مقص الرقيب
عندما يستهين بالحكام والمحكومين!!
محمد فاروق الإمام
قال وزير أبي جعفر المنصور (الربيع بن يونس) لأمير المؤمنين يوماً: إن لفلان حقاً علينا، فإن رأيت أن تقضي حقه وتوليه ناحية، فقال المنصور: يا ربيع، إن لاتصاله بنا حقاً في أموالنا لا في أعراض الناس وأموالهم.
وكان المنصور يقول: (ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعف منهم، هم أركان الدولة، ولا يصلح الملك إلا بهم، أما أحدهم: فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث: صاحب خراج، يستقضي ولا يظلم الرعية، فإني عن ظلمها غني)، ثم عض على أصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه.. آه... قيل: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: (صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.. رجل يخبرني بما يفعل هؤلاء لا يزيد ولا ينقص).
ما دفعني للاستشهاد بما كان يقوله ويتمناه المنصور لحاشيته وأركان دولته خلو الساحة الثقافية في دمشق من تداول مجلة (الآداب) اللبنانية الشهرية التي منع عددها (9 و10/2009) منع التوزيع في سورية، بسبب ملف تناول وقارب (أحداث الثمانينات وتأثيرها في المجتمع والمبدعين والكتابة).
رئيس تحرير المجلة سماح إدريس علل المنع لتعرض الملف لروايات وكتابات حول القمع الذي تعرض له الإخوان المسلمون في هذه الفترة.
وأكد إدريس أن سبب المنع هو ملف احتواه العدد بعنوان (ملامح من الأدب السوري الحديث)، وتحديداً بحث نقدي لحسان عباس بعنوان (حكايات ضد النسيان: قراءة في بعض النتاج الروائي المعاصر في سورية).
واستغرب إدريس منع المجلة من التوزيع قائلاً: (نحن مجلة وطنية، قومية عربية ومعارضة لـ(14 آذار) وللعنصرية ضد العمال السوريين، وكنا دائماً حلفاء لسورية وشعبها). وأضاف: (يبدو أن مواقف الآداب لم يشفع لها أمام مقص الرقيب).
كلام إدريس دفعني لأبحث عن المجلة على الإنترنت وأتصفح ما جاء في البحث النقدي الذي كتبه حسان عباس في نقده لقصة "مديح الكراهية" التي يعالج مؤلفها (خالد خليفة) سنوات الموت الأسود في سورية. سنوات الصراع والقتال المسلح بين النظام السوري القمعي وجماعة الإخوان المسلمين. واندلاع الصراع الأهلي المسلح والقمع والخوف والكراهية والحقد المنفلت من عقاله بين النظام والجماعة، الذي تحول إلى "كراهية" و الرواية تنتهي عند عام 1995... (مقتبس مما جاء في نقد الكاتب حسان ثابت).
ليس مهماً إن كانت رواية خليفة تعيد كتابة تاريخ تلك "الحقبة" البشعة التي مرت بها سورية ولا تزال تعاني بعض آثارها النفسية والاجتماعية والسياسية. وليس مهماً ما إذا كان خليفة يكتب رواية للتاريخ.. المهم أن الروائي، وهو ابن مدينة حلب، حيث تجري أحداث الرواية، استطاع أن يجسد أو يبرز من خلال وقائع حقيقة، الدافع الحقيقي للعنف ألا وهو "الكراهية"...
وهدف خليفة في روايته إلى أن الكراهية – لا الخلاف السياسي أو العقائدي أو الديني أو الوطني - هي من تغذي هذه الخلافات وتتغذى عليها، إنها حلقة مفرغة إذاً. إنها حلقة من خلاف يتحول إلى كراهية وكراهية تغذي الخلاف فينشب العنف وتنتفي الحلول الوسط وتغيب العقلانية ويصبح الآخر "موضوعا للقتل" لا ذات أخرى لها حاجاتها ودوافعها ومصالحها.. مع الكراهية لا يوجد مساومة فإما قاتل أو مقتول.. وهذه وجهة نظر مؤلف القصة وسيان إن كان مصيباً أو مخطئاً فإنه علينا احترام وجهة نظره، وليس من حق أحد إطفاء سرج عقول الناس ومنعهم من مطالعة هذه القصة أو نقدها، طالما أن ذلك لا يمس أمن الوطن أو ينتقص من هيبة النظام، إلا إذا كان لمقص الرقيب رأياً آخر!!
وهذا ما يفعله للأسف الشدي الرقيب ومقصه في معظم دول الوطن العربي الكبير، استهانة بعقول الحكام واستخفافاً بعقول المحكومين باسم حماية الوطن والحفاظ على أمنه، ومنع نشر أنباء كاذبة من شأنها أن توهن نفسية الأمة، وإضعاف الشعور القومي والنيل من هيبة الدولة. مقولات ما أنزل الله بها من سلطان، وما عرفتها ثقافة أمتنا من قبل، يوم كانت نوافذنا مشرعة دون رقيب جاهل أو مقص أرعن، تعبُّ من ثقافات العالم وحضاراته وتعطيها وتتفاعل معها، وبعد أن وجد الرقيب ومقصه، توقف التاريخ عندنا، وسار بالآخرين ليصل بهم إلى مراقي النجاح والتطور والتقدم، فأين أنتم يا حكامنا من تمنيات المنصور ومواقفه وما يجري على الساحة اليوم وما يفعله الرقيب ومقصه؟!.