توحش أصحاب الثروات في مجتمعاتنا
حازم خيري
"ويلهم..ذوي الأيدي المُلطخة بالسوء..
أيها الأصدقاء..إذا ما لامستموهم صدفة!"
ناظم حكمت
ما قد نتصوره اليوم ضلالاً نُناهضه هو في الأغلب فلسفة الغد! ومجتمعاتنا لن تكسب شيئاً من رفض استضافة احتمال أن أية نظرية جديدة قد تكون صادقة. كما أن مجتمعاتنا لا يمكن أن تنجح في التقاط واختيار الآراء الصائبة إذا ظلت مُحاطة بأساليب القمع والتحريم. ولست أبالغ حين أؤكد أن أية قائمة بالآراء التي سبق مناهضتها قد تكون هي نفسها قائمة بالفلسفات الموجودة في زمننا الحاضر!
من هنا تأتى قناعتي بإمكانية أن يكون الفكر الأنسني هو فلسفة الغد في ربوعنا الطيبة، رغم ندرة، إن لم يكن انعدام، المؤشرات المُبشرة بهذه الإمكانية!
الاهتمام بالحرية يبدأ عندما يفيق الناس من الانشغال بمشكلة البقاء المُجرد، فهذا الاهتمام يوجد عندما تتوفر لديهم الفرصة ليفكروا فى موقفهم ويُدركوا أنهم لم يعودوا مضطرين إلى ذلك القبول اليائس للروتين الذى كان يبدو أنهم مغمورون فيه بلا أمل! الستر الاقتصادي والفراغ للتفكير هما شرطان مهمان للانسان الحر!
الذين يعرفون حياة أغلب الفقراء، وخوفهم الدائم من الغد، وإحساسهم المُرعب بالكارثة الوشيكة، وبحثهم المتشنج عن أمان دائم التهرب، سوف يفهمون مُحاجتي انه بدون اطمئنان اقتصادي وفراغ للتفكير يظل طائر الحرية مُهاجراً..
أصحاب الثروات، في أغلب الأحيان، إذا كان عليهم أن يختاروا بين ثرواتهم وبين شيوع الحرية في مجتمعاتهم، سوف يختارون ثرواتهم ويهدمون الحرية! يهدمونها بأنانيتهم وتوحش رغباتهم وتضييق الأرزاق على مواطنيهم!..
التضاد إذن قائم، بل ويكاد يكون حتمي ـ للأسف الشديد ـ، بين التمكين للحرية بين أبناء أي مجتمع، كلهم وليس بعضهم، وبين عدم لجم أصحاب الثروات في هذا المجتمع، وهم قلة بطبيعة الحال، بزعم احترام حقهم في الملكية والتربح!
بيد أنه ـ وأقول هذا للتسهيل ـ قد لايكون التضاد مُهماً فى بعض الأحيان، وهو أمر نادر الحدوث على أية حال! أقصد المواقف التى قد لا يُضار فيها صاحب الثروة من تمتع مواطنيه بلحظات حرية حقيقية نقية، وكذا المواقف التى يكون فيها من مصلحة صاحب الثروة أن يتمتع مواطنوه بلحظات حرية حقيقية..
ولسوف أحاول قدر استطاعتي فى السطور التالية إلقاء الضوء على بعض ملامح رؤية فكرنا الأنسني لكيفية التعاطي مع هذا التضاد المُزمن، لأنه وكما هو واضح لنا جميعاً، لم تنجح الفلسفات المأخوذ بها فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة (بشقيها الفقير والغنى)، وأظنها لن تنجح، فى التعاطي مع هذا التضاد المُرهق!
حتى أننا أصبحنا مضرب الأمثال فى تخلفنا المُضحك! وكيف لا واخوتنا أثرياء النفط، ومن فى معيتهم من مواطنينا، يتسلون بالآيس كريم فى خيامهم المُكيفة بعرفة، أثناء تأديتهم لمناسك حجهم السياحي! أقول كيف لا نُصبح مضرب الأمثال فى تخلفنا، وتليفزيوننا الوطنى يُهدر ساعات الارسال فى تغطية انتخابات نوادى "أبناء الذوات"، مستغلاً جهل البسطاء وهوسهم بفرق هذه النوادى الرياضية!
أصحاب الثروات وشهواتهم التحريضية:
قارئي الكريم، أرانى لا أقصد بالشهوات التحريضية لأصحاب الثروات، سوى ما يُفضي إليه هوسهم بالتملك والتربح من مؤازرة مُطلقة للجهود الرامية لتكريس إغتراب مواطنيهم (الذات) ثقافياً، وكذا التمكين لسلطان الآخرية الآثمة!
ففي كنف الاغتراب الثقافي والآخرية لا يجد أصحاب الثروات صعوبة تُذكر فى تكديس ثروات هائلة، على حساب الذات المُغتربة وفى حماية الآخرية!
ولك أن تتساءل أيها القارئ الكريم، إن لم تكن متابعاً لأعمال كاتب هذه السطور، عما يعنيه بمصطلحي الاغتراب الثقافي للذات والآخرية الاثمة..
المصطلحان يرتبطان برؤية مُقترحة للفكر الأنسني، تُخالف القول الشائع بانه لكي تكون عبارة "الفكر الأنسني" ذات بريق ودلالة يُعتد بها فلابد لها أن تظل دوماً فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه أو لتأكيد يعكس غموض الطبيعة البشرية!
الأنسنية، فى رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، تعنى أن يُحقق الإنسان، أى إنسان، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين لقول الأنسنية بأن الإنسان هو أعلى قيمة في الوجود، وهدفها الماثل في التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية، تحسبا لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي. وكذا شريطة وقوع تلك الأقوال والأفعال في إطار الخصائص التالبة:
[1]معيار التقويم هو الإنسان.
[2] الإشادة بالعقل ورد التطور إلى ثورته الدائمة.
[3] تثمين الطبيعة والتعاطي المتحضر معها.
[4] القول بأن التقدم إنما يتم بالإنسان نفسه.
[5] تأكيد النزعة الحسية الجمالية.
وطبقاً للمعيار المأخوذ به فى رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني، للتمييز بين الذات والآخر، يُعد الإنسان، أى إنسان، أنسنيا (ذاتا أنسنية) طالما أدرك الأنسنية وسعى لتبصير الغير بها، ولم يستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، وكذا يُعد الإنسان ذاتا حتى لو جهل الأنسنية، ولم يُدرك كنهها، أو أعرض عنها، لكنه في تلك الحالة يكون ذاتا مغتربة ثقافيا. فالشائع في المجتمعات المتخلفة، ومنها مجتمعاتنا العربية، هو تنازل الإنسان عن حقه الطبيعي في امتلاك ثقافة حرة ومتطورة، إراحة لذاته وإرضاء لمجتمعه! والمقصود بالثقافة هنا تعريف ت.س.إليوت الأنثروبولوجي لها بأنها طريقة شاملة للحياة، فلكل البشر، على تفاوت مراتبهم، ثقافاتهم الخاصة!
وباستخدام نفس المعيار الأنسني، المُشار إليه تواً،، يُعد آخرا كل من يدرك الأنسنية ويستأثر بها لنفسه أو لفريق بعينه، ويعمل جاهدا في الوقت نفسه للحيلولة دون أخذ الذات المغتربة ثقافيا بها كنهج حياة، وتعميتها عنها بشتى الوسائل والسبل، بهدف حرمان تلك الذات المُستعبدة من جني ثمار الأخذ بالأنسنية..
فتطور التاريخ الإنساني ـ في رؤيتنا المُقترحة للفكر الأنسني ـ لا يعدو كونه نتاجا لصراع ثقافي معقد، أطرافه الذات الأنسنية والذات المغتربة والآخر. أقول صراعا ثقافيا، استنادا ـ وكما أسلفنا ـ لتعريف إليوت الأنثروبولوجي للثقافة بأنها طريقة شاملة للحياة، وهو ما يعني كون الصراع أعم وأشمل منه عند الشيوعيين، فالآخر لا يرمي فقط لاحكام السيطرة الاقتصادية على الذات المغتربة، وإنما يتخطى ذلك ـ بلاإنسانية ـ إلى الحيلولة دون تمتع الذات بحقها الطبيعي فى نقد وتطوير طريقة حياتها! وأقول صراعا معقدا، لتعدد جبهاته وتداخلها..
فهناك الصراع بين الذات الأنسنية الساعية لتبصير الذات المغتربة بالأنسنية وتعرية دور الآخر في تكريس اغترابها، وبين الآخر المدرك للأنسنية والحريص على الحيلولة دون نجاح الذات الأنسنية في إقناع الذات المغتربة بالتخلي عن اغترابها، وكذا الحريص على الحيلولة دون أخذ الذات المغتربة نفسها بالأنسنية كنهج حياة، وهو صراع مؤلم، لا يتورع الآخر فيه عن استخدام أو إغراء الذات المغتربة باستخدام كافة الوسائل المستترة وغير المستترة لحسمه لصالحه..
وهناك أيضا الصراع بين الذات الأنسنية والذات المغتربة، وهو صراع عدائي من جانب واحد، هو جانب الذات المغتربة، يُغذيه الآخر ويؤججه، فهو يُلقي في روع الذات المغتربة أن قهر اغترابها يعني محو هويتها، وأن جهود الذات الأنسنية لحثها على قهر اغترابها والأخذ بالأنسنية، ليست سوى ممارسات عدائية في حقها، ترمي للنيل من خصوصيتها الثقافية وتسعى لهدر ثروتها العقلية..!!
والآن، وبعد أن أوضحنا المقصود بمصطلحى الاغتراب الثقافي للذات والآخرية الآثمة، أظنك تُشاركنى الرأى، أيها القاريء الكريم، انه فى ظل أجواء راكدة كهذه، يصير منطقياً أن لا يجد أصحاب الثروات صعوبة تُذكر فى تكديس ثروات هائلة على حساب الذات المُغتربة وفى حماية الآخرية! وكذا يصير منطقياً أن يعمد أصحاب الثروات، وبتحريض من هوسهم اللامحدود بالتملك والتربح، لتأبيد تخلف مواطنيهم، عبر تكريس إغترابهم ثقافياً والحيلولة دون تعرية الآخرية!
ولتجار الآلام الذين يشتغلون بخلط الأوراق وتعمية مواطنيهم عن التضاد القائم والحتمي، بين التمكين للحرية بين أبناء أي مجتمع، كلهم وليس بعضهم، وبين عدم لجم أصحاب الثروات في هذا المجتمع، بحجة ضرورة احترام حق أصحاب الثروات المُقدس واللامحدود في الملكية والتربح! أقول لهؤلاء التجار إنه لا يُعقل أن يكون فى عدم لجم أصحاب الثروات إرضاء لله، خاصة والتاريخ الانسانى يؤكد أن التضاد قائم، بل وحتمى، بين التمكين للحرية وعدم لجم هؤلاء!
ولتُجار الآلام الذين قد يتمترسون وراء القول بان التضاد لا يكون مُهماً فى بعض الأحيان، أقول إن ذلك يندر حدوثه، وإن الثروة يتم تناقلها بين أجيال تزداد تجبراً بمرور الزمن ويصير هوسها بالتملك والتربح تقليداً يزداد رسوخاً وصلابة.
ضيافة الأرض للانسان قصيرة أيها التُجار، وليس من المروءة ولا من الرفقة الانسانية الصحيحة أن ترفل قلة فى رفاهة مُستفزة، على نحو ما نرى فى مجتمعاتنا العربية المتخلفة، على حساب كثرة تُنفق أعمارها فى خوف وشقاء!
إننى حقاً لا أفهم دواعى القبول بـ"القطط السمان" ـ أقصد المليونيرات والمليارديرات و...إلخ ـ فى مجتمعاتنا الهزيلة! فالأمر مُضحك ومُبكي، وليس له ما يُبرره! اللهم إلا منطق تُجار الآلام وقبول المُغتربين له، على أنانيته وسخافته!
غير أنى لا أود لقارئي الكريم أن يخلط بين رؤية فكرنا الأنسني لكيفية التعاطي مع أصحاب الثروات وبين الفكر الشيوعي، فنحن نقول بلجم أصحاب الثروات لا إبادتهم، وكذا نقول بمُعاقبة من يتوحش منهم باجباره على القبول بالستر الاقتصادي، الذى يتمنى مثلي أن يرفل فى غلائله، لتُتاح له فرصة التفكير!