على عتبة الخائن يعقوب
(2- 2)
أ.د. حلمي محمد القاعود
يمثل الاحتجاج والغضب الطائفي من أجل الخائن يعقوب حالة ذات دلالة خاصة ؛ فأن تدافع عن خائن بقوة وضراوة فإن ذلك يعني أنك نشاركه سلوكه الخياني ، وتشاطره منهجه المعادي لوطنه وقومه . والذين دافعوا عن الخائن يعقوب وضعوا أنفسهم في هذا السياق . ثم إن الانطلاق من كون يعقوب يمثل نصارى مصر جميعا وينطق باسمهم ؛ فإن ذلك يعد إدانة للطائفة بأكملها ويضعها في دائرة الخيانة.. وهذا غير صحيح ، فمعظم أبناء الطائفة ما زالوا مهمومين مثل بقية أبناء مصر المسلمين بلقمة العيش وشئون الحياة اليومية ، وإن كانت قيادة التمرد الطائفي تحاول الإيحاء بأن الطائفة كلها تخون الوطن ، وتوالي العدو ، وتستقوي بالأميركان .
كذلك فإن يعقوب حين يتحول إلى رمز للتمرد الطائفي يدافع عنه الخونة والمأجورون ، ويرهبون من أجله علماء الأمة ومثقفيها ؛ يجعل المتمردين والطائفة يخسرون جميعا ؛ لأنهم تمسكوا برمز خائن ومجرم وعميل ، لا يشرف أحدا ، ولا يقدم خيرا لأحد ، بل يبقى عارا دائما في ذاته ، ولمن يدافعون عنه ، ومن يتخذونه رمزا وقدوة وأسوة ؛ ويتجاهلون في الوقت ذاته النماذج الفريدة التي اندمجت في السياق الشعبي ودافعت عنه وتفاعلت مع آلامه وأحلامه ، فرفعها الشعب إلى أعلى عليين ، ولعل الناس في هذا السياق يذكرون مكرم عبيد الذي كان سكرتيرا لحزب الوفد القديم ، ومن بعده إبراهيم فرج في الوفد الجديد !وبالطبع فإن يعقوب الخائن لايساوي قلامة ظفر لواحد منهما أو من غيرهما من شرفاء النصارى الذين لم يلوثهم التمرد الطائفي بأفكاره الشريرة عن المسلمين الغزاة ، واللغة العربية الدخيلة ،وحق اليهود في تحرير فلسطين من المسلمين ، فضلا عن الاسطوانة المشروخة التي يرددونها حول الاضطهاد الذي تمارسه الأغلبية !
ولا يبعد عن الموقف الخياني بالدفاع عن يعقوب الخائن ، ما جرى في مصر في العقود الأخيرة التي بدأت منذ قادت الكنيسة التطرف الطائفي في أوائل السبعينيات من القرن الماضي حتى الآن . ويكفي أن نشير إلى بعض الأحداث في الأسابيع الماضية لتكشف طبيعة التمرد الذي يأخذ شكل التحرش بالدولة : السلطة والشعب معا . على سبيل المثال : تحدي الكنيسة لمحافظ الإسكندرية ومقاطعته لعدم استجابته لتحقيق مطالب غير مشروعة طالبت بها ، وقد عاقبت الكنيسة الأب باروخيم بالعزل من منصبه حيث كان وكيلا للبابا على مدى ثلاثة عشر عاما ، لأنه خالف أوامر الكنيسة بمقاطعة المحافظ ، والتقي به وألقي قصيدة في مديحه .
لقد دأبت الكنيسة على تحدي السلطة أيا كان مستوى هذه السلطة ، وقد تحدى رأس الكنيسة الرئيس السادات ، والنظام من بعده ، كما امتنعت الكنيسة عن استقبال المهنئين بالأعياد قبل مصرعه وبعده ، وصار الاعتكاف شارة ترسلها الكنيسة إلى العالم الاستعماري الصليبي ؛ كي يضغط على السلطة في مصر لتحقق مطالبها الخارجة عن القانون والدستور !
ولآن الكنيسة لم يعجبها محافظ الإسكندرية ، فقد قاطعته وفرضت حظرا على الالتقاء به من جانب النصارى ، ومن يخالف تتم معاقبته كما حدث مع باروخيم ..
يجب أن يرضخ المحافظ الذي كان يشغل فيما سبق منصبا أمنيا مهما ، لإرادة الكنيسة ،ولو كانت مخالفة للقانون والنظام العام .
وامر نفسه ينسحب على محافظ قنا . والمفارقة أن محافظ قنا من الطائفة النصرانية ، ولكن القوم يريدون منه أن ينفذ لهم رغبات مخالفة للقانون ، فشنوا عليه حملات دعائية ممتدة لإرهابه وإرغامه على المخالفة .
ولم يكتف القوم بذلك ؛ بل راحوا يقدمون الشكاوى إلى الجهات العليا ضد المحافظ الذي يملك فيما يبدو حسا خلقيا رفيعا يمنعه من تلبية مطالب غير مشروعة للكنيسة المتمردة !
وقد ذهب المتمردون الطائفيون الذين يدافعون عن خيانة يعقوب إلى مدى أبعد ، حين استغلوا موضوع قرية اسمها " دير أبي حنس " في الوجه القبلي . فنصبوا مأتما شمل العالم كله ، وتبارت القنوات الطائفية أو التي يسهم في ملكيتها طائفيون متعصبون في نقل المظاهرات التي شملت القرية احتجاجا على تغيير اسمها القديم إلى " وادي النعناع " ، ومع أن محافظ المنيا الذي تتبعه القرية اصدر قرارا بالإبقاء على الاسم القديم استجابة لرغبة المتمردين الطائفيين ، فإن خونة المهجر لم يرضهم ذلك ، بل دعوا إلى المزيد من التظاهرات والاحتجاجات بل وصل " الغل " الطائفي بأحدهم إلى مطالبة ربع مليون نصراني بالتظاهر عند القصر الجمهوري ومجلس الوزراء وفي الأماكن العامة كي ينال النصارى – أو المتمردون بمعنى أدق – حقوقهم الضائعة ، ويعبروا عن هويتهم التي يطمسها " المتأسلمون " الوهابيون ألمتشددون !!
إنهم يعددون مظاهر الاضطهاد المزعومة في خطف البنات النصرانيات بتواطؤ من أمن الدولة ، وعدم ترخيص بناء الكنائس ، وعدم التعيين في الأجهزة والمؤسسات الممنوعة عليهم ، وعدم وجود كوتة للنصارى في المجالس النيابية ، وعدم إنصافهم من القضاء المصري ( الظالم ) ، والاستيلاء على ممتلكاتهم من جانب المتعصبين والرعاع ، والهجوم على دينهم في وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية ، وجدولة الامتحانات في أعيادهم !
الخونة يطالبون أن يكون النصارى رقما صعبا في المعادلة المصرية ، وهذا لا يكون بمفهومهم إلا من خلال المظاهرات المستمرة والمتشعبة والمتكررة والكبيرة ، وكلما وجدوا استجابة لمطالبهم ازدادوا احتجاجا في كل مكان في مصر .
وإذا كان النصارى يمثلون طائفة محدودة ( أقل من5 % ) من عدد سكان مصر ، تريد أن تكون رقما صعبا في المعادلة المصرية ، فما رأيهم لو حاولت الأغلبية أن تتخذ أساليبهم نفسها فتتظاهر ضدهم وتكرر التظاهرات ، وتضغط عليهم لإعادتهم إلى حجمهم الحقيقي ، وإدخالهم في المسار الاجتماعي الطبيعي كي يكونوا مواطنين عاديين بلا امتيازات ولا حصانة ولا استقواء ؟
إن عقلاء النصارى يدركون جيدا أن تمرد الكنيسة واستقوائها بالعدو الصليبي الصهيوني ، واستغلال الأوضاع المتردية في النظام لتحقيق مزيد من الامتيازات ، وفرض الإرادة الطائفية،وإلغاء الإسلام ، وإعلان ما يسمى الهوية القبطية والتاريخ القبطي والتراث القبطي ؛ لن يكون مردوده في صالح الطائفة ، بل سيخلف مضاعفات قد تكون نتائجها مدمرة على الطائفة والأغلبية معا .
إن خيانة يعقوب لم تترك آثارا مدمرة مثلما تترك خيانة المتمردين الطائفيين الآن ، فقد كانت الطائفة أيام يعقوب تشعر أنها ضمن النسيج العام أو جزء منه ، وليست عنصرا غريبا مستعليا عليها ، كما كانت الكنيسة أيامها صارمة وحازمة في إدانة يعقوب وحرمانه .. أما اليوم فإن الكنيسة تؤيد ضمنا وتبارك بالصمت والمراوغة اليعاقبة الخونة المعاصرين ، وتمنحهم دعمها غير المحدود من خلال صبيانها الذين يدافعون عنهم في صحف السيراميك والتعري والباحثين عن مصالح خاصة ولو كانت تجديد الإقامة ! إن الكنيسة اليوم تتفاعل مع مفتريات اليعاقبة الجدد وادعاءاتهم ، وتستخدم سلاح الاعتكاف بكفاءة عالية وترفعه في وجه السلطة المتهالكة على إرضائها واستعطافها من أجل عيون الكونجرس والإدارة الأميركية. لقد تحولت الكنيسة إلى " جيتو" يلجأ إليه عوام الطائفة مثل خواصها وهو ما ترك آثاره الواضحة في علاقات النصارى بأبناء الوطن !
يعقوب نموذج للخيانة الذي يجب تعريف الأجيال الجديدة من الأغلبية والأقلية بسيرته وتاريخه ؛ حتى يستوضحوا الفارق بين الولاء للوطن الحنون ، والعمالة للعدو الصليبي الذي لا تعنيه غير مصالحه وتنفيذ مخططاته الإجرامية .