حين تحتاج الشعوب لفرض الوصاية عليها

على هامش موقعة مصر الجزائر

د. صفاء رفعت

[email protected]

كأنما فقدت الناس عقلها فجأة

وثار الشارع وماج وانفلت زمام كل شيء دون وعي من أي أحد

لو هناك أحد يستطيع أن يشرح لي فقط ماذا يحدث

هل نحن وحدنا العقلاء هنا أم نحن المجانين

أما الجزائر فيصدق عليها وعلى مصر مقولة القائل :

"ما أخيب من ستي إلا سيدي "

ولم يبق إلا دعاء وسكوت

اللهم سلم سلم

اللهم سلم….

كيف فقد الجميع عقولهم فجأة هكذا

ثم بدأت تخرج ضغائن النفوس والتخلف والعبقرية الرجعية

وعفونه متراكمة من سحيق الدهور فاحت رائحتها في كلمات الأفواه المأجورة

 

أصحاب العزائم المبتورة والضمائر المنخورة

مالذي يحدث بالله عليكم

هذا سفه يثير الضحك والغثاء

لكنه ضحك كالبكاء

وتتردد ومن كل جانب كلمات منتنة كأنها قنابل موقوتة لتفجر الفتنة أكثر وأكثر

صارت الكلمات كرات من لهب

وتتلاقفها في الجهات الأربع قنوات الفضائيات المسمومة والصحف المأجورة

لم يعد هناك صوت آخر ينادي بكلمة عاقلة وسط كل هذا النعيق

لم يعد هناك مرض وجوع وفقر وعري

أهذه هي الجموع التي تداس كرامتها صبح مساء دون أن تتمرد على الباغي والجابي والجلاد

أهذه هي الجموع المسحوقة على أرصفة الطرقات وتحت عجلات الأتوبيسات العتيقة المصفحة

أهذه هي الجموع التي اعتادت على مضغ الغل والغلب والدموع..

أهذه هي الجموع التي تعاني من وطأة الفساد وغباء الروتين اليومي الممل القاتل والتي تعرف وتقر دون استنكار أن أصغر معاملة تخطر على بالك لا يمكن أن تنجزها إلا بعد تفعيل خدمة الوسائط المتعددة ومشاكسة الأدراج الجانبية المفتوحة لموظفي الهيئات المنخورة بالفشل الروتيني والبطء البيروقراطي والفساد المنهك,,

أهذه هي الجموع المشنوقة في طوابير العيش وطوابير العيادات في المستشفيات الحكومية  وطوابير الانتظار في محطات المواصلات العامة والخدمات العامة والإهانات العامة,,

أهذه هي الجموع الراكدة في سكون الموت لا تهزها ريح الأزمات ولا تبالي بما يكون,  

أهذه هي الجموع الراقدة في انحباس الأنفاس المريضة على أسرّة لا آدمية أو حتى على بلاط الردهات في مشافي كالمراثي لا دواء فيها ولا شفاء ولا رحمة لعابر مسكين..

ألم يمت العشرات من أسابيع في قطار العياط وألاف من قبلها في مسلسل الفساد والبؤس وحرائق القاطرات وغرق العبارات المنتهية الصلاحية وانهيار الهضبة على عشوائيات الفقراء الغير محسبوبين في حساب البشر ويمضي الخبر كأي خبر , 

ولم يأكل بقية الأحياء خضار مزروعة بمياه الصرف وأرغفة معجونة بالديدان السامة وعلف الحيوانات,, ولم يشربوا مياه ملوثة ويتنفسوا هواءا مدخنا بكل أنواع السموم المنبعثة في غياب كامل للرقابة أو المحاسبة                           

أهذه هي الجموع الصامتة المقهورة المغلولة المغلوبة على أمرها؟

هي تعرف الأن كيف تثور لتثأر وتزأر وتنادي بالويل والثبور؟

فأين كانت وهي تصحو تنام على الغلب والإذلال ,

بل أين ولا أين كانت وأطفال غزة يتساقطون قتلى وصرعى ثم يقضون جرحى وجوعى,

أين كانت هذه الجموع الجميلة الأبية الغاضبة الحاشدة كل قواتها العاصفة الكاسحة حين تمرغ اسم مصر في وحل التاريخ  ونحن نقدم لإسرائيل ما لم تتوقعه هي نفسها حتى أن صحفهم كانت يوميا تشيد بالقبضة الحديدة لحصار رفح,

أين كانت وكل الأدوية والأطعمة والمساعدات تلفت بعد أن بقيت مركونة بالأيام والأسابيع في استاد العريش

عدنا الى الاستاد من جديد

ما الذي يحدث بالله عليكم

كنت أتعجب عجبا وأنا أتابع من بعيد, ثم أضحكوني والله وهم جالسين في كل الفضائيات التي حشدت لها كل الكوادر المثقفة المتعفنة من رؤساء تحرير ومقدمي برامج وفنانين ولاعبين وأبناء رؤساء!!! أضحكوني والله وأنا أراهم جالسين بالزي الرسمي يتقبلون العزاء والعواء هاتفيا حتى مطلع فجر القهر,

أضحكوني,

حتى بكيت,

بكيت ,

وقررت أن أعتزل كل شيء وأتوقف عن متابعة الميديا حتى تمر هذه الموجه المسمومة التي أصابت الجميع بالهيستيريا والسفه,

فاللهم سلم سلم...

لكني لا أعرف والله  كيف يصدقون أنفسهم,

جوقة عازفين نشاز وفرقة ممثلين يمثلون دورا سخيفا وساحة العرض مفتوحة على الهواء,

فضحونا في العالم كله والله

أنا أريد أن أقول لكم شيئا صغيرا قبل أن أضع كمامة معدنية على فوهة قلمي المبهوت:

( قالت منظمة بتسيلم الاسرائيلية لحقوق الانسان أن عام 2009 كان الاكثر دموية للفلسطينيين في العقدين الاخيرين من الصراع مع اسرائيل. و قالت المنظمة ان اكثر من الف فلسطيني قتلوا هذا العام حتى الان، ثلثهم على الاقل من الاطفال)

في الأسابيع القليلة الماضية تعرض المسجد الأقصى لاعتداءات متكررة ومدروسة من متعصبين يهود , واسرائيل عموما لا تلتفت عن عملها الدؤوب لرسم واقع جديد فوق الأرض وتفحت لتقوض دعائم التاريخ تحت الأرض وتمارس نشاطها وعنفوانها الكامل جوا وبرا وبحرا سرا وجهرا,,

ونحن لازلنا في خبر ليت أن !!

وأريد أن أقول لكم:  لقد سقطت بغداد ذات ربيع حزين من سنوات خمسة, ولا زالت أفغانستان ترزح تحت وطأة المؤامرة الممقوتة, التي صارت أسخف مما يحتمل, حتى أمريكا نفسها لم تعد تعرف كيف تبرر ما هي فيه فبدأت تهدد بانسحابها " كأن هناك من يتمسك بوجودها الاحتلالي الدموي التخريبي " , ولازالت سواط تعاني من القتل والسحق والتهجير, ومسلمي الإيغور لم يكن يعرف عنهم وعن أزمتهم أهل النيل قبل شهور قليلة شيئا وما دارفور عن أم درمان ببعيد , ولازال جسد الأمة مسجى يعاوده الشلل والسقام وتنهشه الكلاب المتأنقة المصبوغة الوجوه والتي لا يرى أحد دمامتها في المؤتمرات والحفلات والعروض التسجيلية ونشرات الأخبار المزروة , لكنها تأتي إلينا بشهوة دفينة للقتل, يقول مجند أمريكي سابق " في الطريق إلى بغداد كنت أتوق لأن أقتلع العيون بيدي وأثبت لنفسي أنني قادر على القتل.."

نعم ... لو صاح بالناس صائح صبيحة يوم قاتم أن الأقصى قد دنس واحترق لما هب لنجدته منهم أحد... بل لو صاح بهم النذير أن الكعبة الببيت الحرام قد احتلت لما اهتزوا ولا ارتجوا ولا تحرك فيهم ساكن.. ففيم كل هذا الجنون الآن ؟.. يتهارجون تهارج الحمر الوحشية , اللهم سلم سلم..

لا أحد يتربص بنا كما نتربص نحن بأنفسنا نحن نهدم التاريخ والإنسان والمستقبل في لحظة هياج واحدة ونتخيل أننا فوق التاريخ وفوق الأمم وفوق الحضارات بينما نحن وقوف يمر ركب الحضارات من بين أيدينا ونحن الخاسرين, لو كسبنا ما نحن فيه أو خسرنا, نحن الخاسرين في الحالين...

حين تحتاج الشعوب لفرض الوصاية عليها , للحجر عليها عن بكرة أبيها , في الحقيقة كنت أقول لو كنت أحكم هذا البلد قبل تلك المباراة الأولى المشئومة بعد كل ذلك الغثاء الذي طفحت به أعمدة الصرف في صحفنا اليومية, لو كنت أحكمها لألغيت الماتش وأعلنت انسحاب بلادي من المونديال في عز وأدب وكرامة , وإذا لم أفعل في أول مباراة فكنت دون شك سأفعل في الثانية مكتفيا بوهم النصر المزعوم, شاهت وجوه القوم وبئست مقولتهم العمياء , ولو كنت عاقلا رغم كل ذلك وواصلت الحكم بعدما رأينا وسمعنا لففضت المنتخب ومنعت لعب الكرة في شوارع المحروسة وحواريها حتى لو كانت كرة شراب إلى أجل غير معلوم حتى يبقى لنا شئ من عقل العقلاء في هذا البلد المسكين , ولكنت حرمت وجرمت الكلام في أمر الماتش والتسكع فيما جرى والتندر والنياح على ما كان وما سوف يكون في كل الفضائيات والصحف , ألم يمنع الكلام في قضايا فردية وأقل ضجة وتجييشا للشعب وأقل خطرا وإفسادا ولم تثر فيها مثل هذه الفتنة من قبل, كمنع النشر في قضية سوزان تميم وقضية قتل الفتاتين في الصحف المصرية والقنوات الإعلامية , فأيهما الآن أولى ؟

أم أن الذي يحدث الآن مدعوم وتنظر إليه السلطات بعين الرضا, وعين الرضا, عن كل عيب كليلة ...!!!

أين هي حكمة الرئيس التي قطعوا بها أنفاسنا في كل أزمة : (( هما بيستدجوا مصر للحرب ورجل الشارع منفعل وعاطفي ومتهور ولو دخلنا حرب اتخربت فيها البلد الناس هتقولك هو ليه الريس مشي ورا كلامنا مش كان يتصرف بعقل وحنكة ويحمينا, لذلك نحن لا ننساق وراء العواطف, مصر لها مواقف ثابتة وعارفه هي بتعمل ايه وامتى))..!! أين كل ذلك العقل وكل تلك الحنكة في مواقف كان ينشطر لها الصخر الأصم , لكن لسان حال قيادتنا يقول: يا جبل ما يهزك ريح, نحن الآن بحاجة لهذا الجبل الرازح لا تهزه الريح, بحاجة لكلمة تكبح جموح المرتزقة الذي يهيجون هذا الشعب التائه, هي كلمة واحدة لا تمييع فيها " الكلام ممنوع" فيتوقف كل هؤلاء المرتزقة الذين فاحت روائح تملقهم ونفاقهم وإفكهم وإفسادهم وأزكمت  النفوس وأرهقتها..

اسكتوا لا أنطقكم الله في فتنة أبدا..

-- --------

كلمة أخيرة لمصر التي تحيا في قاع القلب نبضاً حياً وحباً باتساع الفضاء وعطاءاً وصبرا وشموخا لا يعرفه العابرون الهامشيون الذين لم يقرءوا روح التاريخ ولم يفهموا هوية الأمة :

يقول الله تعالى :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)" سورة النور