خواطر أثارتها خواطر 5
(2)
رغداء زيدان/سوريا
من الحلقات الجميلة في برنامج خواطر 5 تلك الحلقة التي عرضت للأكل في المدارس اليابانية, وأهم ما في هذه الحلقة هو التركيز على فكرة عدم الإسراف وأكل كل ما في الصحن. وقد عقد الشقيري مقارنات بين عادة اليابانيين في إنهاء كل ما في صحنهم وعدم رمي أي شيء من الطعام في الزبالة, بينما في بلادنا (أو في كوكبنا كما كان يحلو للشقيري الوصف) كان هناك دائماً من يترك كميات كبيرة في صحنه, وكانت كميات الطعام التي رميت في الزبالة كبيرة جداً.
الخاطرة التي أثارتها هذه الحلقة, والتي كان بودي لو أن الأستاذ الشقيري نبه إليها بصورة أكثر تركيزاً هي أن اليابانيين معروفون بحرصهم على موارد بلدهم, وبالتالي فهم حريصون على الاستفادة مما بين أيديهم دون هدر أو إسراف, وقد رأينا أمثلة في البرنامج نفسه على إبداعهم في الاستفادة من إمكانات بلدهم بشكل كامل (كتلك الحلقة التي عرضت إبداعهم في التغلب على مشكلة الازدحام واستفادتهم من المساحات الصغيرة لأقصى حد, حيث شاهدنا مرآب السيارات ذي المساحة الصغيرة وكيف أبدعوا طريقة لركن السيارات فيه حتى اتسع لعدد كبير منها بسهولة ويسر دون أن يتسبب خروج سيارة من ذاك المرآب بأي مشكلات سواء لصاحب السيارة أم لغيره).
لا أريد أن أقول إن في بلادنا الغنية بمواردها هدر كبير وإسراف أكبر, لأن هذا معروف, ولكني أود تذكير القارئ الكريم بما كانت تفعله جداتنا وأجدادنا عندما كانت الحالة الاقتصادية الصعبة أحياناً (وفي الحقيقة كانت هذه حال الفقراء والأغنياء أيضاً وليس الفقراء فقط) تدفعهم لتدوير ما في البيت لاستعماله مرة أخرى, من ذلك مثلاً أنهم كانوا يستفيدون من الملابس في البيت لأقصى درجة, فكانت الأم تقوم بتدوير الملابس القديمة أو البالية أو التي لم تعد تتناسب مع حجم لابسها لتصبح إما ثياباً للولد الأصغر أو أرضية للجلوس أو غطاء للنوم أو حتى ممسحة للتنظيف (كانت حماتي رحمها الله من أولئك النسوة المبدعات في ذلك, فلم تكن ترمي أي قطعة قماش بل كانت وبصبر عجيب تعيد تفصيلها وقصها ووصل القطع المتجانسة مع بعضها لتخرج في النهاية لحافاً للنوم كأنه لوحة فنية تشكيلية, أو أرضية للجلوس سهلة الحمل والنقل).
على عكس ما نراه اليوم في بيوتنا العربية التي ابتليت بداء الاستلاب والتفاخر, فصار بعضهم يتفاخر بكثرة ما يرمي من ملابس, (أعرف من يشتري ملابس بأسعار غالية جداً ولا يلبسها لأكثر من مرة واحدة وبعد ذلك يرميها في الزبالة ولا يفكر حتى بإعطائها لغيره ليستفيد منها).
كانت جداتنا وأمهاتنا تحثنا ونحن صغار على أكل كل ما صحننا, وقد رسخ في ذهني قول كانت تردده أمي ومن قبلها جدتي بأن الصحن يدعو للاعقه, وأن رمي الأكل في الزبالة هو إثم كبير, بل إننا تعلمنا أننا إذا عثرنا على قطعة خبر مرمية في الطريق فإن علينا حملها وإزالتها من الطريق حتى لا تدوسها الأقدام, وكنا نعرف أن رمي الطعام في الزبالة سيحرمنا من هذه النعمة فيما بعد, فالقول المأثور الذي تعلمناه هو أن من يرمي النعمة فإن الله يحرمه منها. وكانت الأم تطبخ كمية من الطعام تكفي العائلة ليوم أو يومين ولا تكرر الطبخ إلا إذا انتهت الكمية الأولى, (وفي كثير من الحالات كانت ست البيت تقوم بتربية بعض الدجاجات أو القطط وكان غذاؤها مما يتبقى من أكل الدار), بينما اليوم نجد أن ما يرمى في الزبالة أكثر مما يؤكل, وكل من يدخل المطاعم يرى تلك الكميات الهائلة التي تُرمى كل يوم دون أي إحساس بالذنب!.
ونتساءل الآن ما الذي جعل تلك العادات الجميلة والتي كانت منتشرة بيننا والتي كانت تحض على الاستفادة من الموارد دون هدر, ما الذي جعلها تختفي ليحل محلها عادات سيئة لأبشع أنواع الهدر والاسراف؟
برأيي أن داء الاستلاب, الذي دفع الناس عندنا للاعتقاد بأن الاستفادة من الموارد الموجودة هو نوع من التخلف الدال على الفقر, وبالتالي على تدني الحالة الاجتماعية في التصنيف الاستلابي, الذي جعل من ارتفاع معدل الاستهلاك ومن كثرة الهدر دلالة على الغنى وعلو المكانة الاجتماعية, فصرنا نرى اليوم من يدخل للمطعم مثلاً يطلب كميات هائلة من الطعام لا يستطيع أكلها, وتمنعه عقدته الاستلابية من أخذ ما تبقى معه ليستفيد منه غيره, فمن المعيب جداً عند بعض الناس حمل ولو قطعة من الفاكهة خارج المطعم, ومنظر الصحون المملوءة بالطعام والتي يحملها النادل فوق بعضها البعض وهو يقوم بتنظيف طاولة الزبون تمهيداً لرميها هو من المناظر التي جعلتني شخصياً لا أحبذ الدخول للمطعم أبداً لشعوري بأنني أرى منظراً غاية في القبح والدونية.
للأسف فإن كثيراً من عاداتنا الجميلة قتلها داء الاستلاب, وداء الاستهلاك المسعور, والذي جعل من الهدر ينتشر بيننا بصورة كبيرة, ليس فقط بالنسبة للطعام واللباس, بل أيضاً في الماء والكهرباء وفي كل الموارد الأخرى, وصار التفاخر بين الناس بكثرة الاستهلاك منتشراً بصورة تدل على عدم الإحساس بالخطر الذي يتهدد مواردنا, ويدفع الناس للركض خلف المال ومحاولة الحصول عليه بأي طريقة حتى لو كانت غير شريفة, واختفت من بيننا كثير من العادات الإنسانية لتحل محلها علاقات مادية جافة, ولتزيد من تعقيد الحياة وأعبائها, وبدل أن يشعر المرء بالسعادة أكثر صار الحزن والكآبة هما السمة العامة للجميع, مع أنه من المفترض أن تزيد سعادة المرء كلما أُشبعت حاجاته, ولكننا اليوم نجد توسعاً كبيراً لهذه الحاجات, كونها في الحقيقة حاجات زائدة عن الحد, تمليها علينا عقدنا الاستلابية التي ضخمت هذه الحاجات بصورة كبيرة, (من المفارقات المضحكة المبكية بآن, هي أن الواحد منا صار اليوم يعمل ويكد ويتعب من أجل هدف إنتاج زبالة أكثر, على اعتبار أن ما نهدره من مواردنا ومداخيلنا لا يقل بحال عن ثلث أو نصف ما نحصل عليه من مردود مادي, ومن لم يصدق فليحاول رصد الكميات التي نرميها في الزبالة من الطعام أو اللباس أو الماء أو الكهرباء.......إلخ).
ومن الجرائم التي نرتكبها (وليعذرني القارئ لاستخدام هذا التعبير) تلك التي تتعلق بنقلنا لكل هذه العقد الاستلابية لصغارنا, فبعد أن قام أجدادنا وأهلنا بتربيتنا على احترام النعمة والاستفادة مما بين أيدينا, تخلينا نحن عن تعليم أولادنا هذا الخلق, ورحنا نزرع في نفوسهم عقدنا الاستلابية, وبحجة محبتنا لهم أكثرنا من شراء ما يلزمهم وما لا يلزمهم, فكثرت بين أيديهم الألعاب والألبسة والأطعمة, وغاب عن ذهنهم تقدير قيمتها, وكثير منهم لم يتعلم كيف يحافظ عليها من الإتلاف السريع فترى الأهل يشترون لأولادهم الصغار لعبة مثلاً فيقوم الطفل بتحطيمها بعد ساعات قليلة دون أن يشعر الأهل بضرورة تعليم الطفل المحافظة على أشيائه, فيكبر الطفل ولا يجد ضرورة للمحافظة على أي شيء يخصه ككتبه ودفاتره ولعبه وملابسه, وكم هو مؤلم منظر الكتب والدفاتر المدرسية الممزقة, أو الألعاب المحطمة, والتي لا يشعر الطفل بقيمتها كونه سيحصل على غيرها بسهولة وبوفرة. فهل سنملك الجرأة يوماً لنعود إلى ما تعلمناه ونحترم نعمة ربنا, ونحفظ مواردنا قبل فوات الأوان؟ أرجو ذلك.