العرب وصناعة الطغاة

محمد فاروق الإمام

محمد فاروق الإمام

[email protected]

يتساءل البعض كيف يكون الطاغية.. طاغية؟! وهل الطاغية نتيجة صناعة وفبركة، أم أنها فطرة فطر الطغاة عليها منذ ولادتهم من أرحام أمهاتهم؟!

وعند العودة إلى التاريخ القديم يمكننا التوقف عند بعض الطغاة المشهورين – لنتعرف عن كينونة وجود الطغاة – وقد يكون فرعون مصر أهم طغاة العصر القديم، حيث ورد اسمه في معظم الكتب السماوية، وخاصة القرآن الكريم.. فإذا توقفنا متمعنين أمام حالة هذا الطاغية الجبار العاتي المتكبر، لوجدنا أن فرعون لم يكن طاغية بفطرته ولا سجيته.. إنما الذي جعله طاغية هو شعب مصر وهم الذين صنعوا منه طاغية، وأوصلوه إلى مرتبة الإلوهية حيث يقول: (ما علمت لكم من إله غيري).. بل وصل به طغيانه إلى التطاول على رب العزة والجلال فقال لوزيره هامان الذي كان ينفخ فيه: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى).

ولما وصل فرعون إلى قمة الطغيان، بدأ الاستخفاف بقومه الذين صنعوا منه طاغية (فاستخف قومه فأطاعوه)، فصادر حريتهم وأطفأ سرج عقولهم وجعلهم كالبهائم بلا تفكير أو إرادة بقراره الطاغي (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

إذن فالطغاة لم يتوالدوا طغاة بالفطرة.. بل جاؤوا من صناعة البشر.. فشعب مصر جعل من فرعون طاغية.. وظلت أمتنا على مدار قرون تجيد فن صناعة الطغاة، ولم يسبقهم في هذا المضمار أحد.. حتى بزغ فجر الإسلام ليبدد دجى الظلام في هذه الأمة، ويجعل منها (خير أمة أخرجت للناس) ويجعل من أبنائها صناع مجد وسؤدد وسمو ورفعة.

جاء الإسلام ليعلم الأمة انه لا مجال لتقديس الأشخاص.. أو تعظيم الأجساد.. ولا مكان لتمكين الأنساب.. أو مصادرة الحريات.. لا مجال للكذب والخداع والنفاق للحكام.. أو مجاملة الملوك.. أو مسايرة الأمراء.. جعلتهم يقفون في وجه حاكمهم إذا أخطأ ويقيمون اعوجاجه بالسيف.

جاء الإسلام ليعلم الأمة أنه لو كان هناك شخص يستحق التقديس والتمجيد والتعظيم، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن جاء الوحي من السماء يحمل قرار منع صناعة الطغاة، أو تقديس الأشخاص: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).

نعم إنه النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. الرحمة المهداة والسراج المنير، الذي غير وجه العالم.. يقول عنه ربه جل وعلا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل).. نعم محمد صلى الله عليه وسلم كان يهون من شأن نفسه فيقولك ((ما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد)).

ووعى الصحابة من بعده الدرس وتشبعوا تلك القيم، فهذا خليفته أبو بكر يعلن على رؤوس الأشهاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن يعبد الله فإن الله حي لا يموت).

إذن فلا مجال في الإسلام لعبادة الأشخاص.. ولا مجال لصناعة الأصنام.. فحين ولي الصديق أمر المسلمين قام خطيباً في الناس يذكرهم بحقيقة نفسه: (وليت عليكم ولست بخيركم).

لقد أغلق الإسلام كل المصانع التي تنتج الطغاة بالشمع الأحمر، وشارك في إغلاق هذه المصانع كل فرد من أفراد هذه الأمة.

فهذا الفاروق عمر يقول للناس: (أيها الناس إذا رأيتم في اعوجاجاً فقوموه)!! فقام رجل من عامة الناس وقال: (والله يا عمر لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا)!!

وسارت الأمة في ظل هذه القيم وهذه الثقافة وهذه المفاهيم قروناً مديدة، كانت فيها عزيزة، منيعة، قوية، مهابة الجانب.. وحين انسلخت الأمة عن عقيدتها.. وتخلت عن منهج خالقها، عادت لعادتها القديمة وراحت تذيب الشمع الأحمر عن مصانع الطغاة وتفتح أبوابها وتدير آلتها وتصنع طغاتها بأيديها.

ولم يكن مثقفو الأمة بعيدين عن صناعة هؤلاء الطغاة، فقد تسابق المفكرون والشعراء والأدباء في إحياء هذه الصناعة، وتبعهم غوغاء الأمة مشاركين في صناعة الطغاة.

فهذا الشاعر (أبو العتاهية) يمتدح الخليفة العباسي (المهدي) قائلا:

أتته     الخلافة     منقادة ...  إليه   تجرجر  أذيالها

فلم   تك   تصلح   إلا له ...  ولم  يكن يصلح إلا لها

ولو  رامها   أحد   غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها

ولو لم تطعه بنات القلوب ...  لما  قبل  الله   أعمالها

وهذا الشاعر الأندلسي (ابن هاني) قد جاوز الحد في مدح (المعز العبيدي) حيث يقول:

ما شئت إلا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار

ومدحه في قصيدة أخرى يقول فيها:

وتلك المنشآت مواخراً ... تجري بأمرك والرياح رخاء

لقد أجادت أمة العرب أكثر من غيرها من الأمم في العصر الحديث فن صناعة الطغاة، وتكاد تكون (صناعة الطغاة) المهنة الوحيدة ذات الجودة العالمية التي تجيدها أمتنا، وشاركت الأمة بمجموعها في هذه الصناعة، فالشعوب تصفق، وتهتف.. والإعلام يقدس ويمجد ويكذب وينافق، والصحف تدبج المقالات والتهاني وتكيل الألقاب.. ثم إذا ما انتهت مدة صلاحية الطاغية وانتهى أجله وظن أنه لن يموت.. خرجت الآلاف المؤلفة راهبة وراغبة متألمة ومتوجعة لتوديع الجثمان الطاهر إلى مثواه الأخير، وسط نحيب وبكاء وعويل، حيث يسجى في ضريح بني خصيصاً له، يتحول في قابل الأيام إلى مزار تحج إليه الوفود.

أليست أمتي هي من ضحك من جهلها الأمم؟!