الإعلام لإفساح المجال لحوارٍ هادئٍ، بعيدًا عن الشَّدِّ العصبي، وعن ضغط الأجندات الضَّيِّقة لبعض الأشخاص، الذين لا يُمثِّلون إلا أنفسَهم، ولحشد الشارع الفلسطيني للالتفاف حول قياداته، بعيدًا عن حالة الاستقطاب الراهنة التي أدَّت إليها مثل هذه الحملات.

 الإسلام وأسس الحوار

إنَّ الإسلام أكَّد على أنَّ أسس التَّواصُل العالمي لا تتم إلا بالحوار والتَّفاهُم، وعلى أساس احترام الخصوصيَّاتِ والهويَّات، وعلى أساسِ فهمٍ حقيقيٍّ لسنة الاختلاف التي وضعها الله تعالى في خلقه على النَّحوِ الذي توضحه الآية القرآنية الكريمة:

{  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } الحجرات: 13.

 إنَّ الإسلام في مجمله عبارةٌ عن تعاليم سماوية، نُزِّلت أساسًا من لدن حكيمٍ عليمٍ؛ لتحقيق مجموعةٍ من الأغراض والغايات، مثل إقامة شريعة الله عزَّ وجلَّ، وعبادته سبحانه، والتَّعارُف، وكلُّ ذلك لم ولن يتم إلا بالحوار.. والحوار وحده، فرسولنا الكريم- صلى الله عليه وسلم- لم يدعُ إلى الإسلام إلا بالحوار:

{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } النحل: 125، والتَّعارُف كسُنَّة كونية لا يكون إلا بالحوار.

 حتى إنَّ أدب الإسلام عند الخلاف في الرَّأي لا يكون إلا بالحوار، وهو ما أوضحه القرآن العظيم بشكلٍ لا لبْس فيه في سورة آل عمران:

{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ } آل عمران: 61

 وإذا كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد طالبه الله عز وجل بأن يستخدم لغة الحوار مع مَن يكذبون بالرسالة، فالأَولى أنْ يكون هذا هو المبدأ الذي يحكم بين البشر في خلافاتهم البينية.

 ونختم بتوجيه حديثنا إلى أولئك المقاومين المرابطين في بيت المقدس وأكنافها: أن { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } آل عمران: من الآية200

.. إنكم تمثِّلون خط الدفاع الأول عن الأمة في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني، ومن ثَمَّ فإن ثباتكم وصمودكم سوف تكون له آثاره وتداعياته، ليس فقط على حاضر ومستقبل القضية الفلسطينية، وإنما على مسيرة الصراع العربي الإسلامي- الصهيوني.