عبد المعين الملوحي في حماة

عبد المعين الملوحي

عبد المعين الملوحي

سافرت إلى حماة وبدأت التدريس وقد سبقتني شهرتي كملحد...

كان أخي أنيس قاضياً شرعياً في حماة، فضاق بي، وكنت أحرص على ترك زيارته لكيلا أزعجه...

سكنت غرفة في تجهيز حماة، وكان زميلي هناك الأستاذ زكي الأرسوزي، وكان ينام في غرفة مجاورة.

كنت أكثر الأحيان أعود إلى حمص حتى في أيام الدراسة، وكنت قد جمعتها في ثلاثة أيام من كلّ أسبوع، وأبقى طوال الأيام الأربعة في حمص أدرس في المدارس الثانوية الخاصة.

كان مديرنا في حماة أستاذي قدري العمر، وهو إنسان أديب كبير ذواقة للأدب والشعر رائع وإداري ناجح.

قصصت عليه ما جرى في حمص، وقصّ عليّ ما جرى لزميلي في حماة.

كانت سورية في ذلك العهد تجتاز مرحلة عجيبة مضطربة.

البلاد على أهبة الاستقلال.

والفرنسيون والإنكليز سينسحبون.

وظن كلّ حزب أنّ البلاد ستكون له.

البرجوازية ستنفرد باستغلال الشعب.

الرجعية ستكون حاكمة البلاد.

العمال يتحركون ليثبتوا وجودهم في الساحة.

الأحزاب التقدمية تريد أن يكون لها موضع قدم.

وهكذا.

كنت أنا وزميلي ضحية هذا النزاع.

وزارة المعارف أمام خط تقدمي. يجب أن تقف في وجهه، وأمام هجوم رجعي يجب أن تسايره.

ونقلتنا من بلدينا لنعلم في بلد آخر.

عشت في حماة ما بقي من السنة الدراسية. وحدثت فيها حوادث.

كان الطلاب وقد حركتهم الرجعية يحاولون إزعاجي.

كانوا في الصف لا يستطيعون الإزعاج. فإذا خرجت وجدوا في الألواح ما ينفسون به عن غضبهم.

وعندما أدخل كانت هذه الألواح ملأى بإعلانات تحمل شتائم لا أهتم بها.

ـ ستالين عرص

ـ الشيوعية إلحاد وكفر

وكانو يوزعون منشورات غريبة، تكتب هكذا

الشيوعية

الشيــوعية

الشيــــوعية

وتستمر إلى آخر اللوح أو الصفحة يزداد عرضها ويزداد حجمها، وفي آخر الصفحة أعرض خط يمتد من أولها إلى آخرها:

الشيوعية إلحاد

كنت أدخل الصف هادئاً،

وأمسح اللوح.

أو آمر طالباً بمسحه.

وتجري الدروس في صورة طبيعية.

وعرف الطلاب أنّهم يستفيدون من الدروس فسكتوا وأطاعوا.

إنّ خير وسيلة للنجاح في كسب الطلاب أن يكون مدرسهم ناجحاً،

إنّهم عندئذ ينسون مبادئه وأفكاره.

يختبرون لغتي:

حاول بعضهم أن يجد مطعناً في معرفتي باللغة العربية،

كانوا ينقلون ما أعلمهم إلى أهليهم.

مرة من المرات كنت أقول لهم: فِعلُ نَقَصَ لازم ومتعد.

تقول مثلاً: نقص الماءُ، ونقصت الماءَ.

وذهب أحد الطلاب وهو حفيد عالم كبير وشيخ جليل في حماة فأخبره الخبر.

وجاء الطالب في اليوم الثاني يقول لي:

ـ يسلم عليك جدي، نقص: فعل لازم، وأنقص فعل متعد.

وقلت للطالب في هدوء:

ـ سلم على جدك، وقل له، ليقرأ القرآن.

واحمر وجه الطالب خجلاً وغضباً:

ـ جدي شيخ البلد، فهل أطلب منه أن يقرأ القرآن؟

وقلت له في هدوء مرة أخرى:

ـ سلم على جدك. وقل له: ليقرأ القرآن.

وجاء الطالب في اليوم التالي يقول:

ـ جدي يسلم عليك، لقد قرأ القرآن. جزاك الله خيراً.

ولقد ورد في القرآن الكريم فعل نقص لازماً ومتعدياً:

"لقد علمنا ما تنقص الأرض منهم" ق.5

"ولا تنقصوا المكيال والميزان" هود11

"أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" الرعد 13

"أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" الأنبياء21

"ثم لم ينقصوكم شيئاً" التوبة9

"وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب" فاطر35

"قم الليل إلاّ قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا" المزمل73

هذه الحادثة أوقفت كل سؤال بعد ذلك، لقد عرف الطلاب أنّ مدرسهم الذي يلبس طربوشاً، والذي يرتدي بذلة، ليس أقل معرفة باللغة العربية من شيخهم الذي يلبس العمة ويرتدي الجبة.

لم أكد أنتهي من الناحية اللغوية حتى بدأت أحدث الطلاب عن الناحية الفكرية.

عندما كتبوا على السبورة: (ستالين عرص) أول مرة سكت وقمت بمسح الشتيمة.

وعادوا فكتبوها مرة بعد مرة.

وقلت لهم في هدوء:

ـ هل تعرفون يا أولادي ستالين الذي تكتبون عنه؟

إنّه رجل حرّر أمته من الغزو النازي.

أتعرفون ما بلده؟

إنّه الاتحاد السوفياتي الذي قدم 20 مليوناً من الضحايا ليدافع عن وطنه أولاً، وليدافع عن الشعوب في تقرير مصيرها ثانياً.

ثم إنّ ستالين قدم أولاده للدفاع عن وطنه.

لم يعفهم من الحرب، بل زّجهم في الصفوف الأولى من المعركة.

ثم إنّ كلمة "عرص" لا تستعمل في البلاد المتمدنة على الإطلاق. "عرص" عندنا في حماة وفي البلاد العربية، أو في سورية على الخصوص تستعمل لمن يقدم بناته، أو أخواته أو زوجته للناس، ويقبل أن يكون الناس عشاقاً لهنّ.

أما ستالين فلا يقدم زوجته، ولا أخته ولا ابنته للناس.

فما معنى كلمة "عرص" بالنسبة إليه؟

ومضت الأيام وزالت الكتابة عن اللوح." (عبد المعين الملوحي ـ شظايا من عمري ـ دار الكنوز الأدبية ـ بيروت 1995 ص138)

يا أيها المتدينون والعلمانيون من أبناء وطني؛ قدمت لكم هذه الفقرة من كتاب عبد المعين الملوحي الملوحي للاستفادة من كلماته التي كتبها عن حياته في أربعينيات القرن العشرين والتي ما تزال حية وضرورية لنا جميعاً في القرن الواحد والعشرين...

ألا تظن بعض الأحزاب أن البلاد لها كما "ظن كلّ حزب أنّ البلاد ستكون له" على أعتاب الاستقلال؟

إنّ مجتمعنا في حاجة لمثل تلك الومضات المضيئة من التعايش بين العلمانيين والمتدينين على الرغم من التناقض وحتى الصراع...

أليست مثالاً على التعامل الحضاري؟

ألا يفتقد البعض إلى تلك الومضات؟

أليس وجود المعلم الناجح ضرورياً في مدارسنا؟

أليس ضرورياً أن يكون معيار تقييم العامل والمسؤول والمعلم هو عطاءه وليس انتماءه، كما حدث لاحقاً وأفقد مجتمعنا خيرة المعلمين؟

وما يزال بعض معلمينا يعانون من التمييز والنقل لأسباب ربما يكون الانتماء العلماني أو غيره أحد أسبابها!!!

وهل يأتي يوم يقال فيه "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"؟

إننا في حاجة لكل جهد جدي من كل معلم وإنسان مهما كان انتماؤه، وفي حاجة إلى التفاعل الحضاري بين جميع الاتجاهات خدمة لمجتمعنا ورفعة للوطن... وفي حاجة إلى الاستفادة مما تركه لنا معلمونا أمثال الملوحي من خبرة وعلم ومعرفة، وأقترح في هذه المناسبة على جميع الأحزاب الوطنية وعلى وزارة الثقافة والتربية إعادة طباعة كتب الملوحي وتوزيعها كمادة تثقيفية ضرورية في المجتمع، بل وإدخالها ضمن المناهج التعليمية. شاهر أحمد نصر)