رحلة القدر

رحلة القدر

محمد الحسناوي

أرأيتَ إلى طفل بريء يدهس؟

أعجبتَ لطاغية يموت ولم تطله يد العدالة؟

إنه القدر..

القدر.. لفظ ينطوي على ميراث ضخم في الثقافة الإسلامية، ولعل أول ما يتبادر إلى البال من مدلولاته الكثيرة، تلك المذاهب التي 

 نشأت حوله، من قدرية وجبرية ومرجئة ومعتزلة، على الرغم من نهي الرسول –عليه السلام- عن الخوض فيه، وطلبه التسليم بالقضاء والقدر خيره وشرّه من الله تعالى، على أن ذلك من الإيمان، فلكي ننهج نهج السلف –رضوان الله عليهم- ولكي يطمئن القارئ منذ الآن.. أنبه إلى أن هذه السطور ليست بحثاً فكرياً، ولا جدلاً بيزنطياً، الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟ بل هي رحلة أدبية في مجموعة من النصوص الإسلامية أو التي تستلهم الإسلام من قريب أو بعيد..

يخيّل إليّ أن مسألة القدر التي تشغل البشر، يعتورها –فيما يعتورها- الهوى، وهو ما اصطلح عليه حديثاً بالإضفاء أو الإسقاط أو المنطق العاطفي. يتمثل رجلان، أحدهما متشائم والآخر متفائل عمرهما الذي مضى نصفه والنصف الذي لم يمض بعد.. بكأس شرب نصفها، فيقول المتشائم: آه.. يا للخيبة، لقد سلخت نصف عمري سدى، فماذا بقي لي؟ بينما يقول المتفائل: يا لله.. إن في عمري لمتسعاً، إن بوسعي أن أستمتع بعمري الباقي أكثر مما مضى، وهما في الحقيقة يعبران عما في نفسيهما، وليس عما في الكأس.

- 2 -

كيف تناول أدبنا مسألة القدر؟

إذا كنت ما زلت في حيرة من موت طفل بريء، أو من وقوع ما لم يكن أحياناً بالحسبان، فالتمس تعليل ذلك في القرآن الكريم:

(وإذا قال موسى لفتاه: لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حُقُباً. فلما بلغا مجمع بينِهما نسيا حوتَهما، فاتخذ سبيلَه في البحر سَرَبا. فلما جاوزا، قال لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا من سفرِنا هذا نَصَباً. قال: أرأيتَ إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيتُ الحوتَ – وما أنسانيهُ إلا الشيطان أن أذكره- واتخذ سبيله في البحر عجباً. قال: ذلك ما كنّا نبغ. فاتردّا على آثارهما قَصَصا. فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا، وعلَّمناه من لدنّا علما. قال له موسى: هل أتبعك على أن تُعلّمني مما عُلّمتَ رُشدا؟

قال: إنك لن تستطيع معي صبرا. وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبرا؟ قال: ستجدني –إن شاء الله- صابراً، ولا أعصي لك أمرا. قال: فإن اتبعتَني، فلا تسألني عن شيء حتى أُحدثَ لك منه ذكرا.

فانطلقا. حتى إذا ركبا في السفينة خرقها. قال: أخرقتها، لِتُغرقَ أهلها، لقد جئتَ شيئاً إِمرا.

قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟

قال: لا تُؤاخذني بما نسيتُ، ولا تُرهقني من أمري عسرا.

فانطلقا. حتى إذا لقيا غلاماً، فقتله.

قال: أقتلتَ نفساً زكية بغير نفس، لقد جئتَ شيئاً نُكرا.

قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟

قال: إن سألتك عن شيء بعدها، فلا تُصاحبني. قد بلغتَ من لدنّي عُذرا.

فانطلقا. حتى إذا أتيا أهل قرية، استطعما أهلها، فأبَوا أن يُضيّفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ، فأقامه.

قال: لو شئتَ لاتخذتَ عليه أجرا.

قال: هذا فراقُ بيني وبينِك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا.

أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردتُ أن أعيبها، وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كل سفينة غصبا، وأما الغلام، فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يُرهقهما طغياناً وكفرا. فأردنا أن يُبدلَهما ربُّهما خيراً منه زكاة، وأقربَ رُحْما. وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، فأراد ربُّك أن يبلغا أشدّهما، ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربك، وما فعلتُه عن أمري، ذلك تأويل ما لم تَسْطِعْ عليه صبرا)

هذه إحدى صور القدر في القرآن الكريم، صورة توضح الجانب الغامض الملتبس على الإنسان، وتضع الأحداث المفردة في إطارها الحقيقي الواسع، تبدو للنبي موسى –عليه السلام- لأول وهلة ظلماً ومنكرا، لا هدف لكل منها ولا مبرر لها، إذ كيف يجوز لعاقل خرق سفينة في عرض البحر، وقتل طفل بريء، وإعادة بناء جدار في قرية تطرد الضيف؟ إن العبد الصالح (الخضر) –أحد وسائل القدر الرباني- يربط الحدث بغايته المبصرة، ويكشف المغيب من أعماله التي أنجزها بأمر الله لخير البشر: خير المساكين أصحاب السفينة، وخير والدَي الغلام المؤمنين، ويتيمَي الرجل الصالح صاحب الكنز(1).

- 3 -

في سورة يوسف –عليه السلام- صور أخرى للقدر.

فالنبي يعقوب عليه السلام صبور أمام مفاجآت القدر، متوكل على الله تعالى، مستعين به، لأنه ذو علم ما علمه الله. فإذا تآمر إخوة يوسف عليه "وألقوه في الجب وجاؤوا على قميصه بدم كذب. قال: بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا، فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون." وإذا اضطروه إلى اصطحابهم أخا يوسف إلى مصر "قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل. فالله خير حافظاً، وهو أرحم الراحمين" وهو على توكله واستعانته بالله تعالى واطمئنانه إلى عدالة قدر الله، يأخذ بالأسباب، فيطلب إلى يوسف ألا يقصّ رؤياه على إخوته خشية أن يكيدوا له، كما يطلب من أبنائه حين دخولهم بلد العزيز الاحتياط "قال: يا بَنيّ لا تدخلوا من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة، وما أُغني عنكم من الله من شيء. إنِ الحكمُ إلا لله، عليه توكلتُ، وعليه فليتوكّل المتوكلون". وحين يخسر ابنه الثاني لا ييأس من قضاء الله وقدره، في عودة الاثنين، فإذا لاموه على تذكر يوسف "قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله مالا تعلمون. يا بَنيّ اذهبوا، فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".

هذا بالنسبة للأب يعقوب –ناهيك عن أيوب، عليهما السلام-.

أما يوسف فيؤتيه الله تأويل الرؤيا ليلمس بعض المغيب من القدر بإذنه تعالى. "إذ قال يوسف لأبيه: يا أبتِ إني رأيتُ أحد عشر كوكبا، والشمسَ والقمرَ رأيتهم لي ساجِدين". ويعبر الرؤيا لصاحبيه في السجن فيقول: "يا صاحبَي السجن. أما أحدكما فيسقي ربَّه خمرا. وأما الآخر فيُصلب، فتأكل الطير من رأسه. قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان" كما يعبّر الرؤيا للملك لما استفتاه بقوله: ".. تزرعون سبع سنين دأبا، فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي بعد ذلك سبعٌ شدادٌ يأكلنَ ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يُغاث الناس، وفيه يعصرون". وأخيراً حين أتمّ الله عليه نعمته، وصدق رؤياه "قال: يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقا، وقد أحسن بي، إذ أخرجني من السجن، وجاء بكم من البدو، بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي، إن ربي لطيف لما يشاء. إنه هو العليم الحكيم".

وبمناسبة ذكر الشيطان –عليه اللعنة- نشير إلى الدور الذي لعبه هذا العدو في تأخير الإفراج عن يوسف لما أنسى صاحب السجن أن يذكره عند سيده، كما أنسى صاحب موسى الحوت. لكن دور الشيطان في الأقدار محددو، كما رأينا.

- 4 -

القضاء والقدر من عالم الغيب، من أمر الله تعالى، لكنه جلّ وعلا قدّر كل شيء، وأحسن تقديره، لهذا لم يشأ أن يجعل الإنسان مسيّراً، كالمخلوقات الأخرى، كل التسيير، بل كرّمه، وأعطاه حظاً وافراً من الاختيار، بعد أن يسّر له سبل الاختيار بين الخير والشر، بين الجنة والنار. فالمؤمن يختار والكافر يختار، ولكل اختيار جزاء في الدنيا أو الآخرة، أو الدارين معا.

المؤمن حين يختار يطمئن إلى اختياره، لأنه سالم "الله" تعالى، المتسمّي بالأسماء الحسنى، الرحمن الرحيم الذي يريد لعباده المؤمنين الخير كله، كما وجدنا في قصة يوسف، وهو العليم الحكيم يصرف من الأقدار ما يجنب أحبابه الشر، كما مرّ في قصة موسى والعبد الصالح، وهو المتعالي الجبّار الذي يحبط كيد الشيطان وحزبه "وقال الشيطان لما قُضيَ الأمر: إن الله وعدكم وعدَ الحق، ووعدتُكم، فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان، إلا أن دعوتُكم، فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم، ما أنا بِمُصرِخِكم، وما أنتم بمصرِخيّ، إني كفرتُ بما أشركتموني من قبل..".

والله –سبحانه وتعالى- يرسل الرسل لعباده، ويضرب الأمثال لهم، كي يجتنبوا الشيطان وكل بناء واه في الاعتقاد أو السلوك فيقول: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء، كمثل العنكبوت اتخذتْ بيتاً، وإن أوهنَ البيوت لَبيتَ العنكبوت، لو كانوا يعلمون. إن الله يعلم ما يَدعون من دونه من شيء، وهو العزيز الحكيم، وتلك الأمثال نضرِبها للناس، وما يعقلُها إلا العالِمون".

- 5 -

ترى هل ظل القدر بمفهومه المشرق في أفئدة المسلمين، عبر مسارهم الطويل، عبر الرغبة والرهبة، عبر الفهم الناضج والفطير. لم يكن ذلك شأن البشر دوماً، بل ربما اعتور فهمهم الغبش حتى في الخطوات الأولى: (عن أسلم بن عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة (القسطنطينية) فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه، مه. لا إله إلا الله، يلقي بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: إنما نزلت هذه الآية فينا معشرَ الأنصار لما نصر الله نبيّه، وأظهر الإسلام قلنا: هلمّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله، ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلُكةِ". والإلقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها، وندع الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دُفن في القسطنطينية"(2).

إن اختيار أبي أيوب – رضي الله عنه - طريق الشهادة القصير لم يكن مجازفة عمياء، كما يخيّل للجبناء أو القدرية، بل هو السعي البصير إلى قدر الله النافذ، حتى ولو كان أبو أيوب في بروج مشيّدة.

- 6 -

إن الغبش – مهما طال السرى- لا يمحو المجرى العميق الذي حفره مفهوم القدر الإسلامي في النفوس، ولو كانت نفس أبي نواس، ها هو ذا أبو نواس يدرك دور الشيطان في تيسير سبل الغواية لمن اختارها قدراً له، فيقول:

لما  جفاني  الحبيبُ  iiوامتنعتْ
اشتدّ   شوقي،   فكاد   iiيقتلني
دعوتُ   إبليس،  ثم  قلتُ  iiله
.. أما ترى كيف قد بليتُ، وقد
إن  أنت  لم تُلقِ لي المودةَ في
لا  قلتُ شعراً، ولا سَمعتُ غنا
ولا    أزالُ   القرآنَ   iiأدرسُه
وألزمُ  الصومَ  والصلاة،  iiولا
فما   مضتْ   بعد  ذاك  iiثالثةُ









 
منّي  الرسالاتُ منه iiوالخبرُ؟؟
ذكرُ   حبيبي،   والهمُّ  iiوالفِكرُ
في   خُلوةٍ،  والدموعُ  iiتنهمرُ:
أقرحَ  جفني  البكاءُ  iiوالسهرُ؟
صدر  حبيبي  –وأنتَ  iiمُقتدِرُ
ولا  جرى في مفاصلي iiالسكرُ
أروح   في   درسهِ،   iiوأبتكرُ
أزالُ –دهريَ- بالخير iiأتَّعِر..
حتى  أتاني الحبيبُ iiيعتذر(3)

إلى أيّ مدى يتحكم إبليس بقدر الناس؟ إنه لا يسوقهم إلى درك الجحيم إلا باختيارهم، وهم قادرون على خلع ربقته إذا شاؤوا قبل فوات الأوان، قبل الموت، إليك أبا نواس أخلص أتباعه، بعد أن تاب وأناب، ينجو بجلده منه، ويقول:

يا     نواسيُّ    iiتوقّر
ساءك   الدهر  بشيء
يا  كبير  الذنب، iiعفوُ
أكبرُ    الأشياء   iiعن
ليس    للإنسان   iiإلا
ليس  للمخلوق  iiتدبير






 
وتجمّلْ،      iiوتصبّرْ
وبما    سرّك    iiأكثرْ
الله   من  ذنبك  iiأكبرْ
أصغر عفوِ الله أصغرْ
ما   قضى  الله  وقدّر
بل   اللهُ   iiالمدِبّر(4)

- 7 -

كيف يخطب ودّ القدر ساعة العسرة، لأننا لا نحس بالقدر إلا في الملمات، وقدر الله محيط بنا في المنشط والمكره.

(عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انطلق ثلاثة ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيتُ إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تَدعُوا الله بصالح أعمالكم.

قال رجل منهم: اللهم. كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً (أبعدت) فلم أرح عليهما (لم أرجع) حتى ناما، فحلبتُ لهما غبوقَهما، فوجدتُهما نائمَين، فكرهتُ أن أوقظهما، وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت –والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر- والصِبيةُ يتضاغون عند قدمَي (يصيحون جوعاً) فاستيقظا، فشربا غبوقهما. اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة.

فانفرجتْ شيئاً لا يستطيعون الخروج منه.

قال الآخر: اللهم إنه كانتْ لي ابنةُ عمٍّ، كانت أحبَّ الناس إلي، فأردُتها على نفسها، فامتنعتْ مني، حتى ألمَّتْ بها سِنةٌ من السنين (أصابها جوع) فجائتْني، فأعطيتُها عشرين ومئة دينار، على أن تُخلّي بيني وبين نفسها، ففعلتْ، حتى إذا قدرتُ عليها، قالت: اتِّق الله، ولا تفضَّ الخاتَمَ إلا بحقه، فانصرفت عنها، وهي أحبُّ الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرجْ عنّا ما نحن فيه.

فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منه.

وقال الثالث: اللهم. استأجرت أُجراء، وأعطيتُهم أجرهم غيرَ رجل واحدٍ ترك الذي له، وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرتْ منه الأموال، فجاء بعد حين، فقال: يا عبدَ الله أدِّ إليّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك. من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك. فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنّا ما نحن فيه.

فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون(5).

- 8 -

أن يهلك قوم عاد وثمود وأضرابهم بما جنت أيديهم.. ذلك عدل لا مراء فيه، فما بال الصخرة تتحدر من شاهق وتسد الباب على النفر الثلاثة الأبرياء؟ إنه الابتلاء. إن مثل أيوب –عليه السلام- في الابتلاء والاختبار لمثل حي "واذكر أيوب، إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم ورحمة منّا وذكرى لأولي الألباب. وخذ بيدك ضِغثا، فاضرب به، ولا تحنث. إنّا وجدناه صابرا، نعم العبد، إنه أوّاب".

- 9 -

ليس مفهوم القدر في أدبنا ساذجاً ولا مستغلقاً، بل هو في دائرته الكبيرة بيد الله تعالى، وفي إطار تلك الدائرة أنصبة يتوزعها الإنسان والشيطان.. أو هو سنن بثها الله في الكائنات بتقدير، تتكشف أسرارها للناس حيناً وتخفى عليهم أحياناً، فمثلاً يُلقى بالشاعر العباسي علي بن الجهم في السجن، فيتأمل الأقدار والحكمة التي وراء سجنه فيقول:

قالت: حبست. فقلت: ليس بضائري
أوما   رأيتِ   الليثَ   يألفُ   غِيلَه
والشمس    لولا    أنها    iiمحجوبةُ
غيرُ     الليالي     بادئاتٌ     عوّدٌ
ولكل     حالٍ    معقِبٌ،    iiولربما
لا    يؤيسنّك   من   تفرّج   iiكربة
واصبرْ  فإنّ  الصبرَ  يُعقبُ  iiراحةً
كم   من   عليلٍ  قد  تخطّاه  الردى
والحبسُ    ما    لم   تغشَه   iiلدنيّةٍ
بيت     يجدد     للكريم    iiكرامة،










 
حبسي،    وأي    مهنّد   لا   iiيُغمدُ
كِبراً،    وأوباش    الشباب   iiتَردّدُ
عن   ناظريك،   لما  أضاءَ  iiالفرقدُ
والمالُ     عاريةٌ،    يفاد،    iiوينفدُ
أجلى   لك   المكروهُ   عمّا   iiيُحمَد
خطبٌ   رماك   به  الزمانُ  iiالأنكدُ
في  اليوم،  تأتي، أو يَجيءُ بها iiالغدُ
فنجا،     وماتَ    طبيبُه    iiوالعوّدُ
شنعاءَ،    نعمُ    المنزِلُ    المتورّدُ
ويزأر  فيه،  ولا  يزور  iiويحفد(6)

لا تظننّ أن الشاعر يعزّي نفسه بالأوهام، بل إن الأمثلة التي ضرب لنفسه من الحياة الواقعية المشاهدة عيانا، وعلى مر الزمن. بعد مئتي سنة يعاني شاعر الأندلس ابن زيدون من مرارة السجن كذلك، فيوقع على اللحن نفسه قائلاً:

ما   على  ظنّي  iiباسُ
ربما   أشرف   iiبالمر
ولقد    يُنجيك    iiإِغفا
ولكم    أجدى    قُعود
وكذا   الدهر   إذا  iiما





 
يجرح  الدهر  iiوياسو
ء  على  الآمال  iiياس
لٌ،  ويرديكَ iiاحتراسُ
ولكم   أكدى   iiالتِماسُ
عزّ ناس، ذلّ ناس(7)

ذلك مصداقه قوله تعالى "وتلك الأيام نداولها بين الناس" لكن إذا انصرم العمر المحدود، ولم تشتف النفس الخيرة من ظالميها، فأين عدالة القدر؟

إن الشاعر السجين ابن الجهم يتوعد واثقاً مطمئناً إلى عدل الله:

والله   بالغُ   أمرهِ   في  خلقه
ولئن مضيتُ، لقلما يبقى iiالذي
 


 
وإليه  مصدرُنا  غدا  iiوالموردُ
قد كادَني، وليجمعنا الموعدُ(8)
 

- 10 -

أيّ اطمئنان يتمتع به المسلم، وأيّ وعي شامل للقدر لديه، يختار ما يريد، وإذا أحسن الاختيار فلا سلطان للشيطان عليه، وإذا اعتمد على فاطر السماوات والأرض، فإنما يعتمد على الإله الذي لا شريك له، الإله الذي ليس من صفاته إلا العدل والرحمة، لكن هل هو اطمئنان الصوفي ابن الوردي المتوفى (749هـ) إذ يقول:

اعتزلْ  ذكرَ  الأغاني  والغزلْ
يا  بنيّ  اسمع  وصايا iiجَمعتْ
اطرح   الدنيا،   فمن  iiعاداتِها
عيشةُ  الراغب  في  iiتحصيلها
كم   جَهولٍ  باتَ  فيها  iiمُكثراً
كم  شجاعٍ  لمِ  ينل فيها iiالمُنى
فاتركِ   الحيلةَ   فيها   iiواتكلْ
جانبِ  السلطانَ، واحذرْ iiبطشه
قصّرِ   الآمال  في  الدنيا  تفزْ









 
وقلّ الفصل، وجانب من iiهزلْ
حكماً،  خصّتْ  بها خيرُ iiالمللْ
تخفض العالي، وتُعلي من سَفلْ
عيشة   الجاهلِ  فيها  أو  iiأقلْ
وعليمٍ   باتَ   فيها  في  iiعللْ
وجبانٍ   نالَ   غاياتِ   iiالأملْ
إنما   الحيلةُ  في  ترك  الحيلْ
لا   تُعاندْ   من  إذا  قال  iiفعلْ
فدليل  العقل تقصيرُ iiالأملْ(9)

دعك من ركة الأسلوب، ومن النهج التعليمي الذي صب فيه الشاعر تأملاته وآراءه في القدر واعتقاده أن ذلك كله من الدين الحنيف، دين الفاتحين الذين جابوا الأرض شرقاً وغرباً بفتوحاتهم وأعمالهم الماجدة، وتذكر أنه يلقي هذه المواعظ في أحلك أيام المسلمين أيام كان التتار يجتاحون الشام، وهو في جهات حلب، وقف عند قوله:

فاترك الحيلة فيها واتكل     إنما الحيلة في ترك الحيل

لتعلم أن الانحطاط الذي انتاب أمتنا منذ سقوط بغداد وقبل سقوطها، إنما كان من ذلك الفهم المعوج للقدر، الفهم (الاتكالي) السقيم الذي يلقي بالنفس إلى التهلكة، بلا أدنى جهد للمشاركة في الحياة، ومخالفة واضحة لمفهوم خلافة الله في الأرض. ولقد فضح الشاعر –عفا الله عنه- نفسه أحسن فضح حين قال:

كم شجاع لم ينل فيها المنى     وجبان نال غايات الأمل

إنه يوفر علينا الجهد إذ يضع الإصبع على مكمن السر بقوله:

جانب السلطان واحذر بطشه     لا تعاند من إذا قال فعل

أين حديث رسو الله –صلى الله عليه وسلم- إذاً (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فنهاه، فقتله) التمس مفهوم القدر غير العليل لدى صوفي آخر، لدى من كان شعره مؤسساً لدولة باكستان، لدى محمد إقبال:

شكا غزالٌ إلى آخر همَّه قائلاً:

من الآن سأتخذ لي كناساً في الحرم.

فالصيادون في الصحراء بالمرصاد في كمينهم،

وهناءةُ الغزلان لا صبحَ لها ولا مساء

أريد الأمان من حبالةِ الصياد،

أريد تحرير قلبي من صنوف العناء،

فقال له صاحبه: أيها الصديق العاقل،

عش في الخطر إذا كانت لك إرادة.

اخبُر –كلَّ لحظة- مَعِدنَ ذاتك بمحك الخطر،

وعش أحدّ من سيف نقيّ الجوهر..

فالخطر امتحان للمقدرة، والطاقة،

وهو عيار الممكنات من جسم وروح(10)

لا تقل زدني من هذا الترياق، بل سأقطف لك زهرة واحدة من بستان إقبال، عسى أن تغريك بأن تشد إليه الرحال، يقول في قصيدة بعنوان (ميلاد آدم):

أطلق العشق صيحة أن ظهر مقروحُ الكبد

ورعش الجمال أن قد ظهر ذو نظر

واضطربت الخليقةُ أن قد ظهر من تراب العالم المجبور

مخلوقٌ مختار، محطُّمٌ نفسَه، مُعجبٌ بنفسه.

وسرى خبر من قبة الفلك الدوار في رواق الأزل،

أن حذارِ أيها المتوارون، لقد ظهر مخلوقٌ جسور.

وإذا الأمل من ذاته، على غير وعيٍ منه

يفتح نواظرَه بأحضان الحياة، وإذا بعالم آخر يظهر.

وقالت الحياة: لقد اختلجتُ في جوف الأرض دهرا،

حتى ظهر من قبة هذا الفلك العتيق باب(11)

لعلك انتبهت إلى قوله: (مقروح الكبد، ذو نظر، مخلوق مختار، مخلوق جسور).

- 11 -

إن التعامل مع القدر –في الإسلام- معاناة خصبة، ليست صراعاً عابثاً، ولا اتكالاً بهيمياً، بل هو الهدف والسعي الواعي إليه، بالسمع والبصر والفؤاد، ثم التوكل –لا التواكل- على الله، والتسليم بقضائه وقدره أياً كان. اسمع بدر شاكر السيّاب يقول في (سفر أيوب) بعد اعتلال طال:

لك الحمد مهما استطال البلاء

ومهما استبدّ الألم

لك الحمد، إن الرزايا عطاء

وإن المصيبات بعض الكرم.

ألم تُعطني أنت هذا الظلام

وأعطيتَني أنت هذا السحر؟

فهل تشكرُ الأرض قطرَ المطر،

وتغضبُ إن لم يجدها الغَمام؟(12)

- 12-

(القدر في حس البشرية دائماً عنيف! فالبشر لا يحسونه وهو سائر معهم في التيار، وإنما يحسونه، وهو معاكس لهم في الطريق) لذلك يكون ابتلاء الله للناس بإرسال النعمة السابغة عليهم، كما يكون بتقدير الضر. ترى هل أبطرت المقادير الرخية نبي الله سليمان لما سخّر له الريح والجن والطير؟ "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقراً عنده، قال: هذا من فضل ربي، ليبلوني ربي، أأشكر أم أكفر؟".

هل هناك من يكفر النعمة، وأي كفر يقترفه ذلك الذي يغفل عن الحظوظ الطيبة التي يسّرت له في السماوات والأرض، في السمع والبصر، في التذوق والتفكير؟

بل ذلك الذي يشتط فيبلغ به العناد حداً يتساءل معه عن (فائدة الوجود)؟ في الوقت الذي يقتضيه ذلك الشكر الذي لا حد له. يقول الشاعر جلال الدين الرومي:

فإن أنت قلت: ما فائدة الوجود؟ فلسؤالك هذا فائدة أيها العنيد.

لقد كان حسن يوسف مفيداً للعالم كله، مع أنه بالنسبة لإخوته كان عبئاً لا جدوى منه.

وماء النيل كان أغزر من ماء الحياة، لكنه إزاء الكافرين والمنكرين كان دماً. والاستشهاد حياة للمؤمن، على حين أنه للمنافق موت وعفن.

فخبرني: أية نعمة بهذا العالم لا تكون إحدى الأمم محرومة منها؟

فما فائدة السكر للثور والحمار؟ إن كل نفس لها غذاء مباين لما تغتذي به سواها(13).

            

الهوامش

(1) منهج الفن الإسلامي – ط1 – ص156 – 159.

(2) مجلة المسلمون – آية وحديث – مناع قطان-ص 104-105- ع4 و5 –م5/1376-1956.

(3) ديوان أبي نواس – تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي – ط1 – ص313.

(4) المرجع السابق – ص620.

(5) متفق عليه، ذكره النووي في رياض الصالحين ص17 – مطبعة الاستقامة – النص من كتيّب روائع القصص النبوي – المطبعة المصرية- أحمد قلاش ومحمد زينو.

(6) حضارة الإسلام – ع8- 1380/1961 – ص83 – باب الأدب والنقد.

(7) ديوان ابن زيدون – تحقيق محمد سيد الكيلاني – تراث العرب 2 – ط2 – ص65.

(8) المرجع قبل السابق – ص86.

(9) نفح الأزهار في منتخبات الأشعار – ص51-52. مطبعة كرم – دمشق.

(10) مختارات من الشعر الفارسي – د. محمد غنيمي هلال – الدار القومية –384هـ/1965م.

(11) المرجع السابق – ص449.

(12) منزل الأقنان – ط1 – ص36 – 37.

(13) مثنوي جلال الدين الرومي – ك2 – ترجمة د. محمد عبد السلام كفافي –ط1 –ص117-118.