منتحرون ... أم  منحورون ؟؟!

منتحرون ... أم  منحورون ؟؟!

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

يقفز إلى ذهني بعض الكلمات التى كتبتها في ظلال الحكم الكئيب الذي نعيشه : وصدرت بها كل قصيدة من مجموعة قصائد قصيرة نظمتها يجمعها عنوان واحد هو " حدَثَ في جمهوريةِ ظلمِسْتَان " ... وكلمات هذا التصدير:     

اسم الدولة : ظلمُـستانْ

حاكمها الأعلى : بـَهمـان

هو الدستورُ

هو القانونُ

هو السلطانْ

وشعارالدولة : مشنقةٌ

تتدلى من خلف القضبانُ

وسجونٍ سودِ الجدرانْ

الناسُ جياعْ

والفقرُ الضاري في كل مكانْ

ونيوبُ الأمراض الشتَّى

تنهش نـهشا في الأبدانْ

***********

ولا يختلف اثنان في أننا نعيش عصر " الدولة البوليسية "  ، التى يكون للسلطة التنفيذية المقام الأول في كل السلطات .  وإلا  ما معنى أن يصدر القضاء حكما بالبراءة ، ثم يصدر قرار من وزير الداخلية باعتقال البريء عملا بقانون الطواريء . حدث ذلك عشرات المرات ، وما زال يحدث ، مما يفقد المواطنين الشعور بالأمن والطمأنينة ، وقد يدفعهم إلى فقد الولاء لمصر " المخروسة " .

 ولكن دعك من هذا يا قارئي العزيز ؛ فهناك ما هو أنكى وأمرُّ : وهو تعذيب المواطنين إلى الموت ، وبعد ذلك هناك متسع لرجال الأمن في ادعاء أن السجين مات منتحرا . وهو في الواقع مات " منحورا " ، لا منتحرا . وقد يكون القتل بالحرمان من الدواء الضروري إلى أن يقضي نحبه  كما حدث للمهندس أكرم زهيري . والمهندس أكرم  كان أحد ناشطي الإخوان المسلمين بمدينة الإسكندرية، وهو يبلغ من العمر قرابة 40 سنة. قبض عليه –ظلما وعدوانا- ضمن 58 من الإخوان يوم 15/5/2004. وبسبب التعذيب، وتركه بلا دواء ولا علاج قرابة عشرة أيام وهو المريض بالسكر الشديد، لقي ربه شهيدا يوم الأربعاء: 9/6/2004. وترك وراءه زوجة، وثلاثة أبناء: (دعاء) و(محمد) و(هدى) في الرابعة من عمرها  .

وفي مساء السبت (17/2/2006), استُشهدت «دعاء» ـ كبرى بناته ـ بضربة من «ترام» غاشم .

**********

 ولا ننسى في هذا السياق مأساة " فارس بركات" ، وهو ضحية جهاز أمن الدولة بدمنهور الذي تم إلقاؤه من شرفة الدور الرابع بعقار بشارع الموازين بمدينة دمنهور، بواسطة المخبر السري جمال طايع  بناءً على تعليمات الرائد ناجي الجمال الضابط بمباحث أمن الدولة بدمنهور.

***********

ولا ننسى كمال السنانيري الذي اعتقل في أكتوبر سنة 1954م ،  وحكمت عليه المحكمة التي أنشأها  عبد الناصر بالسجن الذي أمضى فيه كمال الحكم حتى أفرج عنه في يناير سنة 1973م،.

وبعد خروجه،  من السجن الذي جاوز العشرين عامًا واصل مسيرته في سبيل الله، فذهب  لميدان الجهاد في أفغانستان حيث أعطاه جهده وطاقته، وبذل أقصى ما يستطيع لدعمه ، وإصلاح ذات البين بين قادته . وحين اعتقل بعد عودته من أفغانستان، ظل العذاب يُصب عليه من زبانية السلطة وهم ينهالون عليه تقطيعًا وتمزيقًا، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ولقي ربه شهيدًا من شهداء الحق والصدق إن شاء الله يوم 8/11/1981م.

وأعلن رسميا وفاته منتحرا في زنزانته بسجن استقبال طرة في 4/11/1981،  وصور فؤاد علام ــ خبير التعذيب ــ الانتحار بروايتين مختلفتين، في الأولى قال إن السنانيري علق نفسه في كوع الحوض الذي يرتفع أقل من متر عن الأرض ، وأنه استعمل في ذلك حزاما من القماش يربط به "البنطلون" الذي يرتديه المسجون، ومعروف عن هذا القماش انه مهترئ وقديم ويقطع عند أي ضغط عليه، ولا يمكن لشخص أن يعلق نفسه في أقل من متر .

 ويبدو أنه وجد أن هذه الرواية غير منطقية، فذكر رواية اخرى بأن السنانيري ربط نفسه بملاءة ووقف على كرسى وعلقها في السيفون ثم أزاح الكرسي .

وكذبه الواقع على لسان واحد من ضحايا علام ، وقال إنه كان في السجن في هذا الوقت ولم يكن هناك "سيفون" وليس هناك أكثر من الحوض الذي يمكن للانسان ان يغسل فيه يده، فرد عليه علام بأنه لا يتذكر ما اذا كان الانتحار تم بملاءة أم بشيء آخر. والحقيقة الدامغة أن رجال علام قاموا بتعذيب السنانيري حتى فارق الحياة  .

 

***********

ويجب ألا ننسى الشهيد سليمان خاطر :      

 وسليمان محمد عبد الحميد خاطر من مواليد قرية أكياد في محافظة الشرقية بجمهورية مصر العربية ، وهو أخر عنقود من خمسة أبناء في أسرة بسيطة أنجبت ولدين وبنتين قبل سليمان.

التحق سليمان مثل غيره بالخدمة العسكرية الإجبارية، وكان مجندا في وزارة الداخلية بقوات الأمن المركزي.

وكان من الصعب على أحد أن يعرفه لولا ما حدث في أخر أيام خدمته في سيناء

في يوم 5 أكتوبر عام 1985م وأثناء قيام سليمان خاطر بنوبة حراسته المعتادة بمنطقة رأس برقة ( أو بركة )  بجنوب سيناء فوجئ بمجموعة من السياح الإسرائيليين يحاولون تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته فحاول منعهم وأخبرهم بالانجليزية أن هذه المنطقة ممنوع العبور فيها قائلا: stop no

passing إلا انهم لم يلتزموا بالتعليمات ، وواصلوا سيرهم بجوار نقطة الحراسة التي توجد بها أجهزة وأسلحة خاصة غير مسموح لأي إنسان الاطلاع عليها فما كان منه إلا أن أطلق عليهم الرصاص خاصة ان الشمس كانت قد غربت وأصبح من الصعب عليه تحديد سبب صعود هؤلاء الأجانب الهضبة ، وكان عددهم 12 شخصا .

وسلم سليمان خاطر نفسه بعد الحادث ، وبدلا من أن يصدر قرار بمكافأته علي قيامه بعمله ، صدر قرار جمهوري ــ بموجب قانون الطوارئ ــ بتحويل الشاب إلي محاكمة عسكرية .

و صدر الحكم بحبسه 25 عاما من الأشغال الشاقة المؤبدة . قال تقرير الطب الشرعي انه انتحر، وقال أخوه لقد ربيت أخي جيدا وأعرف مدي إيمانه وتدينه، إنه لا يمكن أن يكون قد شنق نفسه لقد قتلوه في سجنه.

وقالت الصحف القومية المصرية انتحر سليمان خاطر بأن شنق نفسه على نافذة ترتفع عن الأرض بثلاثة أمتار .

ويقول من شاهدوا الجثة أن الانتحار ليس هو الاحتمال الوحيد ، وأن الجثة كان بها أثار خنق بآلة تشبه السلك الرفيع علي الرقبة ، وكدمات علي الساق تشبه أثار جرجرة أو ضرب .

وقال البيان الرسمي أن الانتحار تم بمشمع الفراش ، ثم قالت مجلة المصور إن الانتحار تم بملاءة السرير ، وقال الطب الشرعي : إن الانتحار تم بقطعة قماش  مما تستعمله الصاعقة.

وأمام كل ما قيل، تقدمت أسرته بطلب إعادة تشريح الجثة عن طريق لجنة مستقلة لمعرفة سبب الوفاة، وتم رفض الطلب مما زاد الشكوك ، وأصبح "النحر"   أقرب تصديقا من "الانتحار" .

رحم الله  سليمان خاطر شهيد مصر والحق والكرامة .

***********

ومن حقنا أن نعيش دقائق مع ما صرح به الرئيس مبارك في حديث طويل جدا لمجلة المصور المصرية بتاريخ السبت ، يناير  18 /   1 / 1986 : تناول فيه مأساة سليمان خاطر :

 س : قلت سيادة الرئيس لقد انتحر سليمان خاطر برغم طيب معاملته داخل السجن لأن نفسيته الهشة وعمره الصغير وتجربته المحدودة لم تتحمل هذا الفارق الشاسع بين حقيقة ما جري في تل بركة  وبين الصورة التي رسمتها له لمعارضة ج : الرئيس : كنت اتمني حكم البراءة لسليمان خاطر كما كان يتمناها الآخرون، ولكن الذي حدث أن سليمان خاطر قتل اطفالا ونساء وأن المحكمة أدانت الحادث واصدرت الحكم ، ولم نتدخل من قريب أو بعيد ، ولم تكن هناك ضغوط من أية جهة ، ونحن لا نقبل ضغوطا من أية جهة .. نرفض الضغوط ايا كان مصدرها..

 وعندما جرت محاكمته سارعوا الي التشهير الكاذب بأن هناك ضغطا علي مصر، وأن اسرائيل ربطت بين قضية طابا وضرورة محاكمة سليمان خاطر.

س : سيادة الرئيس بودي ان اسأل ؟ بماذا تفسر موقف المعارضة من قضية انتحاره ، ماذا يريدون علي وجه التحديد من إحاطة حادث انتحاره بهذه الشكوك الكثيفة ؟ مرة يروجون أن اجهزة  الموساد - المخابرات الاسرائيلية - تمكنت من التسلل إلي زنزانته لتقتله انتقاما ، ومرة أخري يروجون أنه قد لقي مصرعه في السجن الحربي ، لأن الدولة تريد ان تتخلص منه .

    ..... وكان عليك ان تسألهم - هم - عن أسباب هذا التشكيك .  إنه سخف وضحك علي عقول البسطاء . وللأسف فإن ذلك يجري باسم الديمقراطية ، ولكنهم في واقع الامر يضربون الديمقرطية في مقتل.

***********

وعلينا أن نذكر في هذا السياق المصري الموهوب عبد الحميد شتا الذي تخرج في كلية الاقتصاد و العلوم السياسية ، وكان موضع تقدير أساتذته . وكان يكتب في أكثر من مطبوعة مهمة منها :مجلة السياسة الدوليةة و مجلة النهضة التي تصدرها الكلية.

وله العديد من الأبحاث التي قدمها في العديد من المسابقات و نال بها المركز الأول ، لذلك كان يشارك في المؤتمرات العلمية التي تعقدها الكلية.

وتقدم عبد الحميد شتا للعمل بالخارجيةالمصرية.....واجتاز كل  الاختبارات .

و كان ترتيبه  في تلك الإختبارات "الأول" علي 43 شاباً وصلوا إلي التصفيات النهائية...... واختاروا للوظيفة من يليه في الترتيب ... والسبب....أن "عبد الحميد شتا غير لائق إجتماعيا" ؛ فأبوه فلاح مصري بسيط من قري إحدي المحافظاتت. وتحت وطأة هذا الظلم الفادح ... انتحر عبد الحميد بإلقاء نفسه في النيل . ونحن لا ننكر حرمة الانتحار . ولكن الذين ظلموه يجب أن يحاكموا ؛ فالظلم جريمة من الكبائر . ورحم الله عمر بن الخطاب ، فقد هدد أحد الصحابة بأنه سيقيم عليه حد السرقة ؛ لأنه يجيع غلامه  مما دفعه أن يسرق منه ليشتري طعاما .

  وإني أسال حكامنا الأفذاذ : إذا كانت " الفِلاحة " تعني انعدام اللياقة الاجتماعية فهل يعني هذا توفر هذه الصفة في الـ 50 % من أعضاء مجلس الشعب ؟؟!!

وبصراحة أقول : إننا لو أخذنا بهذا المعيار لكان حكم رجال الثورة باطلا ؛ لأن أغلبهم من أسر متواضعة اجتماعيا.

**********

. الآن من حقنا أن نسأل القاريء أن يجيبنا في ضوء ما ذكرنا ، وفي جو هذا الحكم الاستبدادي البوليسي الغاشم : ما رأيك فيما حدث للذين ذكرناهم آنفا : هل انتحروا أم نُحِروا ؟ وتذكر قوله تعالى " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ " الشعراء  (227) .

وتذكر قوله تعالى  " فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ "  الروم (57)