في الطبيعة البشرية
في الطبيعة البشرية
بقلم: صبحي درويش
أجمل وانفع العلوم علم الإنسان بالطبيعة البشرية ولكن بالرغم من كل ما حققته البشرية من انجازات علمية و تقدم تكنولوجي وثورة معلوماتية ونهضة عمرانية ومعلومات مثيرة في(الكوسمولوجيا) و(الاركيولوجيا) و(البيولوجيا) و(الانثروبولوجيا) و(الطب) و(الكيمياء) و(أبحاث الأعصاب) و(أبحاث الجينات) و(علم الخلية)و(التاريخ) و(حفريات الجينات) و(الفيزياء الذرية)و(تكنولوجيا سيارة المستقبل) و(آخر تطورات السلاح النووي ) و( أبحاث الفضاء ). مازال الإنسان يجهل ذاته ولا يعرف دوافع تصرفاته وسلوكه. ومن الكتب القيمة التي تناولت النفس البشرية نجد ما كتب العالم الفرنسي (الكسيس كاريل) الحائز على جائزة نوبل في الطب وذلك في كتابه الرائع (الإنسان ذلك المجهول) وكذلك كتاب (الذكاء العاطفي) القيم لعالم النفس الأمريكي (دانييل كولمان) وللفيلسوف (ديفيد هيوم) كتاب جدير بالاهتمام والقراءة وهو(عن الطبيعة البشرية) وكذلك كتاب عالم النفس الأمريكي (سكينر) من مدرسة (علم النفس السلوكي) الذي ترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان (تكنولوجيا السلوك الإنساني) ، وفي هذا الموضوع الشيق هناك كتاب قيم (في الطبيعة البشرية) وهو عبارة عن حوارات للدكتور (علي الوردي) أجراها معه الكاتب (سعد البزاز) ويعتبر الكتاب حقا محاولة جادة لسبر أغوار الشخصية الإنسانية.أعتقد أن مكانة علماء النفس في الحياة مهمة جدا ،ومع الأسف نحن أميون في علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والفلسفة وكل الأدمغة عندنا تذهب إلى الهندسة والطب وما شابه ولا نعرف قيمة العلوم الإنسانية والاجتماعية ولا ندرك أن نهضة الفكر تؤسِّس لنهضة العلم، وفي رأيي كل المصائب والمشاكل والمعضلات التي تواجه الإنسان بالإمكان حلها لو فهمنا النفس البشرية فهما صحيحا ولن يعرف الإنسان السعادة وراحة البال وطمأنينة القلب إن لم يعرف نفسه.
إن الإنسان مخلوق معقد الكيان ويجمع بداخله أشد التناقضات فالإنسان يصعد ويهبط وتنتابه نوازع الخير والشر ويتذبذب بين العقل والحماقة والعلم والجهل وقد أجاد المبدع الروسي (دوستويفسكي) في رواية (الجريمة والعقاب) في تصوير تعاقب الخير والشر واجتماع الضعف والقوة وتداخل النبل والوضاعة في النفس البشرية معه و(تولستوي) أعاد كتابة روايته الرائعة (الحرب والسلم) سبع مرات يقدم ويؤخر ويحذف ويضيف ويعدل ويبدل حتى صارت بالمستوى الذي يرضاه لنفسه ولهذا ظهر من البشرية أنبياء ومفكرون وفنانون وعلماء وقديسون وأبرار يقول د. عبد الرحمن منيف في كتابه( الكاتب والمنفى) "الشخصية الإنسانية مزيج مركب ومعقد من الخير والشر معا ويتغلب جانب من الجانبين نتيجة الحياة والموقع وطبيعة التعامل وردود الفعل فتظهر احدى الصفتين في لحظة في مرحلة أو تتراجع لحساب الصفة الأخرى.. وأكثر الناس سوءا لديهم لحظات إنسانية ويتميزون بالضعف أو ما شابه من العواطف الإنسانية الحقيقية ومن الضروري معرفة هذه اللحظات أو هذه العواطف وتعريف الناس عليها أيضا أما اعتبار الشخصية حالا وحيدة متغلبة فإن ذلك يحد من رؤية الشخصية الإنسانية بغناها وتنوعها"ويقول(الوردي) "إن أفضل وصف وصف به العقل هو الذي جاء به الفيلسوف وليم جيمس إذ قال ما فحواه "أن العقل في الإنسان عضو خلقه الله جلا وعلا في الإنسان لمساعدته في تنازع البقاء على نحو ماخلق الخرطوم في الفيل والمخالب في الأسد والسيقان في الغزال والسم في العقرب الخ" ... والطبيعة الإنسانية والمزاج ترتبطان بعناصر شتى منها البيولوجي والمناخ والجو الاجتماعي والظروف المادية والسن.
وهناك تساؤلات كثيرة عن مكمن طبيعة الإنسان وهل هي مجرد قابلية وتتحدد بالتنشئة والظروف وهل التنشئة تخلق طبيعة ثانية وكيف يكتسب الإنسان معرفته وما هو معيار التحقق من هذه المعرفة ولماذا هو دائماً يكون مقتنعاً بما استقر في ذهنه ويستنكر قناعات الآخرين وما هي طبيعة العقل وهل له طبيعة واحدة أم له طبائع متعددة بمقدار تعدد الثقافات وما هي الدلالة الكبرى التي تشير إليها حقيقة التباين الثقافي بين الأمم وهل لكل أمة عقل خاص بها أم العقل البشري جوهر ثابت لا يتنوع حسب تعبير المفكر (إبراهيم البليهي)
يقول السير (آرثر كيت): " وليس في استطاعتنا أن نتبين حقيقة العناصر المعقدة المتنافرة التي تتألف منها الطبيعة البشرية وليس ثمة ما يحير الفلاسفة أكثر من طبيعة الإنسان من تناقضات فالحب والبغض والقسوة والرحمة والأمل واليأس والشجاعة والجبن كل هذه ترى في الفرد الواحد نرى الإيمان والثقة المتبادلة يتعاقبان في النفس الواحدة مع الريبة والخيانة ونرى الغيبة والأثرة الكاملة تظهران في أثر الإحسان وكرم السجايا والمرء يكون في لحظة ما مؤدباً دمث الأخلاق ولكنه ينقلب فظاً وقحاً في لحظة أخرى وتراه في الوقت عينه مصدقاً ومرتاباً كما تراه في ظروف خاصة يقتل ويسطو ويسرق ويخرج على كل الوصايا وترى الإنسان نفسه في ظروف أخرى يهب للمعوز والفقير ويضحي بحياته لعدوان وقع على الضعيف"
والدكتور(خالص جلبي) يستخلص في مقال دسم له تحت عنوان الهندسة النفسية ثلاثة أمور: "إن كل من يدعي فك أسرار الإنسان نهائيا هو إما مغفل أو مدعي. وأن الإنسان يشبه المحيط يتم اكتشاف بعض الجزر فيه من حين لآخر تنفع في الرسو ومتابعة اكتشاف هذا المحيط الذي لا يكف عن الاتساع. وثالثا أن من يدعي فهم كامل الإنسان من اجل السيطرة على تصرفاته واهم. حيث تتكسر كل نظرية عند عتبة قدمي الإنسان. وهذا بكلمة أخرى يعني أن الإنسان مجهول ومعلوم بنفس الوقت في زاوية تزداد اتساعا ومع كل جواب تقفز من جديد مجموعة أسئلة".
توهُّم الكمال من أكبر منابع الجهل والجور وحسب المفكر (البليهي) : " إن الكمال لله وحده أما الإنسان وإنتاجه وأعماله وأفكاره وفهمه فإنها كلها مغموسة بالنقائص والعيوب والآفات وهذه حكمة الخالق لأن الإنسان يستمد طاقته في العمل من بعض هذه النقائص فلولا حاجته إلى الأكل لما ابتكر كل ما يتعلق بالغذاء ولولا حاجته للكساء لما تطورت صناعة الأقمشة وهكذا بقية المبتكرات فالإنسان مخلوق ضعيف في بنائه الجسدي لكن الله منحه عقلا مبتكرا ولكن النقائص والاحتياجات هي حافز الإبداع وهذه لا يعني أن كل النقائص نافعة ففي الإنسان نقائص تلتهم طاقته وهذا التأرجح هو الذي يحقق التوازن وهكذا حتى هذا الحافز الرئيسي للإبداع والاختراع يكون أحيانا مثبطا فلا شيء يمكن قبوله بشكل مطلق ولا رفضه بشكل مطلق وإنما يجب أن يجري التقييم وفق مبدأ التغليب والترجيح فان وحقائق الوجود تؤكد استحالة تحقق الكمال في الأشخاص والأشياء والأعمال والأفكار فالشيء يكون جيدا إذا كانت منافعه راجحة على مضاره والشخص ينال الرضا ويوصف بالنجاح إذا رجحت مزاياه بنقائصه:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلاً أن تُعدَّ معايبه"فالنقائص هي الأصل في الطبيعة البشرية ومن الرشد أن نتقبل النقد برحابة صدر وانفتاح عقل ونقصد هنا بالنقد التقييم الموضوعي العادل الذي يستحضر نقائص الطبيعة البشرية ويحرص على تقييم العمل أو الشخص تقييماً موضوعياً عادلاً بقدر ما يستطيع البشر أن يكونوا موضوعيين وعادلين وأن نعَوِّد أنفسنا على الرؤية الموضوعية ونوصد أبواب التقديس المطلق أو النفي المطلق ونسعى إلى القيام بالعمل الجاد والتصحيح المستمر ونتعلم التعامل بشفافية ووضوح وتبادل الاحترام واختلاف الرأي وندعو إلى العلم والسلم وثقافة الحب والتسامح
تقول عالمة النفس الأمريكية (هيلين شاكتر): " إن كلاً منا مهتم بنفسه وكثيراً ما تتملكنا الحيرة عندما نحاول تفسير مشاعرنا وأفعالنا إننا في غالب الأحيان لا نعرف عن أنفسنا إلا النزر اليسير وبينما تكون نفسك هي موضوع اهتمامك كله فإنك أقل إلماماً بها من أي موضوع آخر إن ذلك يبدو غريباً لكنه هو الواقع"
و تقول " يلي اهتمامنا بأنفسنا اهتمامنا بغيرنا من الناس ومع هذا فغالباً ما نجد أن معلوماتنا عن الناس هي من القلة بحيث لا تمكننا من أن نعرف لماذا يتكلمون أو يتصرفون كل بطريقته الخاصة إننا لا نعرف الشيء الكثير عن الناس كشخصيات متباينة مختلفة ولو أننا عرفنا لكانت معاملتنا للناس أيسر وكنا أكثر توفيقاً ونجاحاً إن معرفة الإنسان لنفسه على جانب عظيم من الأهمية ومعرفته لغيره من الناس لا تقل عنها أهمية وكلما ازداد علمه بأسرار شخصيته ووسع إدراكه لغيره وتعرفه على أساليبهم ومميزاتهم أصبح أكثر توفيقاً في تعامله مع الناس"
يقول أحد العلماء: من لم يدخل جنة الدنيا لن يدخل جنة الآخرة فلذة الإيمان لا تعدلها أية لذة أخرى ومتعة مناجاة الله تقصر دونها كل المتع .!!