الصالحون والثقافة

رضوان سلمان حمدان

[email protected]

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

فليس الالتزام بأوامر الله والاجتناب عن نواهيه : حاجباً من الولوج في ساحات المعارف ، ولا مانعاً من الدخول في ميادين الثقافة ، بل لا بد لأهل الخير والصلاح أن يكونوا في ذلك على درجة من الوعي ، وعلى اهتمام ورعاية للثقافة .

[ مقدمة ]

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً بالثقافة ، وكذلك كان نساؤه رضي الله عنهن ، ومن ذلك معرفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالطب والنسب وأشياء أخرى .

والثقافات كثيرة ، والتي ننوه إليها هي الثقافة النافعة المفيدة .

وخلاصة تعريف الثقافة : أنها العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحَذْق فيها .

[أهمية الثقافة]

تتبين أهمية الثقافة للصالحين من خلال أمرين :

أولهما : أنها تشارك في تنمية الفرد والمجتمع ، ولا تولد الثقافة مع الشخص عند ولادته ، بل لابد من طَرْق أبوابها ، ولابد من معرفة الضروري منها ومن ثم السعي إليه ، والابتعاد عن الثانوي والتحسيني ، حتى ينفع المرء نفسه .

ولن يصل الأفراد إلى التمام في بناء شخصياتهم إلا إذا جمعوا أشياء منها : الثقافة النافعة في تنمية الأنفس والذوات .

والثاني : أن الاكتساب للثقافة عليه تبنى الحضارات بعد أسِّها وهو : الديانة الصحيحة.

والحضارات لا تقوم إلا بأسباب شرعية وأخرى قدرية ، ومن ذلك الثقافة بأنواعها : إسعافات أولية ، مهارات الحوار الناجح ، ثقافة حربية ، ثقافة زراعية ، ثقافة صناعية ... الخ.

[حال الأمة اليوم ]

حال أمتنا اليوم - مع أسف - في تقهقر من حيث الحضارة الدنيوية ، وأمتنا الآن في ذيل تلك القافلة .

ونجد الصالحين - مع أسف - أقل الناس سعياً في ميادين الثقافة وتحصيلها .

[أسباب ابتعاد الصالحين عن الثقافة ]

لابتعاد الصالحين عن الثقافة أسباب متعددة ، جماعها ثلاثة :

أولها : أن جذوة الإرادة في اكتساب الثقافة : خامدة ، ولا توجد الهمة لقراءة كتاب يتعلق بالصحة ( مثلاً ) ، أو الأحياء ، أو المهارات البشرية ، أو نحو ذلك من الثقافات.

وللأسف أن أكثر الأمم أميّة في الكتابة والقراءة هي : العالم الإسلامي ! وكثير ممن يقرأ إنما يقرأ فيما لا يبني عنده ثقافة نافعة ، فهو يقرأ في صحيفة، أو كتاب جنسي ، أو مجلة ماجنة ونحوها .

بينما نجد أن إحصائية إحدى الدول الإفرنجية كانت بأن 25% يقرؤون كتاباً كل شهر، و 50 % كل عام ، و 65% يقرؤون مجلة أسبوعية بانتظام ، و 80% يقرؤون صحيفة يومية بانتظام .

وثانيها : تتعلق بالمجتمع والبيئة التي تحيط بالإنسان ، فهو لا يعلم كيف ينال الثقافة ؟ ولا دُورها ، ولا مجلاتها ولا مؤسساتها .

وكذلك ما يقوم به أفراد كثيرون من تعظيم وإجلال لصاحب الجاه أو الأُبَّهة والبزَّة الحسنة ، واحتقار وازدراء أرباب الثقافة والمعرفة . فكيف يرتقي هذا المجتمع بهذا الفكر ؟! .

وثالثها : نظرة كثيرين من الصالحين إلى الثقافات باشمئزاز وكراهية ، ويقولون : أكثرها أتى من الكفار ! وهي قاعدة تحتاج إلى تصحيح ، بل ينبغي أن نأخذ منهم كل نافع لا محظور فيه شرعاً ، وقرر شيخ الإسلام ابن تيميّة في " مجموع الفتاوي " ( 4/114 ) جواز الانتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا .

[مرجع الثقافة]

ترجع الثقافة في أصلها إلى شيئين :

أولهما : التجربة الصحيحة .

والثاني : إنتاج القرائح الصحيحة والعقول السليمة .

وهذان المصدران لم يأت في الكتاب والسنة ما ينهى عنهما .

[خصائص الثقافة النافعة المنشودة ]

وللثقافة التي ندعو إليها خصائص جماعها ثلاث :

أولها : أن تكون نافعة ، وأما الضارة أو غير النافعة فإنها تُجْتَنب ، كثقافة السحر والألعاب البهلوانية مثلاً .

والثقافة النافعة تكتسب من خلال أشياء :

1-     أن يأتي بها النقل . وهو إما أن يكون عن شرعنا الحنيف ، أو عن أهل الكتاب ما لم يُعْلم خطَؤه أو كذبه في شرعنا أو صدقه ، فيُؤخذ به للاستشهاد به لا للاعتماد كما قرّره ابن تيميّة - رحمه الله - .

2-             العقل الصحيح .

3-             التجربة الصحيحة السليمة .

وليس معنى هذا أن يأخذ المرء بثقافة ما حتى يعلم بأنها ناتجة عن شيء مما سبق ، وإنما يكفي أن يأخذها عمن يثق به ، وإلا لما تعلم الناس من ذلك شيئاً .

ثانيها : أن تكون متجددة . فقد تأتي حقائق جديدة في ثقافة ما تنفي نظريات سابقة ولذلك لابد من المتابعة .

فمثلاً : الحدود الجغرافية للبلدان العالمية تتغير ما بين فترة وأخرى ، وربما تقوم دول جديدة ، وقس على ذلك أمثلة .

ثالثها : أن تكون شاملة . فالثقافة النافعة ينبغي أن تكون شاملة لما وضعت له من مفردات ، فليست في مفردة دون أخرى .

وكذلك شمولية الثقافة ، فلا تكون قاصرة على ثقافة مهنية أو اقتصادية فقط ، بل تكون في جميع مناحي الحياة .

[ضوابط شرعية للتعامل مع الثقافات ]

للتعامل مع الثقافات أصول وضوابط شرعية ، وجماع ذلك ثلاثة ضوابط :

أولها : اعتبار المعيار الشرعي مع الثقافات أنّى كانت . يقول الله تعالى : {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}النساء .

ولمعرفة الميزان الشرعي في ذلك طريقان :

1-             سؤال أهل العلم . {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}النحل.

2-             البحث من ذي أهلية ، كالعلماء ومن إليهم .

ثانيها : الحذر عند التعامل مع الثقافات العامة الواردة من الكفار ؛ لأنه ربما وضع الخطر حيث المأمن .

والناس مع أخذ الحذر على صنفين :

1- من يتثاقل عن الأخذ بالحيطة والحذر .

2- من عنده حذر شديد حتى ضيّق واسعاً ، وأصبح ذا وسوسة في كل شيء .

والوسط هو الذي ينبغي أن يسار عليه .

ثالثها : الاعتزاز بالإسلام ورفع الرأس به عند تلقي المرء لثقافات واردة من دول الإفرنج {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}المنافقون .

[تنبيهان مهمان]

وينبه إلى أمرين يتعلقان بالثقافة :

أولهما : العناية ينبغي أن تتأكد في الثقافة المستقبلية لا الماضية ، فينظر الإنسان إلى الأمام ، لا إلى الوراء .

ولذا فقد اهتم الإفرنج بذلك ، ففي أمريكا ستمائة مؤسسة مختصة بالدراسات المستقبلية لأمتها !! وأمتنا بحاجة إلى مثل ذلك .

وينبغي للصالحين أن يُعنوا بالتخطيط للمستقبل ، والارتقاء الثقافي في شتى المجالات .

والثاني : أن الثقافة تراكمية ، ولا تأتي دفعة واحدة ، ولكن مع الأيام ، ومع القراءة ، والمطالعة لقنوات الثقافة المختلفة ، فلا بد حينئذ من الصبر ؛ حتى ينال المرء ما يريد ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}آل عمران .

[قواعد في كسب الثقافة]

لكسب الثقافة قواعد على رأسها ثلاث قواعد :

أولها : مراعاة الأولويات . ونضرب عليها بصورتين :

1- من الثقافة ما هو ضروري ، كما أن من الدين ما هو ضروري ، فليبدأ المرء بالضروري ، ولا ينشغل بأمر تحسيني أو جزئي على حساب الضروري .

2- أن من يأخذ بمجلة طبية ( مثلاً ) بشكل دوري ربما قلَّبها ولم يفهم منها شيئاً فلا بد من أن يأخذ كتاباً تأسيساً في الصحة العامة ( مثلاً ) ، وثانٍ عن الجسم ووظائفه ، وهكذا فإنه حينئذ سيفهم الكلام ، ويعي ما يقال .

ثانيها : التدرج في اكتساب الثقافات ؛ إذ الثقافات كثيرة ، ولا يمكن أخذها جميعها جملة .

ثالثها : العناية بالثقافات التي تتناسب مع المرء : مهمٌ ؛ إذ الناس أجناس ، فإكمال نقص في ثقافة ما عند المرء أولى من غيرها ، وما كان راغباً فيه أولى من غيره ، وهكذا .

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .