فولتير والتنوير
فولتير والتنوير
بقلم: صبحي درويش
من الرموزالفكرية الكبيرة التي اسست لحركة التنويرالفكري الاروبي نجد المفكرفرنسوا ماري أروي François Marie AROUET المشهور ب فولتير والذي عاش في الفترة مابين(1694-1778) فقد كان العدو اللدود للتعصب والمتعصبين،و خصما لدودا للكنيسة ، ولعب فكره دورا مهما في إنضاج الأوضاع والتمهيد للثورة الفرنسية،فقد أصدر كتابه المشهور عن التسامح في عزّ المعركة التي كانت دائرة في فرنسا بين المتعصبين المتطرفين والفلاسفة حول حرية الاعتقاد والضمير، وحول الأقلية البروتستانتية، وحول عائلة «كالاس» البروتستانتية في مدينة تولوز وما أصابها من ويلات على يد الغوغائيين والمتطرفين الكاثوليكيين. ويقول ويل ديورانت صاحب كتاب (قصة الحضارة) إن القوانين كانت تقضي في تلك الأيام «بأن يوضع جثمان المنتحر منكساً عارياً على حاجز من العيدان المشبكة ووجهه إلى الأسفل ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة». ولكي يتجنب المدعو (كالاس) هذه الفضيحة فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخرج بوثيقة تقول إن ابنه مات ميتة طبيعية. ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد تقول إن الولد لم يشنق نفسه بل إن جان كالاس قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية كما فعلت أخته من قبل. فألقي القبض على الرجل وبدأوا في تعذيبه حتى مات. وهربت عائلته إلى فيرني لتقص الفاجعة على فولتير. ومن منفاه أطلق الرجل صيحته المعروفة «اسحقوا العار». وعلى الرغم من أن فولتير ينتمي، من حيث أصله العائلي، إلى مذهب الأغلبية الكاثوليكية إلا انه وقف بحزم لصالح هذه العائلة المضطهدة ودافع عن حق البروتستانتيين في الوجود وممارسة شعائرهم ومعتقداتهم. عندما طالب فولتير بالتسامح مع البروتستانتيين المضطهدين والمحتقرين من قبل الأغلبية الكاثوليكية فإن الأمر لم يصل به إلى حد مساواتهم الكاملة في الحقوق مع الكاثوليكيين لأنه كان يعرف أن هذا الشيء مستحيل في وقته .
ولكن مع ذلك حسبه فخراً انه تجرأ على تحدي النزعة الشعبوية الغوغائية ووقف إلى جانب الحق والعدل ضارباً عرض الحائط بكل انتماءاته المذهبية والعائلية.. وهكذا أصبح مضرب المثل على انخراط المثقف في القضايا العامة، ومخاطرته بنفسه وطمأنينته أحياناً من أجل القضايا العادلة. ومشى على خطاه في القرن التاسع عشر فيكتور هيغو واميل زولا، وفي القرن العشرين جان بول سارتر وميشيل فوكو من جملة آخرين عديدين. وأصبح يمثل الضمير الحي لكل امة عندما تصبح مسألة الحقيقة والعدالة على المحك،.ويعتبر فولتيرتلميذ الفيلسوف الانجليزي جون لوك الذي نشر كتاباً يحمل عنوان: رسالة في التسامح وكان ذلك منذ عام 1689وبعده نشر فولتيركتابه بعنوان: مقالة في التسامح و هذا يعني أن الفرنسيين والانجليز والأوروبيين بشكل عام كانوا مشغولين آنذاك بمسألة التعصب الديني ويحاولون أن يجدوا لها حلاً أو علاجاً، وكان فلاسفة أوروبا لا يتخذون الموقف الديماغوجي المتواطئ مع العصبيات الشعبوية.
بل ينخرطون في مناقشة ماكان طابوهات حقيقية متحملين المسؤولية والتعذيب، وعلى هذا النحو استطاعوا أن ينهضوا بشعوبهم ويسيروا بها على درب التقدم والرقي و فولتير من ابرز الذين قضوا حياتهم في المنفى من أجل أفكارهم وكتب 99 كتاباً وعاش حتى سن 83 وسجن في الباستيل مرتين وضربه الأوغاد بتوصية جيدة من النبيل (دي روهان) أن يشبعوه ضرباً دون رأسه فقد يخرج منه يوما شيئا عظيماً. وهرب إلى بريطانيا وفي فترة السنوات الثلاث التي قضاها هناك لاحظ الفرق فوصف بريطانيا «بأن فيها شعباً له آراؤه الخاصة وحريته المميزة، شعباً أصلح دينه وشنق مليكه وأنشأ برلماناً أقوى من أي حاكم في أوربا ولا وجود فيه للباستيل وفيه ثلاثون مذهبا دينيا بدون قس واحد». وعندما اندلعت حرب السنوات السبع بعد زلزال لشبونة صب فولتير كل جهده ضد الحرب ووصفها بأنها «أم الجرائم وأعظم الشرور وكل دولة تحاول إلباس جريمتها ثوب العدالة. إن القتل حرام وجميع أنواع القتل يعاقب عليها القانون زمن السلم. أما إذا نفخ في الصور وأعلنت الحرب فيصبح القتل بالألوف مباحاً». وهو يقول في ختام مقال له عن الإنسان في قاموسه الفلسفي «يحتاج الإنسان إلى عشرين سنة كي يبلغ أشده منذ كان جنينا في بطن أمه فحيواناً في طفولته وشاباً حين نضوج عقله، وثلاثة آلاف سنة ليكشف القليل عن جنسه، والأبد إلى أن يعرف شيئاً عن نفسه. ولكن دقيقة واحدة تكفي لقتله». لقد قضى فولتير حياته من أجل (حرية التعبير) وأطلق شعاره المعروف «إنني مستعد أن أموت من اجل أن أدعك تتكلم بحرية مع مخالفتي الكاملة لما تقول»..ومن هنا ضرورة إحياء مبدأ فولتير الذي يعد إنجازاً هائلاً في تاريخ الإنسان والرأي. وهو مكون من ثلاث فقرات: تقول الأولى أن المسألة لا تدور حول الصواب والخطأ لأن هذا محتم لكل واحد منا. وقداعتبر (ليسنغ)- وهومن فلاسفة التنوير- أن الله «لو وضع الحق في يمناه والشوق إلى البحث عن الحقيقة في يسراه ومعها الخطأ لزام لنا. يقول ليسنغ إنه سيخر على ركبتيه ضارعاً إلى الله أن يمنحه الشوق الخالد إلى البحث عن الحقيقة لأن الحقيقة النهائية هي لله وحده». وفولتير حينما يطلق حرية التعبير بدون حدود يخلق مناخ الحوار الذي يعدل الخطأ وينضج الصواب.
وفي الفقرة الثالثة منه يقول فولتير أنه سيدافع عن رأي الآخر حتى لو كان خطأ محضاً ليس دفاعاً عن الخطأ بل دفاعاً عن التعبير. لأن الخطأ يحق له أن يعيش. فهذا الذي أطلقه فولتير في أوربا كان له أثر هائل في نشوء حق التعبير والاجتماع عليه والتظاهر سلمياً. وهذا يوصلنا إلى حل إشكالية كبيرة وهي أن حق التعبير مرتبط بواجب التعبير.
فما هو حق لطرف واجب على الطرف المقابل. وإذا كان الحاكم يمنع الناس من التعبير والتظاهر فلأنهم يمنعونه من الوجود. وهناك من يتمنى موت الحاكم ولكنه ينسى في غمرة هذه الشهوة أن تمني الموت للآخر هو في الواقع تمني الموت لنفسه، لأن مشكلة الأمة ليست معلقة بموت وحياة وفرد، وعندما نتمنى الموت للآخرين تنقل عدواها إلينا فنموت نحن أيضاً. وعندما ينتخب الحاكم مائة بالمائة فإنه يعني أن الأمة أصبحت صفرا بالمائة. وعندما تعلق صور الزعماء إلى الدرجة المقززة فهو يعني أن الزعيم التهم الأمة. وهي تنتظر دورها لالتهامه. وذرية بعضها من بعض. وثقافة مريضة تعيد إنتاج نفسها.
و فولتير هو أول من اعتبر أن التاريخ ليس سير الحروب والملوك بل مغامرات العقل وأن تاريخا بلا فلسفة وفن لا يبقى منه شيء. وأن التاريخ لن يقف على قدميه ما لم نبعد عنه اللاهوت. ولم يرجع إلى باريس التي ولد فيها إلا قبل موته بقليل وعندما جاءه القس ليسمع اعترافه سأله فولتير عمن أرسله فقال: الله؟ فسأله فولتير أن يقدم أوراق اعتماده من الله فولى ولم يعقب؟ وعند لحظة الموت جاءه قس ثان رفض تقديم الغفران له ما لم يوقع على اعترافه وإيمانه الكاثوليكي إيمانا راسخاً، فطرده وسجل الكلمات التالية «أموت على عبادة الله ومحبة أصدقائي وكراهية أعدائي ومقتي للخرافات والأساطير الدخيلة على الدين».كان فولتير مؤمناً ومضاداً للتعصب في آن معاً.و كان يؤمن بإله كل الكائنات وكل العوالم. وبالتالي فالله ليس للمسيحيين فقط، أو للمسلمين أو لليهود، وإنما لكل البشر، كلهم عباد الله ويستحقون رحمته وغفرانه، إذا كانت أعمالهم صالحة وسلوكهم مستقيماً في المجتمع. وكل عقيدة فولتير تتلخص بكلمة واحدة: عبادة إله الحق والعدل، وحب البشر، كل البشر بغض النظر عن أجناسهم وأديانهم ومذاهبهم. ولأن فولتير فتح الأفق أمام إيمان آخر جديد غير الإيمان المتعصب القديم، فإنه استطاع أن ينتصر على التعصب والمتعصبين. كانت أوروبا في عصر فولتير متعصبة، جاهلة، وإذا كنا نرى أوروبا الحديثة مليئة بالحريات ولا أثر للإرهاب الديني فيها، فلا يجب ان نتخيل أنها كانت دائماً هكذا!.
هذا خطأ كبير نقع فيه بسبب انعدام الحسّ التاريخي لدينا، أو على الأقل ضموره.. وبالتالي فإذا كان رجال الدين اليوم متسامحين في أوروبا أو غير قادرين على قمع حرية الفكر والنشر، فإن الفضل في ذلك يعود إلى المعارك الطاحنة التي خاضها اشخاص مثل فولتير أو جان جاك روسو أو ديدرو أو سواهم من فلاسفة التنوير. ومع الآسف مازال هناك في مجتمعاتنا من يظن بأن حرية الفكر تقود إلى الكفر، وأن حرية المرأة تقود إلى الفسق، وأن العقل محدود فلا يمكن إطلاقه إلا كما نفعل مع طير القفص بتعريضه للهلاك. وهناك من يرى أن كل الخطر في تلقي العلوم الإنسانية في الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع ،فهذه أفكار أربع تأسيسية تناقض الفكر مع الإيمان، والعقل محدود الطاقة، ويجب عدم السماح للكفر بالتعبير عن نفسه خوفاً من هزيمة الإيمان إذا ظهر في ساحة المواجهة. وبكلمة أخرى، بناء الأفكار على الإكراه.
إن تفكيراً من هذا النوع،يبدو من خلال فلسفة وتفكير فولتير خسوفاً كلياً لشمس العقل، وضرباً من الإعاقة العقلية كما عند المشلولين، وانقطاعاً عن مسيرة الفكر الإنساني يحشرنا في شرانق محنطة من تراث لم ينجح في نقلنا إلى المعاصرة حتى الآن. والأهم عدم القدرة على التخلص من العقل النقلي والرسوخ في آسار من التقليد لا نهاية لها. وإذا كان التراث قد كتب في ظروف مشبوهة من الانسحاق السياسي بيد وعاظ السلاطين، فهو تراث لا علاقة له بمفاهيم القرآن، ولا يمثل أكثر من تراكمات لأفكار فقدت فعاليتها في عالم يحكمه منطق الفعالية. ومن الغريب أن فلسفة القرآن تناقض مفاهيم المسلمين المسيطرة، فهو يفترض أن الإيمان مؤسس على (التفكير) و (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب). أما نحن فنفزع من التفكير.
وأمرنا: وقل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق؟ ونحن ننغلق على النص، وننفك عن الواقع والتاريخ، مع أنهما مصادر المعرفة. والعلم كم تراكمي لا نهاية له: وفوق كل ذي علم عليم. ونحن نطالب من حولنا أن لا يطلعوا أو يطالعوا وأن يغلقوا عيونهم، ونصدر المذكرات والمنشورات في تحريم القراءة من كتب بعينها، كما فعلت الكنيسة من قبل.وكتابات سارتر الوجودي بقيت حجراً محجوراً حتى نهاية الستينات. وإذا كانت الكنيسة قد أحرقت العلماء وكتبهم مع الساحرات في الساحات العامة وعالجت السعال الديكي بلبن الحمير، فقد أحرقت كتب ابن رشد وحبس رهن الإقامة الجبرية مع اليهود والصعاليك.فأن الكون لم ينته خلقه: ويزيد في الخلق ما يشاء ، ونحن نعلم اليوم أن التاريخ لم يبدأ بعد، وما زالت الإنسانية في مرحلة الطفل ولا نملك إلا ملاحظة الكم الهائل من الإنتاج المعرفي الوارد إلينا من الغرب، بدءاً من داروين الذي كتب أصل الأنواع عام 1859، وانتهاء بدونالد جوهانسون الذي كشف عن هيكل لوسي عام 1978، الذي يعود لأكثر من 3.4 مليون سنة. وكل من غطس في التاريخ لفهم قوانين حركته، مثل (ويلز) صاحب كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) أو البريطاني (توينبي) صاحب كتاب (مختصر دراسة التاريخ) أو الأمريكي (ويل ديورانت) صاحب سفر التاريخ بـ 42 مجلداً عن (قصة الحضارة).
فضلا عن أن كل الإنتاج المعرفي في علوم الذرة أو المجرة كان من عند غيرنا، بدءا من تركيب العناصر في الجدول الدوري للعناصر الذي كشفه (ديمتري مندلييف) الروسي، وانتهاء باكتشاف تمدد الكون على يد الأمريكي ادوين هابل، أو تركيب الذرة على يد الدانماركي نيلز بور، أو فك إشكالية حركة الإلكترون في قانون الارتياب على يد الألماني فيرنر هايزنبرغ، أو معنى الحضارات وحركة التاريخ على يد (اوسفالد شبنجلر) الألماني، أو حركة المجتمع وتشريحه على يد الفرنسي أوجست كومت، أو قوانين علم النفس عند النمساوي فرويد أو سكينر من المدرسة السلوكية وفيكتور فرانكل وابراهام ماسلو من مدرسة علم النفس الإنساني.وهكذا فالإنتاج المعرفي، شئنا أم أبينا، يهبّ علينا اليوم بماء منهمر برياح موسمية شمالية غربية.هناك آلية خفية يعيش فيها كل إنسان ولا يتفطن إليها وهي ارتباط النص مع حركة الواقع، كما يحدث من انفكاك عمود الحركة في السيارة عن العجلات فتتوقف عن السير.
وعندما تنفك هذه الآلية لا ينتفع الإنسان من أي شيء حوله. ونحن اليوم نملك أعظم المصادر ويصب الذل على رؤوسنا مع شروق كل شمس، يقوم جدل التاريخ على الصراع بين (الحضارة) ضد (البربرية) و(التسامح) ضد (التعصب) و(التقدم) ضد (التخلف). وعندما دمر الأسبان حضارة المايا واحرقوا كل كتبهم إلا ثلاثة، لم تقرأ لغتهم حتى الآن ولم تعرف ثقافتهم على وجه التحديد، كان مصير الأسبان اللعنة التي صبها المبشر (لاس كاساس) على رؤوسهم، فتراجعت اسبانيا تحت ظلامية التعصب إلى الزاوية المهملة من أوروبا، مع أنها كانت القوة الأولى في العالم، وأغنى إمبراطورية وأعظمها اتساعا وأفضلها تسلحا وأكثرها امتلاكا لعابرات المحيط مما يذكر بسفن الفضاء الحالية.ولم تستيقظ اسبانيا من اثر التحنيط العقلي الديني إلا على صدمة الوحدة الأوروبية، وقفزت إلى الواجهة الأمم الانجلوسكسونية الأكثر انفتاحا وعقلانية.
إن العودة إلى فكر فولتير وفلسفته يشكل بالضرورة مدخلا لتنوير فكرنا في اتجاه دحض التعصب الديني و تشييد حضارة قائمة على الحوار والتحاور