دلالة الجمع على القلة والإفراد على الكثرة
دلالة الجمع على القلة والإفراد على الكثرة
د. محمد فاضل السامرائي
الغالب في جمع غير العاقل أن يعود عليه الضمير في جمع الكثرة بالإفراد وفي القلة بالجمع. والمقصود من جمع القلة هو الجمع الذي يكون من الثلاثة إلى العشرة، وأما جمع الكثرة فهو ما زاد على العشرة. نقول: (الأشجار سقطنَ) إذا كانت الأشجار قليلة، ونقول: (الأشجار سقطتْ) إذا كانت كثيرة. ونقول: (الجذوع كسرتها وانكسرتْ) بالإفراد إذا كانت قليلة، ونقول: (الأجذاع انكسرنَ وكسرتهنّ) بالجمع إذا كنّ قليلات.
وهذا ما نطق به القرآن الكريم واستعمله العرب في كثير من كلامهم. قال تعالى: ] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [ [التوبة 36]. فضمير الأشهر في قوله: ] مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [ [التوبة 36], جاء بالإفراد لأنها أكثر من عشرة ولهذا قال: (منها), ولم يقل: (منهن). أما ضمير الأشهر الحرم فقد جاء بالجمع في قوله: ] فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [ لأنها أربعة، ولهذا لم يقل: (فيها).
و من ذلك قوله تعالى: ] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [ [البقرة197], فأعاد الضمير عليهن بالجمع لأنهن ثلاثة أشهر.
وقال تعالى: ] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا % وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [ [نوح 16ـ 15], فأعاد الضمير على السماوات بصيغة الجمع لأنهنّ سبع.
وقال: ] فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْك [ [البقرة 260], فأعاد الضمير على الطير بصيغة الجمع لأنهنّ أربعة طيور. وقال: ] لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِن [ [المائدة120], وقال: ] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [ [الطلاق12], فأعاد الضمير على السماوات بصيغة الجمع أيضًا لأنهنّ سبع.
وقد جاء هذا أيضًا في استعمال كلام العرب للضمير فيما يؤرخون ،فإن العرب ‘‘لما بين الثلاثة إلى العشرة تقول: (ثلاث ليالٍ خلونَ), و(ثلاث أيام خلونَ) إلى العشرة. فإذا جزت العشرة قالوا: خلتْ ومضتْ‘‘ بالإفراد.
ومن الواضح أن العرب تستعمل الجمع للقلة والمفرد للكثرة في مواطن منها:
1 ـ تمييز العدد، فإن العرب تستعمل الجمع مع القلة والمفرد مع الكثرة فيقال: (خمسة رجال), و(عشرون رجلاً).
2 ـ الضمير في التاريخ وغيره ـ كما ذكرنا ـ نحو: (الجذوع انكسرتْ وانكسرنَ), ومنها ومنهنّ وخلتْ وخلونَ.
3 ـ صفة جمع ما لا يعقل، فإن الإفراد يستعمل للكثرة والجمع للقلة نحو: (أيام معدودات), و(أيام معدودة), فإن (معدودة) تدل على أن الأيام كثيرة، و(معدودات) للقلة. ونحو: (أنهار جاريات), و(أنهار جارية), فإن (جارية) تدل على أن الأنهار كثيرة، و(جاريات) تدل على أنهن قليلات.
وعلى هذا فقوله تعالى مخبرًا عن نعيم الجنة: ] فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ % وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ % وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ % وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [ [الغاشية13 ـ 16], يدل على أن في الجنة سررًا وأكوابًا ونمارق وزرابي كثيرة، ولو قال: (مرفوعات، موضوعات، مصفوفات، مبثوثات) لدلّ على أنهن قليلات.
وقد وصفت الأيام في القرآن الكريم تارةً بمعدودةٍ، وبمعدوداتٍ تارةً أخرى.قال تعالى على لسان بني إسرائيل: ] وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً [ [البقرة80], وفي موطن آخر: ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَات [ [آل عمران24], فما سبب ذلك؟
لاشك أن الأيام المعدودة أكثر من الأيام المعدودات،ومعنى هذا أن مدة عذاب الأيام المعدودة أكبر من مدة عذاب الأيام المعدودات، وعلى هذا فجرم بني إسرائيل في سياق الأيام المعدودة أكبر من جرمهم في سياق الأيام المعدودات لكي يتناسب هذا الأمر مع طول مدة العذاب.
إن الكلام في الآية الأولى على بني إسرائيل، وقد أكثر من الكلام عليهم وذكر صفاتهم السيئة، فذكر أنهم يحرفون كلام الله وهم يعلمون. قال تعالى: ] أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ % وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [ [البقرة 75 ـ 76]. فهم يعرفون جرمهم ويقرّون به ويعملون به عن قصد وإصرار، وقد توعدهم الله بالعذاب الشديد فقال: ] فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [ [البقرة 79].
إذن فهم يعملون بالجرم عن قصد ويحرفونه عن علم ليشتروا به ثمنًا قليلاً. وإذن فهم يعلمون أن الله معاقبهم على هذا الجرم فقالوا: ] إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً [ فجاء بصيغة الكثرة.
وليس الأمر كذلك في آية آل عمران،فقد قال: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ % ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ [آل عمران 23 ـ 24]. فليس في آية آل عمران مثل الجرم المذكور في سورة البقرة من ارتكاب الذنب العمد وتحريف كلام الله، ففرق كبير بين المقامين، فجاء بزمن العذاب الطويل للجرم الكبير، والقليل للذنب القليل فقال: (معدودات) بصيغة جمع القلة في آل عمران، بخلاف آية البقرة.
وقد يعدل إلى غير هذا لضرب من البلاغة كتنزيل القلة منزلة الكثرة وبالعكس مما يليق به المقام, وذلك نحو قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون % أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [ [البقرة183 ـ 184]. فقال: ] أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [ لتقليلها مع أنها أكثر من عشرة، أي هي قليلة يسيرة بالنسبة إلى قدرتكم واستطاعتكم، ولذا قال بعدها: ] يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ [البقرة 185]. وهو من باب التلطف بعباده المؤمنين. وهذا نظير ما نستعمله في كلامنا فنقول لواحد منا وقد أعددنا له أمرًا فيه شيء من الكلفة نريد أن نهوّنه عليه فنقول: هذا بالنسبة إليك سهل ميسور ولا يمر وقت طويل إلا وأنت منجزه.
4 ـ اسم الإشارة لغير العاقل، فـ(هؤلاء) للقلة، و(هذه) للكثرة، و(أولئك) للقلة، و(تلك) للكثرة. قال تعالى: ] إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [ [الإسراء36]. فقال: (أولئك) لقلتهن.