وفي ساحة الدعوة أدعياء وضحايا

وفي ساحة الدعوة أدعياء وضحايا

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في مقالنا السابق قدمنا ـ في إيجاز شديد ـ صورة الداعية كما يجب أن يكون، والقواعد والآليات التي يجب أن يأخذ نفسه بها حتى يؤدي رسالته على الوجه المنشود.

وكنت أتمنى أن أعالج موضوع الدعوة للإسلام خارج مصر، وواقع هذه الدعوة، وما يجب أن يكون عليه الداعية الخارجي. ولكن المشهود من واقع الدعوة والدعاة في الداخل يدفعني إلى تقديم الحديث عنه, فهو واقع مأساوي، ومأساويته في اطراد مستمر مع مرورالزمن. والمسئولية عن هذه الحال المنكودة تقع ـ بصفة أساسية - على "الكبار" الذين يتحكمون في أمور الدعوة والدعاة، ولا يواجهون هذه الحال بعقلية متفتحة، وتفكير واقعي محايد منصف، بعيدًا عن التوجيهات السلطوية، والتسلط الأمني.

وآخر تصريحات الدكتور الشيخ زقزوق ـ وقد جاء في أخبار اليوم بتاريخ 12 / 5 / 2007-  كان نصه "... وقال زقزوق أنه تم التنسيق بين وزارة الأوقاف والأزهر موضحًا أنه تم الاستعانة بعدد 2200 واعظ من الأزهر للعمل كأئمة، وسد العجز وإغلاق الباب أمام غير المؤهلين لاعتلاء المنابر. جاء ذلك أمس خلال افتتاح الوزير ـ يرافقه محافظ سوهاج اللواء محسن النعماني لمسجد "أبو خليفة" بمدينة جرجا بعد تجديده بتكاليف مليون و300 ألف جنيه" . وما أكثر تصريحات الشيخ زقزوق، وكلها أعجز من أن تقف على قدمين. ولا ننسى أن فضيلته جمع الأئمة والوعاظ في مسجد النور بالقاهرة في العام  الماضي، وشرع يوجههم صارخًا: "لا تقلدوا الشيخ كشك؛ فإن أسلوبه لا يتفق مع منهج الدعوة الإسلامية؛ لأنه كان يسب الناس، ويجاهر بأسمائهم على المنابر" كما طالبهم بألا تزيد  خطبة الجمعة على ربع ساعة".

وبعدها تلقيت على بريدي الإلكتروني عددًا من الرسائل موجهة إليّ من "أوقافيين" أئمة ووعاظً ممن حضروا اجتماع الشيخ الدكتور محمود زقزوق، وكل هذه الرسائل تلتقي على استهجان كلمات الشيخ الوزير، وأحدهم يقول في رسالته "... يا وزير الأوقاف إن الشيخ كشك كان في خطبه يحمل في شدة على الظلم والظالمين، الذين عاملوا شعبنا كأنه قطيع من العبيد، فهل هذا يعد سبًا وقذفًا، ونقضًا لمنهج الدعوة الإسلامية؟".

وفي رسالة أخرى تتدفق ظرفًا يقول كاتبها: ".. الوزير العجيب يطلب منا ألا نقلد الشيخ كشك.. وهل فينا من وهبه الله القدرة على تقليد هذا العالم الداعية العظيم؟!".

وفي ساحة  الدعوة كالمساجد والمؤتمرات والاحتفالات بالمناسبات الإسلامية.. نواجه بدعاة أدعياء لا يقصدون بمواعظهم وخطبهم إلا مسايرة السلطة، وإرضاء الحكام، وتبرير ما يقعون فيه من أخطاء.. وهذا المسلك يهز ـ بلا شك ـ ثقة الناس بهؤلاء، وخصوصًا إذا كانوا علماء كبارًا.

ونادرًا ما نسمع من هؤلاء كلمة حق تعارض "المشيئة السلطانية" فهم علماء كل عهد .. الذين يقصدون بكلماتهم ـ لا وجه الله ـ ولكن وجه السلطان، وفي ذلك تفريط في العقيدة، وعدوان على الحق، وتضييع للأمانة.

وإذا ما نظرنا إلى الدعاة المحليين الذين يتمثلون ـ بصفة أساسية -  في الوعاظ وأئمة المساجد، وجدنا أغلبهم ضعيف المستوى في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من فقه وحديث، وتفسير وغيرها.

ويرجع ذلك بصفةأساسية إلى "ضياع هوية الأزهر" وذلك بصدور ما سموه "قانون تطوير الأزهر سنة 1961م" وأصبح في الأزهر كليات علمية تجريبية، مثل كلية الطب، وقيل إن الهدف من إنشاء الكليات العملية هو تخريج دعاة متخصصين في تلك الفروع في تجربة جديدة تلبي احتياجات الدول الأفريقية، والآسيوية، وتضارع تجربة المبشرين المبثوثين في تلك المناطق، ومر قرابة نصف قرن، ولم يحدث أن أوفد واحد من هؤلاء الخريجين إلى أي من دول أفريقيا، وآسيا، للقيام بما تتطلبه الدعوة إلى الإسلام ونشر قيمه.

فالهدف الأساسي من هذا التطوير ـ كما زعم مشرعوه ـ هو الجمع بين الدراسات الفقهية والشرعية من جانب، والدراسات التجريبية والإنسانية من جانب الآخر، وذلك لتكوين "الطبيب الفقيه" و "المهندس الفقيه" و"الكيميائي الفقيه" حتى يسابق كل هؤلاء "المبشر الصليبي" الذي ينطلق بين القبائل البدائية في الأحراش والمستنقعات، يعالج المرضى، ويوزع الملابس والطعام، ويفجر الماء، ويبني المساكن، ويدعو للمسيحية و "للرب يسوع" الذي ينسب إليه المبشركل هذه الإنجازات.

ولكن التطبيق العملي خيب الآمال، كما أن الوسائل التي اتبعت لم تكن على مستوى هذه الطموحات، مع افتراض حسن النية عند الذين سنوا قانون التطوير، وفرضوه على الأزهر:

أ ـ فالجرعات الفقهية والشرعية في الكليات الأزهرية العملية ـ كانت، وما زالت من الضآلة بحيث لا تخلق فقيهًّا أو عالمًا يملك آليات الداعية الناجح.

ب ـ والطلاب الذين التحقوا بالكليات الأزهرية العملية، ما خطر لهم هذا "الأمل" أو "الطموح" ببال، وإنما الذي وجههم إلى هذه الكليات هو "سلطان" اسمه "مجموع الدرجات" في شهادة إتمام الدراسة الثانوية العامة أو الأزهرية، وهم بعد ذلك يسعون جاهدين وراء التخصص العلمي الرئيسي لهذه الكلية حتى يحصلوا على المؤهل المعادل لمثيله في الجامعات الأخرى، مثل القاهرة، وعين شمس.

وأنا على يقين من أن المواد الشرعية، ما كانت باعثًا لواحد من الطلاب للالتحاق بإحدى هذه الكليات، وأخشى أن أقول إنهم يستثقلونها، ولا يتحمسون لها.

واحترف المتخرجون في الأزهر نفس المهن التي اتخذها الذين تخرجوا في الكليات العملية المناظرة في الجامعات المصرية الأخرى، ولم نسمع بواحد منهم في مجال الدعوة الإسلامية في دولة من دول العالم الثالث، وكذلك في مجال الدعوة الإسلامية داخل مصر نفسها.

ولم نبالغ إذن حين قلنا إن القانون رقم 103 لسنة 1961م، قد قضى على هوية الأزهر، وضيع ملامحه التاريخية التي اشتهر بها بين الأمم الأخرى كقلعة من قلاع الإسلام والعلوم الإسلامية.

ولم يعد هناك وجود للكتاتيب التي كانت تقوم بتحفيظ القرآن وكان الشرط الأساسي لالتحاق الطالب بالمرحلة الابتدائية الأزهرية (قبل القانون 103) هو حفظ القرآن الكريم كله، انخفض إلى 18 جزءًا عام 1967م، وألغي عامان من التعليم الأزهري، عام من المرحلة الإعدادية وعام من المرحلة الثانوية، وخفف ثلث المناهج الشرعية، وفي عام 1991م أصبح المحذوف من هذه المناهج الشرعية 50%.

وفي عام 1997م زاد المحذوف منها إلى أن بلغ في الثانوي 60% , وفي الإعدادي بلغ 80%، وفي عام 1998م ألغيت السنة الرابعة في المرحلة الثانوية، والبقية تأتي إلى أن يوسد الأزهر التراب.

فلا عجب إذن أن تكون حال المتخرجين في الأزهر بعد القانون 103 لسنة 1961م من الوعاظ والدعاة بالصورة التي قدمناها، وهم في واقعهم ضحايا. ضحايا قانون مختل، وكبار لا يرون أبعد من أنوفهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.