العفّة... في سوق المفكِّرين

العفّة... في سوق المفكِّرين
 

سهاد عكيلة

[email protected]

في صيف 2008 كتبتُ في هذه الصفحة مقالة بعنوان: (لبنان... صيف هادئ وفساد صاخب)(1)؛ ويبدو أن المقالة أثارت حفيظة أحد "المتحرِّرين" فعلّق عليها في سياق حديثه عن النساء "الظلاميات" اللاتي يقفن ضد بنات جنسهن؛ يقول الكاتب العراقي عبد المنعم الأعسم في مقالة له بعنوان: "8 آذار... نساء في مواجهة نساء"(2) بعد أن توقف بالتحليل عند أفكار عدد من الكاتبات المسلمات: (أما سهاد عكيلة (من لبنان) فقد أطلقت شعارات التجييش ضد نساء المدينة اللواتي يتنقلن بمفردهن بين المتاجر وكتبت تقول: "تحرر البلد، وتحرر وسط بيروت التجاري، بكل ما تعنيه الكلمة، من احتلالٍ سياسي، ليرزح من جديد تحت وطأة الاحتلال اللاأخلاقيّ! حتى حار أهل العفّة والحياء أين يتّجهون بأبصارهم!"). ويتابع محلِّلاً: (إن ثقافة العنف الذكورية والاحتكارية.. ثقافة الرِّدة.. تعبر عن نفسها الآن في أبشع صورة حين تتولى المرأة مهمة تلطيف وتحبيب إذلال بني جنسها.. باسم العفة). وكان "مثقفنا المتحرر" قد استهل مقالته بمقدمةٍ هذا بعضها: (... فإنّ نساء (وبينهن كاتبات) يتصدرن الآن عاصفة غبارٍ صفراء تستهدف إغلاق منافذ الأوكسجين على النساء ومنعهن من التحرر...)!
هذا ما يقوله مثقفنا "المسلم العربي": عبد المنعم؛ فلنُنعِم النظر في قناعات بعض مثقفي "الغرب الكافر": يقول "جورج بالوش هورفت" في كتابه "الثورة الجنسية": الآن بعد أن كادت مخاوفنا تهدأ من الخطر الذَّري، وتستريح للتصالح بين القوى العظمى؛ ألا نشعر بالخشية إذ نرى أمواج الشهوات الجنسية وغارات العُري والإغراء لا تهدأ حتى تثور؟ إنه يجب أن ينشغل الناس انشغالاً جادّاً بالقوة الهائلة التي يمكن أن تبلغها الحاجة الجنسية إذا لم يكفكِفْها الخوف من الجحيم! ويلفت المؤرخ الإنكليزي المشهور "أرنولد توينبي" النظر إلى أن سيطرة الغرائز الجنسية على السلوك والتقاليد يمكن أن تؤدي إلى تدهور الحضارات(3).
أردتُها مقابلة لأدلِّل على أنّ الفِكر عندما يكون متحرّراً يستطيع أن يرى بعين الفطرة، ويحكم بحكم العقل، وعندما يكون محتَلاًّ خاضعاً مهزوماً لا يستطيع إلا أن يرى بعين "المهزوم" وأن يحكم بحكم الهوى! وإلا كيف نفسر انقلاب الموازين في حسّ هؤلاء "المسلمين" بصورة لم يُشهَدْ لها مثيل في التاريخ الإسلامي؟ وبالمقابل كيف ينبغي أن نفهم ما نحا إليه بعض العقلاء من مثقفي الغرب "غير الظلاميين"؟ حيث تنبّه هؤلاء لهذا الخطر فحذّروا من خطورة انفلات الغرائز من عقالها من خلال إحاطتها بكل ما يحوِّلها إلى وحشٍ كاسر يدمِّر الإنسان ويخرِّب عليه حياته.
والذي يعتبر أن الترويج لثقافة العفاف بين المسلمين خنق للحريات وإغلاق لمنافذ التنفس على النساء واحد من اثنين:
إما أنه قابع في برج عاجي لم يقف على مقدار الفساد المنتشر في المجتمعات نتيجة الترويج لثقافة العري والابتذال، ولم يطّلع على نِسب الجرائم الأخلاقية من زنا واغتصاب وتجارة بالرقيق وشذوذ على أنواعه وأشكاله وصوره، ثم على نتائجها من أمراض أخلاقية ونفسها من عُقَد وهوس وانهيارات عصبية وانتحار... وأخرى جسدية أخطرها الإيدز وغيرها مما لم يُعرف بين أسلافنا في عهود سيادة "العفة" في المجتمع.
أو أنه منضمّ إلى طابور المَبْهورين بالثقافة الغربية، أو المنسجمين مع ما يخطِّط له الأعداء من سلخ المجتمعات الإسلامية عن روحية مبادئ الإسلام بدعوى أنها من مخلَّفات الماضي وأنها لم تعد تصلح لإنسان هذا العصر! وإلا فما مبرر الدعوة إلى "التحرر" دون قيد أو شرط؟ وما تفسير الهجوم على كل مَن يدعو إلى عفة القلب واللسان والسلوك، واتهامه بألفاظ الرجعية والظلامية والإرهاب والعنف... وما إلى ذلك من مصطلحات خَبِرْنا خلفياتها جيداً؟!
إن الإسلام عندما وضع قواعد التعامل بين الجنسين، وتالياً عندما نصَّ على حدود العورة بالنسبة للنساء والرجال، انطلق من طبيعة الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، والذي خَلَق أعلم بما يُصلح شأن المخلوق ويحفظ له بيئته طاهرة نظيفة... أما الذين يتبعون الشهوات فيريدون: (أن تميلوا مَيْلاً عظيماً).
فما الذي يُزعجك في الحديث عن "الاحتلال اللاأخلاقي"؟ أوَليس لهذا الإطلاق شهادة له من الواقع؟ اذهب – على سبيل المثال لا الحصر - إلى الـ Down Town في بيروت أو ما اشتُهِر بين جيل الشباب اللبناني بـ DT، بل اذهب إلى أي مكان سياحي في لبنان لتطالعك مشاهد العُري "المحنّطة" و "الراجلة" ومناظر العلاقات المشبوهة... لتقف على حقيقة الأمر، ثم خبِّرْنا عن انطباعك: هل كانت تلك الصور مما يؤذي العين والنفس، أو مما يلوِّن النظر ويُبهج النفوس، ويجعل للعيون والقلوب "سياحتها الخاصة"؟!!
أما نحن الملتزمين أصحاب "الفكر المستنير" المستهدي بهدي النبوة فقاعدتنا في ذلك قول الحق تبارك وتعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ...) إلى آخر الآية، [النــور: 30 -31]. وهذه القاعدة لا تتغير بتغير المكان، ولا يتخطاها الزمان، لأن فطرة الإنسان هي هي منذ خلقها الله لم يطرأ عليها تغيير ولا تبديل ولا تعديل، ولو حدث هذا لأُرسل نبيٌّ بشرائع جديدة تتناسب مع هذا "الجديد" الوافد إلينا من الفضاء الخارجي!
فليتقِِ الله في أنفسهم وفي مجتمعاتهم أصحابُ الأقلام التي تنظِّر لثقافةٍ غير ثقافتنا، وتحاول تصدير تجارب ممجوجة خرّبت على الغرب مجتمعاتهم وأحالتها سوقاً كبيرة عنوانها العريض "المتاجرة بالإنسان": بمشاعره وجسده وعقيدته ومبادئه... وكل ما يتعلق به معروض للبيع، والفائز بحسب ذلك المنطق الضيِّق: مَن يدفع أكثر!
ولتتقين الله يا بنات الإسلام ولا تنخدِعْن بتلك الأبواق التي تدّعي الحرص عليكن: أَهًمْ أعلمُ أم الله؟ وإياكنّ والانحدار مع الهوى باسم حريّتهم الزائفة التي لا تريد منكن غير "الجسد" عارياً وغير "الروح" وقد غطّتها المادية وخلت من المبادئ والقيم!! ولتحذرن من وعيد رسول الله: "نساءٌ كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها..."، ولتتخذن قول الله تعالى شعاراً له ترجمته في حياتكنّ: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا) [الأحزاب: 36].
وليعلم الجميع أنه طالما وجد الفساد تحت أيِّ مسمى كان وفي أيِّ صورةٍ برز سنحاربه بمختلف الوسائل المعاصرة و"القديمة" رضي بذلك مَن رضي وسخط مَن سخط، عسى أن نكون ممن يشملهم قول الله سبحانه: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون) [هود: 116 - 117].

              

1. مجلة منبر الداعيات – العدد: 137 – جمادى الآخرة 1429 = حزيران 2008.
2. الحوار المتمدن - العدد: 2580 -9 آذار 2009.
3. من كتاب "قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة" للشيخ محمد الغزالي.