غيبيات الصراع ونبوءة المقاومة

د. علاء الدين شماع

أمريكا والعرب...2

غيبيات الصراع ونبوءة المقاومة

د. علاء الدين شماع

[email protected]

في ثورة مضادة على مثال ليبرالي عمل عليه أجيال من الأمريكيين , تستند إلى أيديولوجيا مذهبية مرتبطة بمغيَب ديني – عرَفناها وفصلَنا فيها في مقالنا السابق- محايثٍ لبنىً ثقافية فوق تاريخانية . لا أساس معرفي لها . إنما تهويمات توراتية .

يجهد تيار المحافظين الجدد , مثقفو أمريكا البارزون , و أصحاب القرار السياسي الأمريكي , بتلمس موطئ قدم لهم في العالم القديم في محاولة لتسطير تاريخ معاوض خاص بهم وفق طريقة غير أخلاقية في التعامل الإنساني.

تيار يطبعه نمط نفس –سلوكي غير مسبوق و غريب, يميز رجالاته في عدم قبول الآخر حضارياً , والثبات على نمطية فكرية أحادية البعد ذات طابع سوسيو- ثقافي يرونه مكتنزاً ,و نراه تمنُعاً شوفيني ,أخذ ينأى بهم عن أية إمكانية للمثاقفة و عن قبول أية إسقاطات حضارية تغني مجتمعهم.

و نحن لا نريد أن نقع في مغبة التعميم أو تغليب الانطباعات الشخصية على تحليل ارتأينا أن يكون موضوعياً , لكن ثورة مضادة تتوسط رؤىً قسيسية أخذت تنال من أمريكا الحرة كلها ,في مفاعيل تأثرت بها أولاً,و بالتالي العالم كله, و أولهم نحن العرب, لا بد أن تُدرس. ....

كانت أمريكا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين محل صراع فكري وأيديولوجي بين تيارين يسعى كل منهما لإظهار مبادئه المانعة الجامعة والقاطعة لأي شك وجودي في صوابية ما يقوله أمام الداخل الأمريكي والخارج العالمي .

من جانب , كانت نظرية نهاية التاريخ , التي تجسد الفكر الرأسمالي الأمريكي في مثال ليبرالي عولمي وحضاري كاسح ممكن التمثل من قبل الجميع في سبيل المضي عبر هذا المثال الغير قابل للعودة في طريق تنعم فيه البشرية بالرفاهية على كوكب خال من الحروب ووفق نهج ديمقراطي بمفهوم أمريكي .

و من جانب آخر , كانت عودة الظهور القوية لحركة البروتستانتيين الإنجيليين –و المحافظون الجدد منهم-على الساحة السياسية و الإعلامية الأمريكية في عام 1979 مع الداعية المسيحي الأصولي القس جيري فالويل , والتي نادت بتغيير وجه أمريكا العلمانية والليبرالية و جلب السياسة إلى الكنيسة وحشد الأنصار بدلاً من الذهاب بالكنيسة إلى السياسة ,وبمعنى يساوي الخارج عن تعاليم هذه الحركة بالعاق لدينه ومجتمعه .

تياران يعكسان تناقضاً معرفياً و مفاهيمياً في التوجهات لا ُيقبل معهما أي تفسير للالتقاء , وان حاول البعض من التيار الديني تفسير فكرة فوكوياما عن نهاية التاريخ ضمن حركة لهم تهتم بقضية نهاية العالم ومؤشراته. حيث أعلن فوكوياما ذلك مؤخراً في استهجان للشكل الذي تم به احتلال العراق ,و في إدانة مباشرة

لجورج بوش الابن .

إن صراعاً بين تيارين , أحدهما رأسمالي ليبرالي علماني , و الأخر رأسمالي ديني أصولي _ اصطلاح نقول به ونتبناه _ لا يفارقان مركزية متضخمة في الذات الأمريكية أساسها أن أمريكا أمامها فرصة لإعادة صياغة النظام العالمي نابعة من حالة فراغ يعيشها هذا النظام بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وكل حسب نظرته, إن صراعاً بهذا الشكل لا يفرض القول برؤية يسار أمريكي في وصف التيار الليبرالي العلماني , ويمين في وصف التيار الديني ,إنما نراه تدرجاً في اليمينية , بدءاً من أطياف التيار الأول و انتهاءً إلى أقصى يمين التيار الديني التكفيري , وكل حسب مقدار ما يتبناه من قبس مغَيب ديني أشرنا إلية . ففي سابقة غير معهودة وفي سياق حملاتهم الانتخابية المبكرة للرئاسة الأمريكية أخذ رجالات الحزب الديمقراطي – معقل الليبرالية – استعمال مسوح الراهب و عباءة القسيس و عظاته في محاولة حشد أكبر تأييد ممكن لهم .

إن استعمال الدين كمبرر سياسي غدا من ثوابت الأمور, التي فرضتها سياقات ثقافية عمل على صوغها رجال دين متعصبون , أخذت تفعل فعلها في تكوين إنسان أمريكا القرن الواحد و العشرين . إذ إننا أمام ما يمكن أن نقول عنه تآكل للنظام الديمقراطي أمام دور متنامٍ لخطاب ديني مؤثر . يفرض نوعاً من العصبية العمياء التي تسلب الحرية الفردية في الاختيار . يصاحبه تفسخ في المجتمع المدني الذي تحولت مؤسساته إلى بوق دعائي لهذا الخطاب .

إن أمريكا متعثرة رأيناها تخرج من أزماتها لأكثر من مرة وفق دينامية علمية و ثقافية مايزت مجتمعها على مدى مئة عام منصرمة , لم تعد أمريكا الواعدة فيما نراها عليه الآن, بل إن نظرة تشاؤمية أخذت تلف كل نماذجها الإبداعية و في كل مناحي الحياة , على قدر يساوي بين اللا أخلاقية و صورة البطل الأمريكي التي يرونه عليها حالياً.

إن التاريخ عبارة عن قدرة لمكان وقيمة تراكمية لزمان ما توفرا لأمة إلا وخًطت فيه سطورها الناصعة , وهذا ما تفتقر إليه أمريكا في قارتها النائية و مشروعها الاحلالي الكونيالي الذي قام على إبادة الهنود الحمر ,و عمرها الحضاري الضئيل . إن قدرة وقيمة ينبني عليهما أساس معرفي إبداعي يفضي إلى ثراء بنيوي,لايمكن أن يكون متعصباً و منغلقاً على ذاته, وتاريخنا العربي الإسلامي خير مثال, إنما يكون التدين فيه عتلة رافعة لحراك ثقافي بين أممي و تفاعل إنساني و حضاري يعكس تعاليمه الدينية السمحة, وليس تصورا شخصانياً مبهماً وفق مفهوم مارتن لوثر للتدين في مذهبه البروتستانتي , الذي تمثله أمريكا الحالية في أضيق معانيه .

إن النظام الاقتصادي واحد من هذه البنى , لابل هو شكلها الفعًال , وفي تهالك كل الأشكال و النظريات الاقتصادية البعيدة عن الفطرة الإنسانية , و أقصد أهمها الشكل الماركسي الشيوعي , الذي دخل في مرحلة ما – بعد الحرب العالمية الثانية- في سباق محموم للدفاع عن صدقية تطبيقاتة الاقتصادية مع المثال الرأسمالي, الأمريكي منه بالذات , و التي توقع منظروه حينها سقوطاً و تفتتاً ينال المجتمعات الرأسمالية, لأنها تفرض تشيؤاً واغتراباً لإنسانها الذي لايملك أدوات الإنتاج وعلى عكسها هي,كان توقعاً نال منها أول ما نال , بسبب من حرمانها الحرية لإنسانها .

ونحن لا نتوقع دواماً أبديا للنظام الرأسمالي الأمريكي أمام الاهتراء الاقتصادي الذي تعاني منه أمريكا الآن خاصة في تحولها من نظام رأسمالي ليبرالي علماني إلى نظام رأسمالي ديني أصولي , إن ديناً عاماً مقداره ثمانية ترليون دولار, وبواقع عشرين ألف دولار لكل فرد أمريكي من هذا الدين . لهو خير دليل على هذا الاهتراء.

وما يميز اقتصاداً يدير حروباً صليبة هو سرعة الربحية و عدم شرعية المصدر الربحي لا يمكن أن يدوم. إذ انه يعتمد في دعم قيمة عملته على دورة مالية للبترو –دولار في عجلة اقتصاده من خلال التحويلات المصرفية و العمولات التي تتم, وهذا مال لايملكه أصلاً , إنما يتحكم به ويديره, واقتصاد يعمل على إقامة الحروب وإنشاء بؤر توتر دائمة هدف تصدير السلاح من معامله الحربية لا يوزع دخلاً عادلاً على مواطنيه لا بمكن أن يخلق دورة مالية سريعة تعم فائدتهاعلى الجميع انما استفادة مباشرة لأفراد معدودين , هم السماسرة و المستشارون و أصحاب هذه المعامل. إن أفغانستان وحدها تدر مئتي مليار دولار سنويا من تجارة منظمة للمخدرات تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية .

هذا أهم ما يميز الرأسمالية الدينية الأصولية في شكل نظامها الاقتصادي الحالي , أنها بلا شك تحمل الانهيار السريع لأمريكا خاصة إذا واكبتها رؤىً وأفكار من مثل: - أشعر أن الله يريدني...

 - و أظنني ملاكاً يمتطي ظهر الزوبعة ليوجه العاصفة صوب الأشرار ...

- وإن السيد المسيح أفضل فيلسوف لدي كونه أنقذني من طريق الضلالة و دلني على الصراط المستقيم ( أقوال للرئيس جورج بوش)

القائد المتدين و التقي الورع الذي يعمل على تطبيق مشيئة الله على أرضه .

إن إعادة اكتشاف الله في أمريكا وفق هذه الطريقة الإيمانية , و التي يجسدها القس فالويل في أحد أقواله ( إن الإنجيل لم يلتزم الصمت بشأن قضية الحرب على العراق) . هل تمكننا من فهم أمريكا في حروبها القادمة ضدنا ؟ وهل ستمكننا بالتالي من اتخاذ فعل مقاوم مناسب يفشل كل مخططاتها ؟ أم أننا سنبقى

نحترب في ما بيننا في استخدام شرس لمغيَب الفكر الطائفي .