ضحايا الشعوذة
لماذا لا يخرج الجني إلا (بضرب الأحذية)
وليد رباح
هناك مقولة تؤكد على أنه: كلما تقدم العلم وازدهرت التقنية..كلما خفت معالم الإيمان بالغيبيات اللامحسوسة..وتراجع المشعوذون عن مواقفهم ليفردوا للعلم مكانته ويصبح المترددون عليهم قلة ممن لم تصلهم بعد تلك المعالم التقنية.
إلا أنه من الملاحظ أن انتشار العلم لم يمنع الإنسان من محاولة الكشف عن الغيب بطرق مختلفة..وقد دلت الإحصاءات الأخيرة في أمريكا (وهي بلاد العلم والمعرفة) إلى أن المترددين على المشعوذين يزدادون نسبة عاماً بعد عام. إذ أن التقدم العلمي (كما نعلم) يفرز حالة من القلق المادي الذي يرزح الإنسان تحت طائلته ضغوطاً نفسية شديدة يحلها العلم بطيئا وعلى مدار سنوات..فيلجأ الإنسان العادي إلى حجب الغيب يستشفها علها تحل مشاكله المعقدة..وتعطي له بصيصاً من الضوء يمكن أن يريحه من أعباء ومشاكل المادة التي سيطرت على كل شيء في حياته..
وقد دلت تلك الإحصاءات على أن نسبة المثقفين والمتعلمين الذين يلجأون إلى المشعوذين نسبة مرتفعة..وهو وضع طبيعي لما يتعرض له أولئك من ضغوط نفسية كبيرة..ولا يستطيعون حل مشاكلهم بالطرق الإعتيادية فيلجأون إلى الغيب يحاولون من خلاله أن يطرقوا كل الأبواب التي توصلهم إلى تخفيف وطأة الضغوطات المتراكمة..ورغم علمهم الأكيد أن اللجوء إلى هذه الطريقة لا يمكن أن تسفر عن نتائج محددة تؤدي إلى حل تلك المشاكل..
أما في الوطن العربي حيث نسبة الأمية كبيرة..فإن المشعوذين هم ملوك النصب والاحتيال وجمع الأموال، ورغم أنهم محاربون من طرف السلطات..إلا أنهم (يفرخون) مثل بيض السمك تحت الماء..بحيث لا تشعر بهم إلا وقد أصبحت لهم زعانف يحركونها لكي يسبحوا مع التيار وضده في آن واحد.
ولا توجد احصاءات رسمية عربية تدل على مدى انتشار الشعوذة في الوطن العربي..إلا أن المؤكد أن تلك الفئة من الناس قد جمعت إلى جانب الفطنة والدهشة (لما تقوم به من أعمال) أساليب وطرقاً عجيبة وغريبة لإبتزاز السذج من الناس والمتعلمين والمثقفين على حد سواء..
وأكثر ما يبرز ذلك في مصر ثم يليها المغرب..ثم الأردن ولكن أولئك ينتشرون بصورة نسبية في كل الوطن العربي ابتداء من خليجه وانتهاء بمحيطه..وعلى الرغم من أن هؤلاء المشعوذين يتخذون من الدين ستاراً ينفذون به أغراضهم ..إلا أن الحقائق التي ظهرت مؤخراً تشير إلى اتباع هؤلاء أساليب عملية وليست غيبية للكشف عن المجهول، معتمدين على فطنتهم ودراستهم للنجوم ومواقعها ودرجات تحركها وانسيابها وتوقفها..ومن هنا فهم يخلطون (معرفتهم) في الشعوذة بالعلوم الإنسانية. مما يعطي الناس قناعة بصحة توقعاتهم ومصادفات تنبؤاتهم.
فقبل سنوات..كان التنبؤ بحالة الطقس من المستحيلات، ثم جاء العلم لكي يجعل من الأسطورة حقيقة..ومن المستحيل واقعاً..
وقبل سنوات أيضاً..كان التنبؤ بحركات النجوم وسقوط بعض أجزائها محرماً لا يجب المساس به..وأتى العلم لكي يخرق هذا التابو ويعلن في كل حين عن الحركة والسقوط..وعن المجرات وتزاحمها وتساقطها وتغيير معالمها من خلال الحركة، والخلاصة في ذلك استغلال هؤلاء للعلم إلى جانب الغيبيات اعتماداً على العلوم الإنسانية لا تصل إلى معظم الناس..وإن ضغط الحياة المادية لا يمكن الإنسان من الإطلاع على كل ما يدور حوله من مكتشفات عملية ومن إنجازات إنسانية.
ورغم أن وسائل كشف الحظوظ قد ابتدعت بهدف الربح المادي..إلا أن الكثير منها يصب في خانة التسلية. فالنساء مشهورات بادعاء معرفة الغيب من خلال فنجان القهوة، وتلك ظاهرة ليست في الوطن العربي فحسب بل إنها تمتد إلى البلاد التي أخذت حظاً كبيراً من العلم والمعرفة، مما يدل على أن المرأة هي المرأة في كل زمان ومكان..والنرد وأوراق اللعب إحدى الوسائل التي يدعي أصحابها معرفة الغيب..وصلة الأرواح (الشهيرة) أيضاً..من الأساليب التي يلجأ إليها (خفيفو الظل) من أجل إيهام الموجودين بأنهم قد استدعوا روح فلان أو علان..وهي من الطرق الناجحة في النصب والاحتيال أو التسلية..
أما النظر في نقطة الزيت من خلال صحن صيني واستخدام طفل لم يتجاوز الحلم لكشف أسرار الغيب خاصة مفقودات الإنسان الثمينة..فقد اشتهرت في بلادنا حتى إن من يدعي (المشيخة) يرصد صبيان الحي فينتقي من يتوسم فيهم فتح (المندل على وجوهم) ويصطادهم مقابل دريهمات معدودة، وكثيراً ما وقع الصغار في أفخاخ المشعوذين فبدأوا بالعمل معهم أملاً في الربح وملء الجيوب..ثم نكتشف بعد ذلك أن المشعوذ قد فرخ مشعوذاً آخر يأخذ مكان أستاذه إذا ما قبض عليه أو داهمه العجز وكبر السن أو شح الموارد.
وقد أدى استخدام المشعوذين في معرفة الغيب أو اخراج جني من جسد إمرأة أو فتاة أو معرفة مكان مسروقات أو مفقودات..أدى ذلك إلى عواقب وخيمة ظلت ترافق الضحايا فترات طويلة من الوقت..وربما لم تفارقهم إلى أن يدفنوا في قبورهم.
فعلى سبيل المثال..أدى الضرب المتكرر (بالأحذية) لفتاة قيل أنها أصيبت بمس إلى شلل جزئي في وجهها وأنحاء مختلفة في جسمها..وأدت العصي التي رسمت على جسدها خطوطاً غائرة إلى فقدان الرغبة الجنسية وبالتالي عنوسة الفتاة، وأدى الضرب القاسي (في كثير من الأحوال) إلى إحداث عاهات مستديمة في أجساد الأطفال وخاصة البنات.
وعادة ما يوهم المشعوذ الضحية بأن الجني القابع في جسد ابنته أو شقيقته أو أخته أو أحد أقاربه..لا يخرج إلا من خلال (العزف بالصرامي) ويقتنع الضحية بذلك..فتبدأ حفلات الضرب المبرح التي يئن تحتها (المريض) ويصرخ في البداية ثم ينهكه الصراخ فينوب عنه آخر وضعه المشعوذ في ركن من الزاوية المظلمة المليئة بالبخور والصراخ والدفوف والطبل والمزامير..ليجيب على أسئلة (الشيخ) عندما ينتهره بالخروج فيرفض..بحيث يقتنع أهل الضحية أن من يتحدث نيابة عن ابنهم وابنتهم هو الجني القابع في جسدها أو جسده..ومن هنا تزداد طلبات المشعوذ وفي معظمها لا يستطيع أهل المريض تأمينها فيتبرع المشعوذ باحضارها..
ومن الأمثلة على طلبات المشعوذ. يطلب من أهل المريض خاروفا (أحول) مثلاً..أو ديكاً أعور..أو جملاً يطير في الفضاء..أو خنزيراً طاهراً..أو قرداً يغني بالعربية أو الإنجليزية..أو قنديلاً يضيء دون زيت..أو ما شابه ذلك من الطلبات المستحيلة..وهكذا يدفع أهل (المريض) عن طيب خاطر مبالغ حسب طاقتهم أو فوق طاقتهم ويعطونها للمشعوذ عله بذلك يؤمن تلك الطلبات..وعادة ما لا يؤمن المشعوذ تلك الطلبات علانية ويدعى أن (الأسياد) قد أخذوها منه وسلمها لهم أمانة في عنقه..وينتهي الأمر بأهل المريض إلى الإفلاس في العادة.
ومن الأمثلة على بعض ذلك أن فتاة صغيرة في مصر قد أصابها الجنون نتيجة الضرب المبرح، وأن إمرأة في المغرب قد انتحرت،..وأن سيدة في الأردن قد وضعت طفلها قبل أوانه في حالة اجهاض مأساوية..وأن مهندساً شاباً سعوديا قد لاقى حتفه وهو يلقي بنفسه أمام السيارات المارة في الطرقات..وأن شاباً كويتياً قد سافر إلى الهند لإقتناعه بأن حياة أخرى كانت له فيما سبق وأنه متزوج من هندية تدعى (راشا) فسافر إلى الهند وذهب إلى العنوان الذي وصفه له المشعوذ ولكنه وجد بدلاً من إمرأته في حياته الأولى حظيرة أبقار يربيها (السيخ) ويعبدونها..وأن طبيباً سوريا في منتصف العمر قد ركب البحر ورمى نفسه والنتيجة استقراره في بطون سمك القرش الذي يجوب البحر الأبيض المتوسط. وأن سياسياً فلسطينياً من السلطة قد زار كل عرافي المغرب لمعرفة إن كان مستقبله وزيراً أم سيظل مديراً طيلة حياته. ونحن لا نمازح أحداً عندما ندرج هذه الأمثلة..إنها حقائق نعرفها جيداً.
وهناك أمثلة كثيرة على وقوع السذج من الناس (رغم ثقافتهم) في أحابيل أولئك المشعوذين ففقدوا حياتهم أو جزءاً منها نتيجة عاهات مستديمة أو مؤقتة..والنتيجة وضع مزيد من النقود في جيوب المشعوذين وازدياد ثرواتهم..
ولم يقتصر الأمر على الناس العاديين في اللجوء إلى المشعوذين..ففي لبنان مثلاً..يذهب حكام البلد مع حراسهم إلى المشعوذات اللواتي يتقاضين مبالغ ضخمة لإعلام الحكام عن نتيجة الإنتخابات مسبقاً، وتعلن المشعوذة في الصحف أنها تفخر بزيارة (فلان) لبيتها لإقتناعه بقدرتها على كشف المستور وإظهار الغيب..وفي مصر يقيم بعض المرشحين لمجلس الشعب ..علاقات حميمية مع المشعوذين وقراء الفناجين..وفي مصر أيضاً يلجأ البعض ممن هم مهووسون بكرة القدم إلى المشعوذين لإعطائهم نتيجة المباراة التي تقام بين الزمالك والأهلي،او النوادي المصرية والاجنبية .. وفي الجزائر فرع في الحزب الوطني الجزائري يهتم بأخذ رأي المشعوذين عندما تعلن الدولة عن انتخابات مقبلة، أما في الأردن فقد اكتشف السنة الماضية أن وزير الإقتصاد قد لجأ إلى رأي مشعوذ حول الخطة الخمسية الاقتصادية في الأردن.
وأكثر مما يظهر ذلك بعض حكام الخليج العربي الذين يستوردون العرافين وقراء النجوم والفناجين إلى دوواينهم لمعرفة طالعهم..وكان من نتيجة ذلك نشوء طبقة من المشعوذين الذين يعيشون في فرنسا ودول الغرب وتمتلئ جيوبهم بالريالات والبارات والدنانير والجنيهات والعملة المحلية وغير المحلية..وكل ذلك يكشف المشعوذ طالع الشيخ إن كان ابنه قد يليه في الحكم أم سيحدث انقلاب على حكمه في الزمن القريب أو البعيد.
مأس تجري على مرأى ومسمع منا ..ومن المصائب ان يزخر الوطن العربي والاسلامي بالعديد ممن يشجعون تلك التراهات ممن هم على كراسي الحكم مستفيدين من تلك الطغمة التي تفرغ جيوب الناس وتؤدي بالجهلة الى الجنون او ما يشبه ذلك ..