في مواجهة رائدِ التنوير الدّيني

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

من عامين قرأت إعلانا في الصحف المصرية عن كتاب وصف مؤلفه بأنه " رائد التنوير الديني " ، واعتقدت أنني سأجد تحت هذا الوصف اسم جمال الدين الأفغاني ، أو محمد عبده ، أو محمد بن عبد الوهاب ، أو حسن البنا ، او ابن باديس ، أو عبد الله دراز ، ولكني فوجئت بأنه المستشار سعيد العشماوي .

 وقرأت كتب الرجل كلها ، وحاولت أن أعثر على بصيص من نور في كل ما كتب في مجال الفكر ، والفقه ، والسياسة ، والمجتع ، والتاريخ ... فعجزت ، ولم أجد من الرجل إلا محاولات مرعوشة على درب الستشرقين لتجريد الإسلام من طوابعه السياسية ، وعزله عن كل ما يمت للحكم والقيادة بصلة . ويصف أصحاب دعوة " الإسلام دين ودولة " بأنهم فجَّار ... أشرار ... جُهال !!! .

 أما نظام الخلافة الإسلامية فهو في نظره :

 " لا يختلف عن أي نظام متخلف ... في السطو ، والسيطرة ، والغشومة ، والظلم ، والاستبداد ، والتنكر لحقوق الإنسان ، وتنكب حدود الله . وهو نظام جاهلي غشوم ، مناف لروح الدين ، مناف لمعنى الشريعة .

 والخلافة لم تخدم الإسلام حقيقة ، بل إنها أضرت به حين ربطت العقيدة بالسياسة ، ومزجت الشريعة بنظام الحكم " . ( العشماوي : الخلافة الإسلامية : 13 و 25 )

***********

 والتزوير عند السيد العشماوي وارد لا غضاضة فيه ، ولا عيب عليه ، ولا مانع عنده من التصدي لتفسير القرآن بالهوى . فقوله تعالى " ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... " المائدة 3

يقول العشماوي :

 " الأية الكريمة نزلت بعد أداء النبي صلي الله عليه وسلم والصحابة فريضة الحج ... ومن ثم فإن المقصود بها أن الله سبحانه وتعالى أكرم المؤمنين بإكمال فرائض الدين وشعائره ... وليس المقصود بها أن الدين كان ناقصا وكمل " وأحال العشماوي على تفسير القرطبي طبعة دار الشعب ص 2059 وما بعدها . (العشماوي : جوهر الإسلام 93 ) .

 وبالرجوع إلى القرطبي نراه يقرر أن النقص وارد ... ولكن من النقص ما ليس بعيب ... كنقصان أيام الشهر ، ونقصان صلاة المسافر ، ونقصان أيام الحيض عن المعهود ، ونقصان أيام الحمل .. فنقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في عالم الله تعالى هذه ليست بشين ، ولا عيب . ولو قيل كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامّة إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا ... هذا في شرائع الإسلام ، وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده .

 وأتي القرطبي بوجه ثان ... وهو أن إكمال الدين يعني أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا . فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه ، وقياما بفرائضه .( القرطبي 2059 و 2060 ) .

 وهذا الوجه لا ينفي النقص بالمفهوم السابق ، وهو نقص لا يعيب التشريع ، بل يتفق نع ستة الإسلام في التدرج التشريعي . ( انظر جابر قميحة : المدخل إلى القيم الإسلامية : 42 56 ) . ووصف الأديان السابقة بهذا الوصف لا يعني الإزراء بها ... وإنما لأنها كانت أديانا مرحلية ... كل منها لمرحلة زمانية معينة من عمر البشرية ، ثم كان الإسلام الدين الخاتم الصالح لكل زمان ومكان ، والذي أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكماله كل عناصر البقاء والخلود في حجة الوداع بآية المائدة التي لم ينزل الله بعدها حلالا ولا حراما " ( تفسير الجلالين 93 ) .

 وفي هذا المعنى جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد رواه أبو هريرة رضي الله عنه " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ، ويعجبون له ، وبقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ . قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين " . ( متفق عليه واللفظ للبخاري ) .

 ففي الحديث كما يقول ابن حجر ضرب الأمثال للتقريب للأفهام ، وفضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين ، وأن الله ختم به المرسلين ، وأكمل به شرائع الدين . ( فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6/646 ) .

 

 ***********

 ومن الآراء العشماوية المنحرفة ما قاله في أية الحرابة " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ " ( المائدة 33) .

 يقول العشماوي : وواضح من الأية وسبب تنزيلها أنها تقضي بالجزاء على من يحارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ... أي يحارب دين الله ، وشخص رسوله ، فهي بذلك من الأيات المخصصة بشخص النبي صلى الله عليه وسلم . والنبي وحده هو الذي يوقع الجزاء على من يحاربه ، ويحارب الله في شخصه ، وهو الفيصل العدل في تحديد شخص من يحاربه ، وما يعتبر حربا عليه . أما بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعد خلفائه الراشدين فمن ذا يكون كذلك ؟ الخلفاء ومنهم الفاسقون ، أم الفقهاء وفيهم المغرضون ؟ ( العشماوي : أصول الشريعة 129) .

 ***********

 ولنسترح قليلا من العشماوي ( رائد التنوير الديني ) لنجد في الأسواق مجموعة كبيرة من الكتب مطبوعة طباعة فاخرة جدا لكاتب الأهالي اليساري " خليل عبد الكريم " . وكلها تسير على نهج موضوعي واحد يتمثل في الانتقاص الفاحش من ثوابت الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك من الصحابة الأبرار . واكتفي بنقل فقرة واحدة مما كتبه عن " مجتمع يثرب " في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:

"كانت نزعة معافسة لدى رجال المجتمع اليثربي من القوة بحيث دفعتهم إلى تحطيم الحواجز التى أقامتها النصوص المقدسة صراحة ، وبلا مواربة ... مثل:

 من يظاهر من امرأته لا يعتليها قبل التكفير ...

 وأخر يركب زوجته وهي حائض أو مستحاضة .

 وثالث يطؤها في نهار رمضان .

 ورابع ينكح امرأة أبيه ، أو يعاشرها دون عقدة نكاح .

 والمملوك يشرع في مفاخذة جارية سيده ... وقد يحدث العكس .

 والمرأة تسعى إلى أجير زوجها ليشبعها ، ويروي لها ظمأها لعجز

 زوجها عن ذلك ... الخ

كل هؤلاء : ذكورا وإناثا يعلمون علم اليقين أن الفعل الذي قارفوه حرمته عليهم الشريعة التى بلغها محمد ، ولكن نزعة التلاقي بالأخر تغلبهم وتقهرهم ، وتملك عليهم نفوسهم وعقولهم ووجدانهم ، وتعطل ملكة التفكير السديد عليهم ، فلا يرون في " النصوص المقدسة " إلا قيودا تحول دون انطلاقهم " . خليل عبد الكريم : ( كتاب مجتمع يثرب 43 ) .

 ومن حق القاريء أن يسأل الكاتب اليساري : إذا كان هذا المجتمع اليثربي في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم غاصا بالسقوط والمخازي ، ومنها الشيوعية الجنسية العاتية ، وكذلك الشذوذ الجنسي ... فكيف استطاع هذا المجتمع إذن أن ينتصر ويدك بعد ذلك حصون الفرس والروم ، وينشر في العالم القيم الإنسانية العليا من تعفف ، وعدل ، وعلم ونور ؟

***********

 ويلتقط الخيط شاعر بل متشاعر تنويري جدا ، فيصور الفتح الإسلامي لمصر بأنه " غزو همجي " ، ويشبه الفاتحين المسلمين بالهمج والجراد والغربان . ويقول من غثاء طويل :

 همج ...

 رمت بهم الصحارى جنةَ المأوى ...

 تهر كلابهم فيها ...

 وتجأر في المدى قطعانهم ...

 يمشون في سحب الجراد ...

 كأن وجوههم لغربان ِ ...

 وأعينهم لذًؤبان ...

 وأرجلهم لثيران ...

 يدوسون البلاد ...

 ويزرعون خرابهم في كل واد ...

 أبناء أوزريس صاروا لليباب ...

 يا أيها الرمل ارتحلْ ...

 يا أيها الرمل ارتحلْ ...

 واذهب لشأنك يا جراد ...

 ***********

 إنها عينات قليلة من غثاء أدعياء التنوير ومن ساروا على درب أعداء الإسلام من المستشرقين والملاحدة ، وهؤلاء الأدعياء إنما يفرزون هذه النظرات وهذه الاستهانات منطلقين من عقدة أصبحت في أعماقهم متجذرة أصيلة ، وهي عقدة النقص ، ومحاولة التعملق ، حرصا على الظهور والشهرة ، تماما كالذي يعتقد أنه عملاق كبير لأنه يبصق إلى أعلى ، وهو في ميزان الحق والعقل ضئيل قمي ء .