أشر من الطلاق
سوء ترشيد ما بعد الطلاق
فداء دبلان
"اجعل يا هذا دائما مجالا للصلح بينك وبين أخيك، فقد تكون شفيعه أويكون شفيعك يوم القيامة" أبو بكر الصديق رضي الله عنه
تعددت الأسباب والطلاق واحد: فمن النساء أو الرجال من يمنى بزوج أو زوجة غير كفء أو كفئة ، ولا حسن المذهب في العشرة بين الطرفين،أو بغيض تعافه الطبيعة ،وقد يتزوج الرجل المرأة،أو المرأة الرجل،ثم يتبين لأحدهما،أو لكليهما،أن بينهما تباينا في الأخلاق والعادات،أو تنافرا في الطباع ،تستحيل معه الحياة الزوجية،بحيث يطلع أحدهما من صاحبه على مالا يحب ولا يرضى من سلوك شخصي، أو تفكير مناقض،أو عيب خلقي(بكسر الخاء) أو خلقي (برفع الخاء) - كما يلخصها الفقهاء بلغة الفقه الوجيزة...،
وكثيرا ما تكون مثل هذه النوعية من العلاقات،كالبيت المبني على تربة بركانية معرضة للزلازل والهزات الأرضية في كل حين،أو كمن يجمع بيضا في سلة هشة سرعان ما تنفقس بمجرد تحريكها،فيصبح الطلاق هنا حلاً عقلانيا للمشاكل الناجمة عن عثرات سوء الاختيار منذ البداية،أو اكتشاف الهنات والمثالب بعد العقد،...فالعشرة المباشرة هي المحك الرئيسي لادعاءات الطرفين في مراحل التعارف والخطوبة،وهي التي تسفر عن معادن الرجال والنساء،والكشف عن زيف الوعود والتمنيات والأماني ومصداقية الأحلام الوردية، بعد العقد، فإما سعادة أبدية،أو شقاء أبديا ،وبالتالي فبقاء الأولاد في ظل هذه الأسرة التي تعصف بها المشاكل وتزعزع أركانها المشاحنات والملاسنات ،مضر بالأطفال أكثر من الطلاق نفسه.
ومن واقعية الإسلام في أمثال هذه الحالات المستعصية،أنه شرع الطلاق –بالرغم من تبغيضه للنفوس الطيبة الصافية الراغبة في الإصلاح - ولكن بعد انتفاء كل إمكانية استمرار العشرة الطيبة، وبعد استنفاذ كل سبل التوفيق بين الطرفين وتقريب وجهات النظر والرؤى إلى المرحلة ما قبل الأخيرة وهي :(بإتيان حكم من أهله ،و حكم من أهلها) الذي هو نهاية المطاف بالمنظور الإسلامي لتخليص الزوجين من الشرور والمفاسد التي قد تترتب على بقاء حياة بغيضة وكريهة،وذلك عملا بالقاعدة الأصولية الشرعية والفقهية :"ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب"
واقب سوء ترشيد ما بعد الطلاق
إلا أن السائد في كل الأعراف شرقية وغربية–الأمن رحم ربك-بأن الأسرة المنكسرة سواء بالشجارات والمصادمات اليومية،أو بانفصال الوالدين بخروج أحدهما من نظام وحياة الأسرة مرحلياً وجزئيا(الغياب المستمر عن البيت لظروف العمل من طرف الزوج أو الزوجة،أو الغياب بسبب الاستهتار بواجبات الأسرة ومهام التربية،لعدم النضج والتفسخ وعدم تقدير واجبات الأسرة حق قدرها، وخاصة من بعض الأزواج الذين يختزلون الزواج إلى مجرد الإشباع الجسدي والنفقة) أو كلياً بالطلاق،لهي من أعتا المشاكل التي تواجه الدراسات النفسية والاجتماعية في كل مراكز البحث العلمي،حيث يدلي الباحثون المتخصصون في شؤون الأسرة بدلوهم ،مستخدمين كل تخصصات العلوم الإنسانية غير مجزأة ، أو منفصلة عن بعضها،بالنظر إلى أن معضلات الأسرة ليست دينية بحتة، أو سيكولوجية بحتة ،أو سوسيولوجية بحتة،بل نتيجة عوامل متشابكة ومتشعبة،لا يمكن لعلم وحده الفصل فيها،حيث أصبح الاتجاه العم اليوم في هذا المجال،هو محاولة التقريب ما بين نتائج كل العلوم الإنسانية لاستحالة حصر تزايد المعضلات لدى أبناء الطلاق، بسبب فشل النظريات،والمقاربات الكلاسيكية في إيجاد الحلول لتفاقم الأمراض الاجتماعية الناجمة عن الطلاق،،وسوء ترشيد ما بعد الطلاق،الذي هو أخطر من الطلاق ذاته،حيث أن ظاهرة تزايد عدد سجون الأحداث وجرائم القاصرين والقاصرات في الولايات المتحدة،وأوروبا، تثبت على أن 89 بالمائة من المداومين للسجن،هم من العائلات المطلقة،أو بسبب استمرار العنف الكلامي بين المطلقين بعد الفراق الذي يمتصه الأبناء، فيزعزع كيانهم النفسي والعضوي كلية ، أو نسبيا.
وان أسوأ ما في الطلاق ، هو ما يحدث في ما بعد الفراق ، حين يقوم أحد الطرفين ممن لا خلاق له أو كليهما - بتأليب الأبناء ضد الآخر،بالطعن والقذف،وتضخيم العيوب،وتشويه السمعة وتبييت نوايا خبث السريرة، وسوء الطوية ،أو أن تقوم أحدى العائلتين بسوء معاملة أبناء المطلق،أو المطلقة،بالانتقام عبر الأبناء،بتحميلهم شرور سوء اختيار أبنائهم أو بناتهم ،حيث تتحول حياة أبناء هذا النوع ،إلى جحيم لا يطاق ،وتلك من أكبر الرزايا وأخطرها.. على نمو الأبناء العقلي،والنفسي، والعاطفي ، وحتى الجسمي -لماله من تأثير مباشر وغير مباشر(فسيو-بيولوجي-نفسي) على العمليات المعقدة في نمو الأطفال،المؤدية إلى عذاباتهم النفسية، وشعورهم بالضياع، والتشتت وفقدان الأهداف،والصواب،ومفهوميه المبادئ،واكتساب الشك في عالم"الكبار"،وفقدان الثقة في المجتمع والأخلاق والدين،فيتحول المجتمع في نظرهم إلى جحيم، والحياة إلى زيف،والسعادة إلى أكذوبة كبرى ، وخاصة إذا رافق ذلك ضيق الإمكانيات المادية، وتدني ثقافة، أو درجة تعليم الأب أو الأم ، أو ضعف الوازع الروحي -الديني والأخلاقي لديهما .
ولقد نهى الإسلام عن هذا السلوك ألا أخلاقي المشين،لكي يبقى الأبناء بعيدين عن الخلافات السابقة بين الأبوين المتنازعين ، فلم تخل آية تعرضت للطلاق، من توكيد الأمر بالمعروف والنهي عن الإساءة والإيذاء ، بعد الفراق "بالتطليق بالمعروف وبالإحسان" والحث على مغالبة الشح والتقتير في النفقة على أبناء الطلاق ،والإحسان إليهم والبر بأمهم ،أو أبيهم ،بحيث أمر كلى المطلقين،ألا يذكر أحدهما الآخر بسوء أمام الأبناء،أو يكشف عوراتهما، لما في ذلك من تبعات نفسية على الأبناء على المدى البعيد مما يجعلهم :
-مهزوزين الشخصية، ومعقدين في سلوكهم -حقودين أو ما ئعين
-ميل الابن إلى احتقار المرأة ، والميل إلى العدوانية في معاملة النساء، انتقاما من الأم "الظالمة"،
-نفور البنت من جنس الرجال، والعزوف عنهم وعن الزواج،
-عدم الرغبة اللاشعورية في الإنجاب المؤدية إلى إحدى أسباب العقم النسبي
-الميل إلى الانتقام من أصناف الذكور والعدوانية معهم
-عدم الاستقرار العاطفي المترجم بالتنقل من شخص إلى آخر، فيميل الابن لا شعوريا إلى الانتقام من أمه-الظالمة- التي تخلت عنه في شخص كل النساء- أو بحثا عن حنان الأم المفقود بين أحضان نساء يكبرنه،وكذا الأمر عند البنت التي تنتقل من رجل إلى آخر،علها تجد الأمان المفقود والمفتقد ، أو بحثا عن الأب الهارب"الخسيس"بالرغبة الدفينة في الانتقام منه، أما بالبرود الجنسي اللاشعوري في المعاشرة الزوجية، أو البحث عن "تحطيم"صورة الأب المهزوزة"بالخيانة الزوجية بأشكال شتى –الشعورية واللاشعورية منها-، إلى غير ذلك من الموبقات والمآسي التي تأتي كلها بسبب عواقب الفراق اللا أخلاقي
- وأخيرا وليس آخرا- الميل إلى الاستخفاء وراء كل أشكال"الهروب" من الأسرة "الظالمة" و "الخسيسة" بالاستقالة من الحياة الأسرية والمجتمعية ومنغصاتها، باللجوء إلى استعمال وتجربة كل أنواع المخدرات و"المغيبات" التي تجعلهم "غائبين"و"مغيبين"عن الوجود والحياة المقززة خارج سياج حرارة عاطفة الأسرة المفتقدة،وتلك ظاهرة يعيشها الغرب أكثر من باقي دول العالم التقليدية لموت النسيج الاجتماعي التقليدي المبني على التكافل الاجتماعي والتراحم والتناصح والتآزر الذي كان يحمي الأسر من الانهيار المطلق في مثل هذه الحالات حتى الماضي القريب، حيث حلت محلها اليوم المنظمات الاجتماعية والإنسانية التي تفرخ المزيد من المهمشين،والمهزوزين والمعتلين نفسيا والمجرمين المحتملين -كما تثبت الدراسات السوسيولوجية في الغرب
كما أن السوكيات اللا أخلاقية لأسر الجانبين المتنازعين تجاه الزوجين المختصمين،يساهم بحط وافر في تنمية الشخصيات المهزوزة "السيكوبائية" المذكورة أعلاه التي تعاني من انفصام الشخصية ،وفقدان الاحترام للوسط العائلي والاجتماعي برمته ، كما توضح ذلك في مباحث"علم الإجرام" crimonology
ورحم الله الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه في حسن ترشيده للخلاف المقيتى عندما خاطب الأعرابي الأجلف – الذي كان يمشي وراء الخليفة إلى عدة داره يشبعه شتما وقذفا،- قائلا له بهذه العبارة اللطيفة والحكيمة في فن ترشيد النزاع والافتراق :"اسمع ياهذا !اجعل دائما بينك وبين أخيك مجالا للصلح ،فقد تكون شفيعه أو قد يكون شفيعك يوم القيامة !!