ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم!!
خطاب مفتوح إلى الشيخ سلمان العودة
1-2
محمد الهادي بن مصطفى الزمزمي/ كاتب وباحث تونسي
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم!! : خطاب مفتوح إلى الشيخ سلمان العودة 1/2 ـ 2ـ2
محمد الهادي بن مصطفى الزمزمي/ كاتب وباحث تونسي
من: الهيئة العالمية لنصرة الإسلام في تونس إلى : فضيلة الشيخ الداعية: سلمان بن فهد العودة / حفظه الله
لجينيات / مجلة العصر .
فقد قرأنا مقالك: "الإسلام والحركات"، المنشور في موقعك الالكتروني "الإسلام اليوم"، بتاريخ 15 ربيع الثاني 1430 / 11 أبريل 2009م، ووقفنا منه على عدّة نقاط جانبها الصّواب، إضافة إلى ما تضمّنته من تجنّ منك على إخوانك وأبنائك في الحركة الإسلامية، باتّهامهم وتخطئتهم، مع مجاملتك لخصومهم من الحكّام، بتبرير مظالمهم وتبرئة ساحتهم! وهو موقف غير منصف، لم نكن قطّ نتوقعه منك، وهذا ما اقتضانا أن نكتب إليك بهذا الخطاب، قصد التّصحيح والتوضيح، آملين أن يتّسع صدرك لما في ردّنا هذا من طول، وما فيه كذلك من اعتراض مشوب بامتعاض من تلك الشّهادات التي أدليت بها والأحكام التي أصدرتها جزافا بلا هدى ولا كتاب منير؛ وكلّها أمور لا يسعنا السّكوت عنها، لما فيها من إغماض عن الباطل، واهتضام للحّق؛ وليس غرضنا من إرسال هذا الخطاب إليك، التشنيع عليك ولا التشهير بك، معاذ الله!
كما أنّا لا نريد به كذلك الانتصار لأنفسنا أو الإصرار على الخطإ؛ لو كان الخطأ منّا! ولكن غايتنا تبيين الحقّ من الباطل، عسى أن يكون في ذلك ما يدعوك لمراجعة موقفك وتصحيح حكمك والرجوع في شهادتك!
* استبشار..وخيبة!
يعلم الله ـ يا شيخ سلمان ـ كم استبشرنا بخبر زيارتك لتونس، ومدى الفرحة التي غمرتنا بتلك المناسبة، لِما رأينا فيها من رمز لعودة الإسلام إلى ربوع تونس بعد طول غربة، فقد ظلّت بلادنا طوال حقبة تزيد عن ثلاثة عقود مرتعا لرموز الفسق والدّعارة، ومسرحا لدعاة الانحراف والضّلالة، ممّن يسمونهم نجوم! الفنّ والرقص والغناء والمسرح والسينما، يؤتى بهم من مختلف الأقطار في القّارات الخمس! لإغواء شبابنا1 وإفساد أجيالنا وابتزاز أموالنا وتلويث سمعة بلادنا.
نزل خبر زيارتك على قلوبنا بردا وسلاما، إذ إنّه للمرة الأولى ـ حسب علمنا ـ يزور تونسَ عالم وداعية إسلامي مشهور 2، بصفة رسمية بدعوة من جهة حكومية! كما استبشرنا كذلك بزيارة الشيخ يوسف القرضاوي أخيرا .
أمّلنا يا شيخ سلمان! خيرا من زيارتك، وظللنا متلهّفين لاستطلاع أخبارك، ونحن نمنّي النّفس بسماع بشرى خير تزفّها إلى إخوانك في أعقاب هذه الزيارة، نتيجة جهود مخلصة بذلتها ووساطة إصلاح قدّمتها ونصائح لمضيفيك أسديتها، نصرة منك للحقّ وانتصافا للإسلام وأهله في الديار التونسية، بعد تلك السّنين العجاف التي مرّت على تونس! وفيما كنّا ننتظر منك بشرى، فاجأتنا بداهية!! رمانا بها مقالك، فكان طعنة نجلاء في صدورنا، لم يكن يدور بخلدنا أن نصاب بها من جانبك! حقّا لقد جاء مقالك مخيّبا للآمال! محيّرا للبال مثيرا للبلبال! حتى تمنّينا معه لو أنّك ما دُعيت ولا أجبت الدّعوة!!
*انخداع الشيخ بالمظاهر:
كم وددنا لو أنّ مقالك ـ يا فضيلة الشيخ ـ يصدّقه واقع الإسلام في الدّيار التونسية، أو يصدُق على الواقع؛ ولكنّ بواطن الأمور في حقيقتها هي في تونس على خلاف ما بدا لك من ظواهرها؛ ونحن نرتاب في أن تكون شهاداتك وأحكامك المدرَجة في مقالك هي من بنات أفكارك، ومن نتائج محض استقرائك، بل نرجّح أنّها جاءت متأثّرة بما صوّره لك مضيفوك على وجه من التّمويه والخداع ـ كما هو عهدنا بهم ـ ليوهموك أنّ رئيسهم هو من أعاد للدّين اعتباره!!
وعلى هذا، فإنّ الفضل يعود إليه في شيوع الحجاب وقيام مظاهر التديّن، وازدحام المساجد بالمصلّين،!! ولعلّ هذا ما حملك على تغيير انطباعك الأوّل! ودعاك إلى الثناء عليهم، وتبرئة ساحتهم من تَبِعة جنايتهم على الإسلام وأهله! واتّهامنا نحن في الحركة بتسييس الخلاف والسّعي في مغالبتهم ومزاحمتهم على السلطة!
إنّ الوضع ـ يا شيخ سلمان ـ على خلاف ما أظهروه لفضيلتك، أو زوّروه لك أثناء زيارتك؛ وهي زيارة، مع قصر مدّتها، وما قد يكون حفّ بها من الضّبط والتضييق في المناشط والتنقّلات، والتحكّم والتدقيق في الاتّصالات والمقابلات، والمشاهدات؛ كلّ ذلك من شأنه أن يجعل حتما أيّ حكم أو انطباع يصدر عن المرء في مثل هذه الحال غير مطابق للواقع ولا متوافق مع الحقيقة، وهو ما تأكّد فعلا بقولك في مقالك " اني وجدت أن مجريات الواقع الذي شاهدته مختلفاً شيئاً ما؛ فالحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها من أهل البرّ والإيمان..".
*المناشير الإدارية حرب على الحجاب :
إنّ شيوع الحجاب ـ يا فضيلة الشيخ ـ لا يُعزى البتّة إلى تشجيع الحكومة ولا إلى قبولها بوجوده، أو تسامحها أو تغاضيها عن ظهوره، بل على العكس من ذلك، فهي تقاومه بكلّ شراسة، وتحاربه بكلّ ضراوة لحدّ هذه اللحظة، وإن كنت أنت قد توّهمت، أو هُمْ قد أوهموك بأنّ ما جرى ويجري من اضطهاد المحجّبات "شيء حدث ذات حين؛ في مدرسة أو جامعة، أو بتصرّف شخصي، أو إيعاز أمني، أو ما شابه"، كما ذكرت في مقالك، فإنّ ما نسوقه إليك فيما يلي من الأدّلة القاطعة والبراهين السّاطعة على استمرار حربهم على الحجاب والمحجّبات حتى هذه اللحظة، يجعل أيّة حجّة يحتجّ بها أيّ أحد من الناس في تبرئة ساحة حكّام تونس من هذه الحرب، حجّة داحضة.
فالمنشور 108 القاضي بحظر اللباس الشرعي لم يقع نسخه ولا إلغاؤه، ولا حتى تجميده أو إهماله، بل هو ساري المفعول في كلّ المؤسّسات، والعمل به جار على قدم وساق، في جميع القطاعات والولايات والجهات، كما تشهد بذلك العشرات، بل المئات من البيانات 3 الصّادرة عن مختلف الهيئات والجمعيات الحقوقية المعنية بالحقوق والحرّيات الشخصية، وخصوصا منها "جمعية الدفاع عن المحجبات"، التي ترصد مختلف الانتهاكات والاعتداءات والحملات البوليسية المحمومة المتواصلة على المحجّبات التونسيات، فتصدرها في بيانات تكاد تكون يومية، ومنها ثلاثة بيانات صدرت خلال كتابتنا لهذا الخطاب، أحدها بتاريخ 18 . 04. 2009، والثاني بتاريخ 25. 04. 2009، والثالث صدر عن منظمة حرية وإنصاف بتاريخ 2009/04/30، وكلّ منها يسرد وقائع حيّة من اضطهاد البوليس للمحجّبات في كلّ من مدن نابل، ومنزل تميم، وصفاقس؛ إذ جاء في البيان الأول: "وقد شهد يوم الجمعة 17 أفريل 2009م، ومنذ الصّباح الباكر قيام مجموعة من أعوان البوليس بزي مدني..باعتراض النّساء والفتيات المحجّبات بالسّوق الأسبوعية للمدينة. وتشمل الحملة أيضا الرّجال والشباب الملتحين.
ويتمّ اقتياد الموقوفين من النّساء المحجّبات والرّجال الملتحين الى مركز الشرطة بالسّوق أين يُجبَرون على الإمضاء على التزام بنزع الحجاب بالنّسبة للنّساء، وبحلق اللحية بالنّسبة للرّجال. وقد سبق للّجنة أن أصدرت أكثر من بيان بخصوص الحملات الأسبوعية المسعورة التى تستهدف المحجّبات وكذا الملتحين بجهة نابل 4. وجاء البيان الثالث، بعنوان "مضايقة المحجّبات بالمعهد العالي للبيوتكنولوجيا بصفاقس"5، وكلّها ـ كما ترى ـ وقائع وأحداث جرت بعد نشرك المقال.
ـ إنّ المنشور 108 قد جرى تعزيزه بعدّة مناشير أخرى صادرة من عديد الوزارات والدوائر الحكومية، ونظرا لضيق المقام نقتصر على سرد بعضها فيما يلي:
ـ المنشور 102/86 المؤرخ في 29 أكتوبر 1986.
ـ المنشور عدد 35 / 1 المؤرخ في 20 جويلية (يوليو) 2001 المتعلّق بمظهر المدرّسين والأعوان الإداريين والتلاميذ.
ـ منشور وزارة الصّحّة العمومية عدد 98 بتاريخ 30 اكتوبر 1992م حول هندام أعوان الصحة العمومية. وهو يمنع الرّجال الملتحين والنّساء المحجّبات من دخول المؤسّسات الصحّية.
ـ المنشور رقم 70 بتاريخ 27 ديسمبر 2002م، صادر من وزير التعليم العالي والبحث العلمي الصادق شعبان إلى كلّ عمداء ومديري المؤسّسات التعليمية حول ما سماه "ارتداء الزي الطائفي".
ـ قرار عدد 752 بتاريخ 23 أفريل 2008 صادر عن مديرة إقليم الشمال الشرقي بنابل التابعة لوزارة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والمسنّين، يقضي بمنع ارتداء الحجاب وحتّى القبّعة.
ولا تحسبنّ ـ يا فضيلة الشيخ ـ هذه المناشير مجرّد حبر على ورق، أو هي حبيسة الأدراج، والمكاتب، بل إنها سارية المفعول على مدى الأيام والشهور والأعوام، كما أنّها قيد التطبيق الصّارم والإجراء الحازم على مدار الليل والنّهار في مختلف المؤسّسات والدّوائر والجهات، ورغم قرار المحكمة الإدارية ببطلان بعضها، فما كانت الحكومة لتذعن لقرار الإبطال 6، بل لجّت في الخصومة بالطّعن فيه، والإصرار على تطبيق كافة المناشير بكلّ تعسّف وتكلّف.
فوجود هذه المناشير وسريان مفعولها، وجريان العمل بها، كلها شواهد على أنّ الحرب على الحجاب واضطهاد المحجّبات، قرار حكومي بل منهج رسمي تنتهجه الحكومة التونسية بمختلف دوائرها ومؤسّساتها على الدّوام، وهو ما يجعل إدّعاءهم، بأنّ حالات اضطهاد المحجّبات "شيء حدث ذات حين أو هو تصرّف شخصي أو إيعاز أمني"، إدّعاء كاذبا يكذّبه تنفيذهم الصّارم والمستمرّ لهذه المناشير.
* اعترافات حكومية بمكافحة الحجاب!
فإن قال قائل إنّ تلك المناشير مجرّد تعميمات إدارية، غالبا ما تكون خاضعة في تطبيقها لأمزجة الموظّفين ومسئولي الدوائر الإدارية ونحوهم، ممّن لا تخلو تصرفات بعضهم من تجاوز في الصّلاحيات أو تعسّف في استعمال السّلطة والإجراءات، بما يجعلها تصرّفات فردية، كما ذكرت في مقالك!!
فماذا عن مواقف الرئيس "ابن علي" نفسه ووزراءه، ورجال حزبه وحكومته وبطانته، ووسائل إعلامه، وما أعلنوه جهارا نهارا في شهر رمضان 2005 من تصريحات جاءت أشبه ما تكون ببيانات حربية! فيها إشهار حرب على الحجاب والمحجّبات! وأنت يا فضيلة الشيخ على علم بكلّ ذلك؛ ونحن نسوق لك على سبيل التذكير تصريح "ابن علي" نفسه إذ يقول في خطاب عام له "تونس المتمسّكة على الدّوام بإسلامها الحنيف.. حريصة على تكريس قيمة الاحتشام وفضيلة الحياء وهي تعتبر تقاليدها في الملبس في المدن والأرياف كفيلة بتحقيق ذلك. وأضاف إنه "من الضروري ـ تفاديا لكل تذمّر ـ التفريق بين الزيّ الطائفي الدّخيل واللباس التونسي الأصيل، عنوان الهوية الوطنية" 7 .
وهذه صحيفة "الحدث" الموالية لبن علي وحكومته، تصف في مقال لها المرأة المسلمة المتعفّفة المتستّرة بلباسها الشرعي بأنّها "غُولَـَة "!! وتصف الحجاب بأنّه لباس المومسات!! والعاهرات!! إذ تقول الصّحيفة "أطلّت علينا هذه المرّة "الغولة" متحجبّة في جلباب أسود مقيت ليس من تقاليدنا ولا من عاداتنا وضاربا عرض الحائط بهويتنا التونسية المغاربية..ولم يذكر تاريخ تونس القديم والوسيط حادثة عن الحجاب ولا ذكر في ذلك إلا في ما يخص "المومسات" و"العاهرات" اللاتي وجب عليهن إن غادرن "الماخور" الذي يشتغلن فيه ان يلبسن الحجاب ويغطّين أجسامهن كليا حتى العينين لكي يظهرن بجلاء للعامة ويعرف القاصي والداني أنهن "بائعات هوى"...فتتجنبهن النساء الاخريات...وفي بعض المجتمعات المشرقية كان لزوما على العبيد من النساء لبس الحجاب وتغطية الرأس حتى تقع التفرقة بين المرأة الحرّة والمراة العبيد..أما بالنسبة للعصر الاسلامي المجيد، فيقول الأستاذ توفيق..إنه لا يوجد أثر دلالة للحجاب وارتدائه وفي كل ما أوتي في ماضينا..."، ولم نسمع ولم نقرأ منذ فجر الاسلام عن حادثة حول الحجاب وعن ذكر للحجاب...بل كان الحجاب في الجزيرة العربية عادة من عادات المجوس والوثنيين وعابدي الاصنام...".
وهذه منجية السّوايحي المدرسة بالجامعة الزيتونية، والمعيّنة بمجلس المستشارين، تقول إنّ "الحجاب من الموروثات الإغريقية والرومانية، وأنّه ليس أمرا إسلاميا أصيلا، معتبرة أن الإسلام يحثّ على السّتر والحشمة، وأنه لا ينصّ على الحجاب، الذي اعتبرته زيّا طائفيا مرفوضا في تونس، وأن التونسيين تخلّوا عنه باختيارهم، بعد أن ترسّخت الثقافة الحديثة بينهم ـ على حدّ قولها ـ نافية أن يكون الشرع قد حثّ على الحجاب، معتبرة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، أكبر عدوّ للمرأة في التاريخ"9.
وأمّا وزيره للشؤون الدينية بوبكر الخزوري ـ الذي ربما قابلته خلال زيارتك ـ فقد أجاب حين سُئل عن تنامي ظاهرة ارتداء الحجاب، قائلا: "بالعكس ظاهرة الحجاب تراجعت، وعندما نقول تراجعت، فإننا نعي ما نقول، ونستند الى معطيات موضوعية،" الحجاب دخيل، ونسميه بالزي الطائفي، باعتبار أنه يخرج من يرتديه عن الوتيرة، فهو نشاز وغير مألوف، ولا نرضى بالطائفية عندنا".
ونوّه بتراجع عدد النساء والفتيات المرتديات للحجاب في تونس، بسبب ما قال إنه انتشار لثقافة التنوير. وقال في هذا الصدد "إن تراجع هذه الظاهرة واضح لأن الفكر المستنير الذي نبث (في إشارة إلى أجهزة الدولة) كفيل باجتثاثه تدريجيا بحول الله". وفي خطاب غير معتاد من وزير للشؤون الدينية صنف الأخزوري القميص الأبيض الخليجي والحجاب باعتبارهما لباسا طائفيا، قائلا: "إننا نرفض الحجاب الطائفي ولباس (الهُرْكة البيضاء)10 واللحية غير العادية، التي تنبئ بانتماء معيّن، فنحن لدينا مقابل ذلك الجبّة "، في إشارة من الوزير إلى اللباس التقليدي التونسي. واعتبر الأخزوري أنّ الحكومة التونسية حكومة حداثية، وهي بالتالي ترفض مظاهر الحجاب. ويقول في هذا الصدد " إننا من الحداثيين، ونرفض كلّ انغلاق، ومع الرئيس ابن علي تمكّنا والحمد لله من إرساء المعادلة الصعبة بين الأصالة والحداثة، وبين الموروث ونتاج التفاعل مع الآخر"11.
هكذا أنكر هذا الوزير اللباس الشرعي مستبيحا ما حرّم الله سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله، عليه الصلاة والسلام، من التبرّج وكشف عورات النساء، منوّها بشيوع العري والتهّتك! وفي مضمون كلامه ـ كما ترى يا شيخ سلمان ـ لمز وغمز في أهل الخليج، وإزراء بهيئتهم ولباسهم!! ومن يدري لعلّه لو استطاع لأشترط عليك تغيير ملبسك وحلق لحيتك قبل مجيئك إلى تونس!!
فهل ترى تُبقي مثل تلك المناشير المعمَّمَة، وهذه المواقف المعلَنة على رؤوس الأشهاد، وتلك الحملات الضارية المتواصلة في كل نواحي البلاد، من شكّ في مدى معاداة القوم لشعيرة اللباس الشرعي، وسعيهم المنكور والمكرور في انتهاك حرمة العفائف من نساء تونس وكرائمها، في كلّ مكان، وكفى باعترافاتهم الصّريحة تلك ـ والاعتراف سيّد الحجج ـ دليلا قاطعا بثبوت إدانتهم بجحودهم لحكم شرعيّ من أحكام القرآن معلوم ضرورة من دين الإسلام.
* انقلاب في مواقف الشيخ!
ولقد سبق لك أنت نفسك ـ يا شيخ سلمان ـ أن استنكرتَ أقوال الخزوري تلك، ورددت عليه في مقال لك بعنوان: هل أصبح التعرّي أصيلا والعفاف دخيلا؟! "حملة الحكومة التونسية على الحجاب" قلت فيه: "إذا كان الحجاب دخيلاً على المجتمعات الإسلامية، فهل يعني هذا أن التعرّي في آخر الليل أصبح شيئاً أصيلاً .. لقد أصبح ذلك التعري أمراً مشاهداً يعرفه الكثير من السواح، فتيات في سنّ المراهقة يقدّمن البيرة والجعة وألوان المشروبات في عدد من هذه المواقع السياحية من أجل جذب السياح، وترويج ثقافة العري والتفسخ والانحلال.. كيف يمكن أن تتحوّل مجتمعاتنا إلى مجتمعات نامية ومجتمعات راقية ومجتمعات تعيش وحدة وانسجاما، وبعض البلاد يصل فيها التطرّف العلماني إلى حدّ ملاحقة المحجّبات، والحديث العلني عن رفض مثل هذا الأسلوب، في مقابل تشجيع السفور، وتشجيع العري، وتشجيع العلاقات المحرّمة..12".
لقد كان ذلك منك ـ يا شيخ سلمان ـ بالأمس موقفا مشرّفا، نصرت فيه الله ورسوله، ودافعت فيه عن حرائر تونس، واستنكرت الحرب على الحجاب والمحجّبات، وقد حمدنا موقفك ذاك، الذي ذكّرنا بالموقف العظيم للشيخ ابن باز، رحمه الله، حين أفتى صراحة بكفر بورقيبة13. وكنّا ننتظر منك مزيدا من النّصرة والمنافحة عن حرمات الله المنتهكة في الدّيار التونسية، في وقت عزّ فيه النّصير! فنزل علينا مقالك الجديد هذا نزول الصّاعقة! وهو ما يدعونا لأن نسألك عمّا حملك يا شيخ سلمان على تغيير موقفك اليوم – مع تواصل الحملة على الحجاب والمحجّبات – فهل وَرَدَكَ خبرٌ بأنّ حكّام تونس قد ثابوا إلى رشدهم، فتابوا إلى ربّهم، وأقلعوا عن حربهم للإسلام وأهله؟! أم هي المجاملة لقاء ما وجدت من القوم من حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، أم أنّ ما زوروّه لك من زخرف القول غرورا، غطّى على جريمتهم وأقنعك بثبوت براءتهم؟! أم قد استهوتك لغة الخطاب التي سمعتها، وإذاعة الزيتونة التي زرتها؟! أم طمعا في استمالة القوم بهذا المقال لعلّهم يستمعون إليك ويستجيبون لرأيك؟! أم هو انقلاب في منهجك الفكري والدّعوي وفي موقفك من الحكّام عامّة، جعلك تتغاضى عن جرائمهم وجرائرهم، وخصوصا منهم حكّام تونس، وعدوانهم على دين الله ومظالمهم المسلّطة على الأبرياء! ملتمسا لهم المعاذير والمبرّرات فيما قارفوا ـ وما يزالون ـ من جنايات!!
* تبرير الشيخ مظالم الحكام:
وليتك يا شيخ سلمان اقتصرت في موقفك هذا - الجديد والغريب - على مجرّد التغاضي عن مظالم الحكّام، وما ساموا به الدّعاةَ والعلماءَ ورجالَ الحركة الإسلامية ونساءها وشبابَها والأمّةَ كلّها من الظلم وسوء العذاب - مع أنّها أمور لا يجوز التّغاضي عنها أو السّكوت عليها - ولكنّك سعيت في التماس المعاذير لهم فيما ارتكبوه على مدى ستّين عاما - وما زالوا - من حرب إبادة للحركات الإسلامية، حيث قلت "قد يضيق نظام حكم ما بالحركات الإسلامية؛ بسبب الخوف وعدم الاطمئنان, أو المغالبة السياسية أو المزاحمة". فهل ترى يا شيخ سلمان ذلك الخوف عذرا يٌبيحُ لهم حقّ حبس النّاس وإزهاق الأنفس والأرواح، واستباحة الأعراض والأموال، فإن كنت تراه عذرا! فإنّه عذر أقبح من ذنب؟!
ولم تقف يا شيخ! عند حدّ التماس المعاذير لهؤلاء الحكّام الظلاّم فيما ارتكبوا من مظالم! تتفطّر من هولها الّسماوات وتنهدّ من وطأتها الجبال، مع أنه لا عذر لهم في أيّ مظلمة ارتكبوها مهما كانت صغيرة!! ولا عذر للعلماء في السّكوت على هذا المنكر؛ وأيّ منكر أعظم من الظلم، وقد لعن الله الظالمين مرّات في كتابه العزيز. وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بنُصرة المظلوم حيث قال عليه الصلاة والسلام " من حمى مؤمنا من منافق يعيبه، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنّم.."14.
ولم تقف يا شيخ عند حدّ السّكوت على المظالم، بل زدت على ذلك، فبرّأت هؤلاء الحكّامَ الجناةَ من جنايتهم واتّهمت الحركات الإسلامية بأنّ ما جرى عليها من ظلم واضطهاد، إنّما جلبتْه هي على نفسها بتوخّيها ما أسميته "أسلوب المغالبة السياسية (الذي) ضَيّقَ على كثير من المناشط, وحرمها من حقّها المشروع في الحياة والمشاركة". وكأنّ لسان حالك يا شيخ سلمان ينحو باللائمة على هذه الحركات قائلا لها "على نفسها جنت براقش"!! فهل هذا هو الموقف المنتظر صدوره من العلماء والدعاة أمثالك؟! فأين أنت يا شيخ سلمان من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: " ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تُنتهك فيه حُرمته ويُنتقص فيه من عِرضه، إلا خذله الله في مواطن يحبّ فيها نصرته. وما من امرئ ينصر امرءا مسلما في موضع يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في مواطن يحبّ فيها نصرته "15.
وإذا كان ذنب الحركات الإسلامية أنّها دخلت في المعترك السّياسي كما قلت، فنالها ما نالها من الاضطهاد! فما ذنب عامّة الناس الذين لا صلة لهم بالسّياسة من قريب ولا من بعيد، حيث يسامون هم أيضا الضيم والظلم والقهر والاضطهاد، كما هو حال النّساء المحجبات والشباب المتدينين وغيرهم في الديار التونسية؟!
إنّ مضمون كلامك يا شيخ سلمان! يوحي بأنّ من حقّ الحاكم الظّالم الذي يستولي على مقاليد حُكم أيّ بلد على حين غفلة من أهله، من دون استشارة ولا اختيار منهم - وذاك واقع معظم البلاد العربية، ومنها تونس - إذا ساوره خوفٌ أو عدمُ اطمئنان على استقرار عرشه واستمرار ملكه! أن يفعل ما يريد بخصومه! ما دام ذلك في سبيل الحفاظ على عرشه!! وكأنك يا شيخ سلمان تدعونا إلى أن نحني - لهذا الحاكم الظالم أو ذاك المختلس للحكم – الظهور، ونطأطئ له الرؤوس إجلالا وتعظيما، وندير له الخدّ الأيسر بعد أن يلطمنا على الخدّ الأيمن، لنسلم بجلودنا من بطشه وظلمه!!
فماذا تقول يا شيخ سلمان في حديث النبي صلى الله عليه وسلم "إن النّاس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه "16. وقوله عليه السلام " إذا رأيت أمتي تهاب17 الظالمَ أن تقول له أنت ظالم فقد تُودّع18 منهم"19، وقوله عليه الصلاة والسلام "سيكون بعدى خلفاء يعملون بما يعملون ويفعلون ما يؤمرون، وسيكون بعدى خلفاء يعملون بما لا يعلمون ويفعلون مالا يؤمرون فمن أنكر عليهم برئ ومن أمسك يده سلم ولكن من رضى وتابع "20.
وإذا كنتَ يا شيخ تخطّئ الحركات الإسلامية فيما جرى عليها من البلاء والمحنة بسبب اشتغالها بالسياسة! فهل نفهم من كلامك هذا أنّك أصبحت من دعاة الفصل بين الدّين والدّولة، والتّفريق بين الشريعة والسّياسة!!؟ كأنّك تقول أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله!! وإذا كان قيصر الأمس ربما يقف في حدود ما له من الحقّ، فهل ترى قياصرة العرب اليوم، وخصوصا قيصر تونس، وقد تركنا لهم السّياسة، تركونا وشأننا، كيف وهم قد حشروا أنوفهم في أخصّ خصوصياتنا بالتحكّم فينا حتى في الملبس والهيئة والمظهر، وأحصوا علينا الأنفاس! وضيقوا علينا سبل المعاش، فما تركوا لنا من مجال حتى لأداء الفرائض الدّينية والقيام بالشعائر التعبدية، ناهيك بالأمور السياسية!؟
* التهوين من المظالم:
غريب يا شيخ سلمان أن تسمّي حرب الإبادة التي يشنّها هؤلاء الحكّام على الحركات الإسلامية ومنتسبيها، بأنّها نوع من (الضّيق)، بقولك "قد يضيق نظام حكم ما بالحركات الإسلامية"!! "قد.."، هكذا بصيغة التقليل!! ثمّ هو مجرّد ضِيق! فهل موقف الحكّام من الحركات هو حقّا مجرّد ضيق! كمن يضيق صدره أو نفسه بشيء ما فيعكّر عليه راحته أو يكدر صفوه!! أم هي حرب إبادة وقتل وتصفية وإعدام بالجملة وتعذيب وتنكيل ومصادرة أموال وممتلكات، وانتهاك أعراض وحرمات، ومحاكمات وسجون ومعتقلات، وتشريد ونفي وتهجير؟!
فهل تدمير حاكم سوريا السّابق سنة 1982 لمدينة حماة السّورية على رؤوس ساكنيها، وتسبّبه في قتل ما يقارب الثلاثين ألفا من أهلها، وهل مجازر الإخوان المسلمين في السّجن الحربي ولمن طره في مصر، ومجازر الإخوان في العراق زمن حكم البعث، ومذبحة سجن بوسليم في ليبيا، والمذابح التي جرت في الجزائر وتونس والمغرب؛ فكلّ هذه الفواجع والنّكبات والكوارث الواقعة - وما تزال - على الحركات الإسلامية في معظم الأقطار العربية، وكلها قد أودت بأرواح الآلاف من الأبرياء، هي في نظرك يا شيخ سلمان، مجرد "ضِيق" أو تبرّم من الحكّام بالحركات الإسلامية!!
ثمّ هم في نظرك معذورون على أية حال! في كلّ ما اقترفوا ويقترفون من المظالم والمذابح والمجازر، ما داموا يخافون على مناصبهم أن يُغلبوا عليها، وعلى عروشهم أن يُزاحوا عنها!! فهل تجد يا شيخ لموقفك هذا مستندا في كتاب الله أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! يشرّع لأيّ حاكم ظالم أن يستبيح الأنفس والأرواح والأعراض والأموال لاستدامة ملكه أو استمرار حكمه؟! وما على الأمّة إلاّ الطاعة والامتثال والتسليم والقبول والإذعان!!
ومن هذا الذي يقول: "أنا أو الدّمار" ـ يا شيخ سلمان ـ غير هؤلاء الحكّام؟! ومنهم حاكم تونس، هذا الذي أعجبك قوله، أما علمت أنه قد استولى على حكم البلاد بواسطة انقلاب يوم 7 . 11. 1987م، وقد مضى عليه حتى اليوم اثنان وعشرون عاما وهو جاثم على صدورنا، وهو يُعِدّ نفسه لخمسة أعوام أخرى، وأخرى وأخرى مثلها، لو استطاع أن يغالب ملَك الموت!! ألا ترى مدى استبدادهم بالحُكم على وجه التأبيد، حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ سلّم المقاليد إلى أحد أولاده وورّثه ملك البلاد والعباد؟! وهم الذين جعلوا الأمّة أضحوكة العالم بما استنبطوا من نظام "الحكم الجُمْلُكِي!!"21، وهو نظام لا عهد لخبراء القانون الدّستوري به من قبل...(يتبع).
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم!! خطاب مفتوح إلى الشيخ سلمان العودة 2/2
محمد الهادي بن مصطفى الزمزمي/ كاتب وباحث تونسي
* شهادة الشيخ مجروحة!
قلت يا شيخ سلمان: "فالحجاب شائع جداً"، وذاك منك شهادة حقّ نقرّك عليها ونوافقك فيها، وهو أمر ظاهر للعيان، لا ينكره إلا مكابر قد أعمى الله بصيرته مثل الخزوري! والفضل في شيوع الحجاب لله وحده، فهو سبحانه الذي حبّب إلى عفيفات تونس الإيمان وزيّنه في قلوبهنّ، وكرّه إليهنّ الكفر والفسوق والعصيان، وهو سبحانه الذي سخّر تلك القنوات الفضائية الدينية، وقدّر بحكمته البالغة ظهور هذه الصّحوة الإسلامية على الرغم من حكّام تونس وأذنابهم وحلفائهم، وعلى كُرهٍ منهم، وهم الذين ظنوا أنّهم قد استأصلوا الإسلام من أرض تونس واستراحوا منه إلى الأبد! فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا؛ فليس لحكّام تونس إذن أيّ فضل في بروز هذه الظّاهرة الإسلامية ولا في تناميها وتعاظمها.
وأمّا قولك "دون اعتراض"؛ فهذه شهادة لا نقرّك عليه، لأنّها غير مطابقة لواقع الحال! ولعلّك بحكم زيارتك الخاطفة والمقنّنة والمدروسة والمُحاطة والمحروسة! لم يكن بوسعك الإطلاع على خفايا الأمور، أو مخالطة الأهالي أو معايشتهم من قرب لمشاهدة ما جرى ويجري على العفيفات من محنة وفتنة، بما يضمن صحّة شهادتك ومطابقتها للواقع. وحيث جاءت شهادتك للحكومة بعدم تعرّضها للحجاب والمحجّبات، مخالفة للواقع من جهة، ومتعارضة أصلا مع اعترافات الحكومة نفسها بمقاومتها للحجاب والمحجّبات من جهة أخرى، فكلّ هذا يقضي بالتّجريح في شهادتك هذه، وردّها وعدم اعتبارها أو الأخذ بها، لكونها لا تعدو أن تكون شهادة محاباة أو مجاملة منك لمضيفيك على حساب بناتك وأخواتك المضطََهَدات حتى هذه الساعة في تونس.
ونحن نقول لك ـ يا شيخ سلمان ـ لو أنّك نزلت للحظاتٍ قليلة ـ من البرج العاجي أو الزّجاجي في الفندق الذي وضعوك فيه إبّان زيارتك ـ وتسلّلت داخل المجتمع التونسي، لشاهدتَ عن كثب بأمّ عينك ما يجري فيه من مظاهر تلك الحرب المسعورة على الإسلام وأهله وشرعه وشعائره، ولأدركت مرّة أخرى مدى التناقض ـ لا مجرّد التفاوت ـ بين ما قلت إنك شاهدته خلال زيارتك، وما تقف عليه أنت بمحض معاينتك ـ بعيدا عن عيون الرقباء ـ من ظلم واضطهاد للحرائر.
ولو قُدّر لك ـ يا فضيلة الشيخ ـ أن تدخل يوما تونس على حين غفلة من حكّامها، من دون حراسة ولا رقابة، لرأيت ما يجري على حرائر تونس ـ هنا وهناك في الأسواق والطّرقات، وعلى أبواب المدارس والكليات والمؤسّسات والمستشفيات، وحتى على متن القطارات والحافلات ـ من هتك لسترهنّ على يد الأعوان وتمزيق لخمرهنّ! ولو شاهدت أولئك الجلاوزة وهم يجرّون الحرائر إلى مخافر الشرطة من شعورهنّ، لما تمالكت نفسك عن الاندفاع لإنجادهنّ ودفع الصائل عنهنّ. ولو أنك استمعت لبعض القصص من محنتهنّ لأدركت عظم البليّة ووطأة الرّزيّة الواقعة على الحرائر في الديار التونسية، ولَهَمَتْ عيناك بالدموع الغزار رثاء لحالهنّ!! ولكان لك ساعتئذ انطباع آخر غير هذا الانطباع، وحكم آخر غير هذا الحكم.
* حكم من الشيخ جائر:
غريب والله أن يصدر منك ـ فضيلة الشيخ سلمان ـ هذا الحكم اليوم، كأنْ لم يطرقْ سمعَك طوال هذه السّنين صراخُ حرائر تونس، وهنّ يكتوين بنار فتنة عمياء أجّجها عليهنّ حكام تونس، فأصابت منهن الدّين والعِرض، فهنّ يستجرْن صباح مساء بالدّعاة والعلماء من أمثالك ويستغثْن بكم لإغاثتهنّ في محنتهنّ؛ ولكن ما من مغيث!! وإن محنتهنّ لتذكّرنا بتلك التي جرت على حرائر الأندلس كما وصفها أبو البقاء الرّندي في راثيته، حيث قال:
يا رُبَّ أمٍّ وطفل حِيل بينهـــما كما تُفرَّق أرواح وأبــدان
وطفلةٍ مثل حسن الشمس إذ طلعتْ كأنما هي ياقوت ومرجـان
يقودها العلجُ للمكروه مكرَهـة والعين باكية والقلب حيـران
لمثل هذا يذوب القلب من كمـد إن كان في القلب إسلام وإيمان
فكيف تقول أنت عن فتنة ظلماء كهذه، قد عمّت ـ وما تزال ـ البلادَ التونسية كلّها، إنها "شيء حدث ذات حين؛ في مدرسة أو جامعة، أو بتصرّف شخصي، أو إيعاز أمني، أو ما شابه"!!
إننا لا نشكّ أنّ حكمك هذا قد نزل على قلوب حكّام تونس بردا وسلاما، وزيّن لهم سوء عملهم، بما قد يغريهم بمواصلة حربهم على دين الله وشرعه وشعائره، دونما حرج! لما تنطوي عليه شهادتك هذه من رضى عن نهجهم واستصغار لعِظم جنايتهم، وتزكية لعملهم والحكم ببراءتهم! وهو الحكم الذي سينقلب سلاحا في أيديهم ينافحون به عن أنفسهم، ويحاجّون به خصومهم. كما أنّ حكمك ذاك الذي أثلج صدور حكّام تونس ـ يا شيخ العودة ـ قد أكمد قلوب المؤمنين والمؤمنات من أهالي تونس، وخيّب أملهم فيما كانوا ينتظرونه منك من واجب مناصرتهم في محنتهم ومؤازرتهم في الذّياد عن حياض دينهم وعِرضهم، كما هو العهد بك! ولسان حالهم يقول:
رُبّ مَن ترجو به دفْعَ الأذى عنـــك يأتيك الأذى مِنْ قِبَلِهْ
* لا فضل لحكام تونس على مظاهر التدين:
أمّا عن تعاظم مظاهر التديّن، وانتشار الحجاب، وازدحام المساجد بالمصلّين، فهذا شأن لا يختصّ به القطر التونسي دون سائر أقطار العالَم الإسلامي، بل إن العالَم كلّه يشهد اليوم تنامي الصّحوة الإسلامية حتى غدت آثارها ومظاهرها مشهودة في الجاليات المسلمة في بلاد الغرب؛ فهل يسوغ لعاقل أن يعزو مظاهر التديّن من ازدحام المساجد بالمصلّين، وانتشار الحجاب في بلاد الغرب إلى جهود حكّام تلك البلاد غير المسلمين؟! وإذا كان لا يسوغ نسبة ذلك إلى أيّ من حكّام تلك البلاد الغربية أو حكوماتها، فإذاً بأيّ وجه يُنسب الفضل في تعاظم مظاهر التدين في تونس إلى حكّامها المعروفين أصلا بمُحادّة لله ورسوله!؟ ليُحمَدوا بما لم يفعلوا!!
إنّ الفضل في كلّ ذلك ـ كما ذكرنا ـ لله سبحانه، فهو الذي تدارك أهالي تونس برحمته، فشرح صدور الأجيال الجديدة للإسلام وهداهم للإيمان، وردّهم إلى دينه ردّا جميلا، وهي أمور لا يدَ لحكام تونس فيها؛ بل إنّ هؤلاء على الضدّ من ذلك، يسعون جاهدين في طمس هذه المظاهر وتقليصها وتبديدها، وتشريد الشباب المتدينين وصدّهم عن بيوت الله وعمارتها! بكلّ سبيل من سبل الترغيب والترهيب، مّما لا يتّسع هذا المجال لعدّه أو سرده 22.
* تديّن الشباب أمارة إرهاب!
ولمّا أعيتهم الحيل في التصدّي لتعاظم مظاهر التدين وتنامي الصّحوة الإسلامية، وأفشل الله سبحانه خطتهم في تجفيف منابع الدين واعتراض رياح الهداية الربّانية التي تهبّ اليوم على المجتمع التونسي، عمد حكام تونس إلى مواجهتها بتسيير قوات (الأمن) في حملات ترهيبية بمختلف النواحي والجهات، وسنّ القوانين والتشريعات، ونصب المحاكمات لمؤاخذة الشباب المتدينين بأقسى العقوبات، سعيا في إرهابهم وصدّهم عن الهدى، ومن هذه القوانين على سبيل الذّكر لا الحصر:
ـ قانون المساجد الذي ينصّ الفصل 10 منه على أنه "يعاقَب بالسّجن مدة ستّة أشهر وبخطيّة قدرها خمسمائة دينار أو بإحدى العقوبتين فقط: كلّ من يقوم بنشاط في المساجد دون الحصول على التّرخيص المنصوص عليه بالفصل 5 من هذا القانون" 23.
ـ قانون الجريمة الإرهابية: وممّا جاء منه بالفصل 52 مكرر "..وتُعامَل معاملة الجرائم المتصفة بالإرهابيّة أعمال التّحريض على الكراهيّة أو التّعصب العنصري أو الدّيني مهما كانت الوسائل المستعملة"24.
ـ قانون دعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب"25 وبموجب هذا القانون النّحس ترى - يا فضيلة الشيخ - كلّ يوم العشرات بل المئات من شباب تونس المتديّنين الأطهار الأبرياء يُعتقلون، دونما ذنب جنوه أو جرم اقترفوه، بل يُختطفون من الشوارع والطّرقات وعلى أبواب المساجد والكلّيات، ومن داخل المساكن والبيوت، ويساقون مصفّدين في الأغلال إلى مخافر الشرطة والاستعلامات حيث يسامون سوء العذاب ثم يحالون على المحاكم لتقضى عليهم ـ ظلما وزورا ـ بالسّجن لآماد طويلة، بتهمة الإرهاب، وهم منه بريئون براءة الذئب من دم ابن يعقوب (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: 8].
ولولا ضيق المجال لأوردنا مئات الحالات من وقائع المحاكمات. وحسبك أنّ السّجون التونسية اليوم تعجّ بالألوف من الشباب المتديّنين26. فكيف مع كلّ هذا الاضطهاد الذي يسلّطه حكّام تونس على أولئك الشباب الأبرياء متّهِمين إياهم بالسّلفية والظلامية!! تصافي أنت يا شيخ سلمان، أولئك الحكّام الظالمين، وتثني عليهم خيرا، بل وتلتمس لهم الأعذار فيما يقترفون من المظالم والمناكر في حق الإسلام وأهله؟!
* اغترار الشيخ بما رأى وسمع!
لقد غرّك - يا شيخ سلمان - ما سمعت من لغة الخطاب السياسي المتكئ، كما قلت، على أبعاد عروبية وإسلامية، وما رأيت ومن لقيت في إذاعة الزيتونه؛ فخرجت من كلّ ذلك بانطباع يوحي بأنّك كنت قبل زيارتك هذه، ضحيّةَ تغرير أو مغالطة ومبالغة منّا نحن خصوم الحكومة التونسية بما نشرناه أو أشعناه من أخبار حربها على الإسلام وأهله وشرعه وشعائره، وأنّ مضيفيك، بما أروك وحدّثوك، قد شكّكوك في صحّة معلوماتك، بل أقنعوك ببراءتهم ممّا نُسب إليهم، ونجحوا في تصحيح ما نقلنا إليك عنهم من صورة ذهنية (مشوّهة)، فاستحال لديك كلُّ ما قرأتَ من قبل أو سمعتَ مجرّدَ شائعات وظنون، وتكبير لأحداث صغيرة وحقائق جزئية، وكلّها لا تصلح أساسا لبناء نظرة كلّية، تحيط بالوضع العام للواقع التونسي!!
إنّنا على وفاق معك في كون الشائعات والظنون وتكبير الأحداث الصغيرة والحقائق الجزئية، كلها لا تصلح أساسا لبناء نظرة كلية. ولكن ما هي في مقابل ذلك الأحداث الكبيرة والحقائق الكلية، التي بنيتََ عليها أنت نظرتك حتى حكمتَ باختلاف مجريات الأمور في تونس بين السّماع والعيان؟! هل هو خطاب الرئيس وإذاعة الزيتونة وقرّاؤها؟! إذ أنك لم تذكر شيئا من حسنات مضيفيك ما يقنع القارئَ بعظمة إنجازاتهم عدا هذين الأمرين! فهل ترى يصلح هذان الأمران لوحدِهما في بناء نظرة كلية يؤسّس المرءُ عليها حكما كحكمك ذاك؟! أم أنّ استماعك لخطاب الرئيس وزيارتك العابرة لإذاعة الزيتونة وقرّائها الصّلحاء، قد فعلا فيك فعل السّحر حتى بدت لك الأمور على غير حقيقتها، فأصدرتَ هذا الحكم الجائرَ علينا، متّهما إيّانا بترويج الإشاعات والظنون، وتكبير الصغائر والجزئيات؟!
ولو أنّك - يا شيخ سلمان – تخلّيت عن دواعي المجاملة لمضيفيك، وتحلّيت بشيء من الأناة، وتمهّلت في إصدار الحكم حتى تتأكد بنفسك من مشاهدة الواقع كما هو، لأدركت أنّ مجريات الواقع التونسي قد تغيّرت إلى ما هو أسوأ لا إلى ما هو أحسن كما، توهّمت أو أوهموك!
* فظائع يمور بها المجتمع التونسي:
إن المجتمع التونسي يمور اليوم بكبائر الإثم والفواحش والفظائع ما لا قبل لأحد بإحصائه وحصره؛ فالمظالم وانتهاك الحرمات واضطهاد المحجّبات، مستمرّ على قدم وساق، مع اختلاف حدّته بين جهة وأخرى، والمحاكمات الصورية متواصلة دون توقّف، والسّجون تعجّ بالأبرياء وهي مع ما يُحشر فيها كلّ يوم من الشباب بالعشرات بل المئات، تقول هل من مزيد! وقتل زهاء مائة من رجال الحركة الإسلامية 27 في تونس، غِيلةً أو بالتعذيب أو بحرمانهم من حقّ التداوي والعلاج حتى أدركهم الموت، واحدا بعد آخر، جريمة مستمرّة. والمُصحف الشريف لا يزال يُدنَّس باستمرار في السّجون 28 التونسية، والجُناة في حصانة من أيّ مؤاخذة، وجرائم الاعتداء على النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ذات الله العلية بالسبّ والشتم والإقذاع، تسري في تونس على كل لسان29 إلا من عصم الله.
وفي شبكة الانترنت صفحات خاصّة بـ""الفيس بوك" مخصّصة لسبّ الله تعالى ورسوله ودينه وانتهاك حرمة المقدّسات الإسلامية، وما على الجناة من سبيل حتى بالعتاب فضلا عن العقاب! وشرع الله تعالى معطّل بل مستنكَر، وبيوت الله موصدة عدا أوقات الصّلاة، فيما ترى الحانات والمواخير وبيوت الدّعارة في جميع الأماكن والمحافظات مشرَعَةَ الأبواب، على مدار الليل والنهار، حتى جاوز عدد المواليد الأنغال العشرة آلاف نغل!! وأصبح العثور عليهم في حاويات القمامة كأفراخ القطط والكلاب أمرا مألوفا!
وتذكر الإحصاءات أن عدد الزانيات (المتعارف عليهن بالأمّهات العازبات) يبلغ 1060 أمّاً عزباء، كلّ سنة 30. وهو في ارتفاع مطّرد، الأمر الذي حدا بوزارة الصّحة العمومية إلى اعتماد طريقة الإجهاض الدوائي، وقال الدّيوان الوطني للأسرة والعمران البشري "إنّ عمليات الإجهاض الدّوائي تطبّق حاليا في مصحّات الديوان لتخليص الحوامل العازبات، وخاصّة من فئة المراهقات من الحمل غير المرغوب فيه خارج إطار الزواج"31. وقد تففكت الأواصر الأسرية وروابط الأرحام العائلية بسبب استشراء ظاهرة الطلاق، وهو ما وضع تونس في المرتبة الرّابعة عالميا من حيث ارتفاع نسبة الطلاق32. وأمّا عن استشراء جرائم القتل والاغتصاب والخيانة الزوجية والترويع وقطع الطريق وإخافة السّبيل، والسّلب والنهب، فأمر مروّع حقّا يؤذن بكارثة في المجتمع التونسي، لا تبقي ولا تذر.
أما عن تغلغل جراثيم التدمير والتخريب والتنصير في المجتمع التونسي، فها هي البلاد التونسية اليوم تعجّ بفِرق الماسون والرّوتاري، ونوادي اللينز، وعبدة الشيطان، واللوطية والبهائية، والأحباش والتشيع، كلّ يدعو إلى نحلته جهارا نهارا، حتى إنك لترى شياطين التنصير من "شهود يهوه" وسواهم يدعون إلى نحلتهم الكافرة على طريقة جماعة الدّعوة والتبليغ، فيتعرّضون للأهالي في الطّرقات والأسواق وللشباب في المدارس والجامعات، ويطرقون على النّاس أبواب المساكن والمحلات، لنشر مذهبهم، ومنهم من يقومون بالتنصير بكل حرية تحت غطاء إنشاء مدراس اللغات الأجنبية، والقيام بالأعمال الخيرية!!33؛ فكل هذه الشراذم تنخر في المجتمع التونسي كنخر السّوس في الخشب، وقد زاد عدد الطّلاب المتنصّرين في الجامعة التونسية اليوم عن ألفيْ متنصِّر، ولهم موقع الكتروني باسم "البشارة"! يبثّ النّصرانية على الملأ في الدّيار التونسية! فيما يُعتقل شباب تونس المتدينون بتهمة التطرّف والإرهاب، ويُزجّ بهم في المعتقلات والسّجون! وكلّ ذلك واقع بعلم حكّام تونس بل عن إذنهم وموافقتهم وأمرهم وإرادتهم!