من أيَّدَنا سَيَّدناه ومن عارَضَنا حيَّدناه

أبو محمد المقدسي : نقطة نظام

محمود ناجي زيد الكيلاني

كاتب وباحث في شؤون حركات الإسلام السياسي

[email protected]

كثير هم أولئك الذين لا يقرؤون ولا يسمعون،وأقل منهم الذين يفهمون ويستوعبون ما يقرؤون ويسمعون، وأقل من هؤلاء وهؤلاء من ينقل ويبلّغ ما يقرأه ويسمعه ويفهمه كما هو.

بهذه الكلمات الحادة افتتح المقدسي آخر رسائله على موقعه منبر التوحيد والجهاد تحت عنوان رئيس ( اللغو في الدين ) وفرعي (من أساليب الكفار في الكيد للدعوة والدعاة يشاركهم فيه كثير من الحمقى والمغفلين) وقد أخذ منه التفنيد لحماقات يرتكبها بعض المنتسبين لتيار السلفية الجهادية الذي يعد أهم منظريه الحيز الأكبر من الإشارات والتلميحات في هذه الرسالة التي سبقها مجموعة من الرسائل الإرشادية جمعت مؤخرا في كتاب سمي (وقفات مع ثمرات الجهاد .. بين الجهل بالشرع والجهل بالواقع) أدخلته رؤاه وطروحاته التي تضمنها في معارك كتابية مع أبناء التيار المناهضين لرؤيته وتصوره ، كان مسرحها الشبكة العنكبوتية ، وصلت إلى التشكيك بوزنه،وسعت بعضها جاهدة لاسقاطه مشيخته للتيار،وبلغت ذروتها حين نشرت رسالته الشهيرة (الزرقاوي،مناصرة ومناصحة) والتي رد الزرقاوي بدوره عليها،ما أدى إلى شق صف التيار في حينها شقا غير معلن إلى زرقاويين يتبنون كل ما تقوم به جماعة التوحيد والجهاد- الاسم القديم لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين- بدعوى أن أهل مكة أدرى بشعابها ولا يحق لمن يسمع من بعيد أو يُنقل له أن يُنظِّر على من يعاين ويعايش الأحداث،ومقدسيين يتبنون رؤية المقدسي في أولوياته ومرحليته ونظرته لشكل الصراع وأدواته ،ومحايدين آثروا الصمت على الكلام لتوحيد الصف الجهادي وخوفا من تأويل ما يرون،وكان الدور الأكبر في إشعال هذه الفتنة التي هدأ أوارها،ولكنه لم ينتهي على بعض المنتديات ويصحو مع كل هبة ريح،إلى من يصفهم المقدسي بالحمقى والمغفلين الذين اخرجوا المسألة من دائرة الاختلاف المباح في وجهات النظر التطبيقية إلى إعلان الفراق والمفاصلة المنهجية المشوبة بالتشويه الشخصي،ممن يقتاتون على مثل هذه الرسائل الجادة المغايرة لخط سيرهم ، ومن يعملون وفق آلية أرى نظمها بهذا الشكل .. من أيَّدَنا سيّدناه ومن عارضنا حيّدناه وقيّدناه وأسقطنا مشيخته واعتباره ، ولو كان بن لادن العلم الأشهر لهذا التيار العالمي.

ويبدو أن ما اخرج المقدسي عن صمته وبهذه الوتيرة من الحدة مع أبناء التيار واستخدامه لألفاظ وعبارات من مثل " حمقى و مغفلين "و" أصحاب الخلطة العجيبة والقلوب المريضة " و" أشباه المتعلمين هم أخوف ما أخافهم على الدعوة " بالدرجة الأولى خروج ما بنى وزال يتبنى من نطاق الفكرة في حدود جدران سجون مغلقة مع بضعة أفراد إلى سياق الممارسة القتالية المفتوحة،بأعداد لا حصر لها،ونسبة كل ما يحصل وما يترتب من تداعيات لمدرسته بالدرجة الأولى ، في ظل وجود إعلام يراقب الأحداث ويسارع إلى ربط النتائج به تحديدا بصفته الشيخ المؤسس ، وفي إشارة واضحة سمى برسالته موضع التحليل برنامج صناعة الموت الذي تبثه قناة العربية ، والذي يولي المقدسي وكتاباته اهتماما كبيرا ويعلق ما يجري على شماعته في غالب حلقاته.

وقد ساعدته فترة خروجه الأخيرة بمدتها البسيطة إلى استقراء المشهد بنفسه دون الحاجة إلى وسطاء تحكمهم الخلفيات المؤيدة أو المناهضة لفكرته أو يحكمها التوجس بالتصديق إن كانت من طرف الدولة.

ومن منطلق تحسين الصورة العامة وإسقاط مصطلح الإرهاب الأعمى المرتبط غالبا بهذا التيار ، يسعى المقدسي إلى ترتيب بيت الجهاديين الداخلي ، بوضع النقاط على الحروف مع ضبط التشكيل لتوحيد القراءات وعدم تباينها تباينا يفضي إلى نزاع وتشتيت جهود مبعثرة أصلا في أقطار العالم،مع معرفته المسبقة انه سيتحمل تبعات ذلك من تهجم واستخفاف واتهام ونكران جميل من طويلبي العلم كما يصفهم!

ولربما سبقه إلى استخدام توصيفاته الحادة رفيقه في أفغانستان والأقل مقروئية لدى أبناء التيار - صاحب التجربة الجهادية الطويلة والمعتقل في احدى السجون السرية الامريكية - أبو مصعب السوري أو عمر عبد الحكيم بسنوات حين قال في مقدمة كتابه دعوة المقاومة الإسلامية العالمية : " لا يمكن أن يقود الجهلة هذا الصراع مهما كان من إخلاصهم المفترض!" كما كتب أبو بصير الطرطوسي أو عبد المنعم مصطفى حليمة- المقيم حاليا في لندن- بعدهما عن الغلاة وأثرهم الخطير في هدم ( الدعوة الجهادية ).

وفي حقيقة الأمر يجد المراقب للتيار الجهادي اختلافا بيِّنا بين أعلامه ومريديه،فأعلامه يمتلكون فنا في زيادة رصيدهم وحاضنتهم الشعبية – ضمن المتاح والمباح أصوليا – أكان من خلال الخطابات أو البيانات أو الأعمال ذات الصدى والتي يتم ربطها أوتوماتيكيا بقضية فلسطين ضمن ما يسمى بالقتال النكائي وتفتيت الأفعى بدءا من رأسها (أمريكا) قياسا بفن طلابهم المضاد في تضييع هذا الرصيد بجلافتهم واسقاطاتهم وحذافيريتهم المفرطة وتفسير الأمور وفق ما تختزله أفهماهم،وقد بات المقدسي ومن شاركه في بناء هذه الفكرية يرون أن هؤلاء العاقين لأبوتهم العلمية والعملية يشكلون حجر عثرة في وجه مشروعهم ، وإن لم يتوقفوا عند حدهم سيجرون عليهم ما هم بغنى عنه ، ليصلوا بالنهاية إلى إستراتيجية جديدة في التوجيه مفادها : سنقول ونكتب وليغضب من يغضب ، فلم نوقع لكم شيكا على بياض بأن تنفذوا دون مشورتنا وتعودوا لنا عند اللزوم وأن نبرر لكم كلما اقتضت الحاجة والضرورة– بمعنى مشايخ تحت الطلب – فإما أن نكون في مقدمة المستشارين وإلا لا تعتبوا علينا إن نشرنا ما لا تحبون نشره،فنحن لا نقدم هذا الكلام لجيلكم فحسب،والمنهجية التي تقوم على إسقاط المخالف لرأي أو رؤية يتبناها منهجية محكوم عليها بالإعدام والفشل،والمشكلة فيكم أنكم تصحون متأخرين على الدوام !

 وبوجهة نظري أن ما قاله المقدسي – وبعبارة أدق ما نشره – جاء متأخرا وعلى سبيل التمثيل هذه الفقرة بالتحديد والتي وردت في الرسالة " ومشكلة هؤلاء أنهم لم يستوعبوا الفرق بين الجهاد والقتال،فالقتال جزء من الجهاد ومرحلة من مراحله يقرر أوانها أهل الخبرة والعلم،لا أهل الحماس والسطحية، كل بحسب ظروف المكان الذي هم فيه ، والمرحلة التي بلغوها ، ومن ثم فهم يقللون من شأن الجهاد الذي عده صلى الله عليه وسلم (أفضل الجهاد) بل يخرجونه من الجهاد ويلغونه ويعيّرون أهله " فلو عممت هذه العبارة ، والفكرة الجهادية في طور التشكل،من شخصية بثقل المقدسي لدى أبناء التيار لما اصطدم واصطدمنا بثلة ذات أثر وصدى ترى شكلا واحدا للمقاومة والجهاد وتنتقص من دور الآخرين وتسعى إلى إحداث معارك جانبية لا تسمن ولا تغني .

في ختام الرسالة ألمح المقدسي وصرح ببعض الأمور التي تمنى أن يستنتجها أبناء التيار لوحدهم وان لا يضطر إلى ذكرها وان تكون على ألسنتهم وليست على لسانه – والتي يعتبرها شهادة من عدو على ثباته وصلابة موقفه – والتي جاءت من مؤسسة راند Rand Corporation الابن الشرعي للبنتاجون وأكاديمية وست بوينت العسكريةAcademy  West Point بأنه أكثر المفكرين الإسلاميين الأحياء خطرا، وأنه عدو عنيد يستحيل تراجعه عن أفكاره .

مشيرا إلى أن بعض الكتَّاب العلمانيين الحاقدين عليه وعلى ما يتبنى قد فهموا ما يرنو إليه بكل سهولة،بينما استعصى فهم المفهوم على منتسبين للتيار الجهادي، بدعوة صريحة إلى قراءة ما بين الكلمات والسطور وتوسيع أفق الفهم قليلا ، ومشكلة المقدسي بهؤلاء أنهم لم يقرؤوا كتاباته وهو شيخهم فكيف بهم أن يقرؤوا غيره؟ مقررا لمسألة بالغة الأهمية لدى أنصاره وهي أن دور العالم أو المنظر أساسي لا كمالي ومهمته ليس البصم والترقيع والبحث عن مبررات وأعذار وأدلة شرعية لتصويب أعمال طائشة غير محسوبة العواقب تجري هنا أو هناك ، بالإضافة إلى أنه ليس باستطاعة هؤلاء الحمقى الحجر على أرائه لا بمنتديات مداد السيوف ،التي أعلنت عليه حربا شعواء ، ولا بغيرها من منتديات وجبات التشويه السريعة تحت مسميات وهمية ، غير مكترث بتسمية ما يقدمه مراجعات،تراجعات،تناقضات – مع أنه يركز على عدم تراجعه – ومن يخطأ من هؤلاء فلا يلومن إلا نفسه ، فما لم تستطع أن تصنعه به - إلصاقه بي كما يقول - مؤسسات ودول معادية لفكرته استطاع ثلة من الحمقى المنتمين لمدرسته بنظرتهم الأحادية الإقصائية أن يصنعوه ، بمعنى أن المنهج الجهادي يختطف بأيدي أبنائه.

رسالة المقدسي بحاجة إلى قراءة متأنية بعيدا عن الشتم والتوصيفات التي لم تجد نفعا طوال سنوات مضت،ففكرته باتت أمرا واقعا،وفي حال غيابه ومن يتبنون طرحه ورؤاه عن المشهد ستصطدم الأمة بمجموعات مشوشة الأفكار لا تفرق كما كانت الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر بإمارة عنتر الزوابري في بداية التسعينيات،ولا بد أن تقرا المعادلة من جديد وبشكل آخر .. مفكرٌ واع ٍخطير .. خير من .. جاهل ٍ أحمق ٍبالغ ِالخطورة،فمن يستخف بمكانة من علمه الأبجديات ، لا يرى وزنا لمن لم يعلمه شيئا ويناهض حماقته.