بين صورة وصورة
رغداء زيدان/سوريا
في طريقي اليومي إلى المدرسة أمرّ بشوارع كثيرة في بلدتي التي غزاها (التمدن) بمظاهره الاستهلاكية الفجّة, فأصبحت مزدحمة بسياراتها ودراجاتها ومحلاتها وقاذوراتها أيضاً!.
أسير في تلك الشوارع المليئة بأكياس لنايلون وعلب البيبسي والكولا وأغلفة البسكويت والشيبس والمحارم الملقاة في كل مكان فيضيق صدري وأتمنى لو يعود الزمان لتختفي هذه الصناعات التي ملأت شوارعنا بالقاذورات ونفوسنا بعمى الاستهلاك التافه, فمنظر أكياس الشيبس الفارغة وأغلفة البسكويت المتنوعة المتطايرة تبعث في نفسي غصة كبيرة, ليس لكونها قذارة قبيحة فقط بل لأنها دلالة على عدم إحساسنا بالخطر المحدق بنا في كل جانب.
هي دلالة على نوعية صناعاتنا التي لا تبعث أمة, ودلالة على انغماسنا في حمى الاستهلاك التي غرسناها في نفوس أطفالنا حتى فقدورا القدرة على الاستغناء عنها, دون أن نكلف أنفسنا عناء تعليمهم المحافظة على بلدهم ونظافته على الأقل.
وفي كل يوم تقريباً ينقذني من إحساسي باليأس الذي يسيطر علي منظر امرأة عجوز تكنس أمام باب دارها بهمة لا تعرف الفتور, رغم أن شارعها مليء كغيره بتلك القاذورات, ولكنها تقوم كل يوم بحملة تنظيف مستمرة, فتجمع تلك الأكياس الفاغرة وتكنس التراب والحصى بمكنستها العنيدة كأنها تقول : هذا بيتي ولن أسمح لك أيتها القاذورات بغزوه واحتلاله!
ما تقوم به العجوز الطيبة هذه كانت تقوم به معظم ربات البيوت, في كل شوارعنا وحاراتنا, فكانت المرأة تهتم بنظافة الشارع أمام باب دارها كاهتمامها بنظافة دارها من الداخل, ولم تكن تنتظر عمال النظافة (الذين بات يقتصر دورهم في كثير من الأحيان على جمع القمامة في سيارات مكشوفة قبيحة المنظر بطريقة غير متقنة فتسقط القمامة في الشارع وتزيده قذارة فوق قذارته).
وانظروا إذا شئتم إلى صور دمشق القديمة مثلاً وتمعنوا بالشوارع ولاحظوا كيف كانت الشوارع نظيفة أنيقة رغم بساطتها, أما اليوم فالصورة مختلفة, فليس هناك شارع (لا في دمشق, ولا في غيرها) يخلو من تلك القاذورات المشوهة للجمال المنذرة بالخطر.
لا أدري ما الذي حصل حتى تخلت النساء عن تنظيف أمام باب الدار كما تفعل تلك العجوز الطيبة (لعله داء التمدن الكاذب الذي أصاب مجتمعنا فنشر معه الفردية والأنانية وعمّق من غياب المسؤولية)
ولا أعرف لماذا تخلت الأمهات والآباء عن تعليم أولادهم ثقافة النظافة لتصبح سلوكاً يومياً كذلك السلوك الذي أدمنه الأولاد والكبار, أي شراء تلك الأكلات المضرة بالصحة وبالبيئة, ورمي مخلفاتها في كل مكان دون أي تفكير برميها في حاويات القمامة؟
وما يحدث للشوارع من توسيخ وتشويه يحدث في المدارس والحدائق وكل المرافق العامة الأخرى دون أي إحساس بالذنب أو تأنيب للضمير, ودون أي استعداد يلوح في الأفق لتغيير هذا السلوك المدمر, الذي نحسبه هيناً وهو عظيم.
ما أراه أمامي لا يبشر بالخير, ومعركتي اليومية ومعلمات مدرستي مع النظافة لم تعطي ثمارها مع الطالبات حتى الآن, فرغم مشاركتنا لهن بالتنظيف اليومي, ورغم المحاضرات المتكررة عن النظافة والذوق, ورغم المكافآت والتهديدات, وفرق النظافة الجوالة, مازالت الطالبات يرمين بما في أيديهن في أرض الصف وفي الباحة بل ومن شبابيك المدرسة إلى الشارع, وكأن كل عملنا هو عبارة عن (كترة غلبة لا داعي لها). إلا أن منظر العجوز ما زال يمدني بالقوة اللازمة للمتابعة كل يوم, لعل الله يهدي طالباتي ليصبح سلوك النظافة سلوكاً ملازماً لهن كما لازم تلك العجوز الطيبة, قولوا آمين!.