التوراة.. المقدس والوقوع في مصيدة الانتحال
التوراة.. المقدس والوقوع في مصيدة الانتحال(مقارنة نصيّة)
يوسف يوسف
يزعم اليهود أنهم أصحاب ديانة توحيدية، وحجتهم في ذلك يستمدونها من التوراة التي يقولون أنها نزلت على النبيّ موسى، لكن ما الذي يدفع كاتباً ومفكراً يهودياً هو (إسرائيل شاحاك) إلى نفي هذه الصفة عن ديانة آبائه وأجداده؟ إنه في نفيه يطرح أمراً خطيراً للغاية، لا يقبل به غلاة اليهودية، ومكمن الخطر ليس بسبب تغريده خارج السرب، وإنما لأن ما يقوله تترتّب عليه عدّة قضايا،من بين أبرزها أنه ينزع عن التوراة ثوب قدسيتها.وفي خضم عملية التعرية هذه، التي تتوافق من جهة أخرى مع دعوات من يسمّون بـ (المؤرخين الإسرائيليين الجدد) يكون (شاحاك) بجرأته قد دعا إلى وضعه المقولة التوراتية برمّتها تحت عدسة المجهر، وإن اقتصر حديثه في كتابه المهم (التاريخ اليهودي -الديانة اليهودية) على جوانب محددة، وبصرف النظر عن كل ما يقوله هؤلاء المؤرخون، فإنّ مما يتوافق مع أغراض هذه الدراسة قول شاحاك:
"كما يعلم العديد من العلماء التوراتيين الآن، وما تكشف عنه قراءة (العهد القديم) بعناية، فإنّ هذا الرأي -كون اليهودية ديانة توحيدية- خاطئ تماماً، ففي معظم، إن لم يكن في كل أسفار (العهد القديم) فإنّ وجود قوة آلهة أخرى أمر معترف به بكل وضوح، ولكن (يهوه) هو أقوى الآلهة، وهو إله غيور جداً من منافسيه، ويمنعه شعبه من عبادتهم"(1).
بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك فيقول:
"وفق المعتقدات القبالية (الصوفية) اليهودية، فإنّ الكون ليس محكوماً من إله واحد، بل من آلهة عدة، مختلفة الصفات والقدرات(2)."
هذا يعني أننا مع ضرورة وضع التوراة أمام الاختبار، وإن كان مثل هذا الموقف سيغضب الكثير ممن يرفضون مناقشة المقدّس، لكن مما قد يخفف حدة هؤلاء أننا لسنا وحدنا من يضع التوراة في مثل هذا الموقف، إذ هناك غيرنا الكثيرون يقومون بالعمل نفسه، وبصرف النظر عن كل ما يمكن أن يقال، فإنّ الأهم أن يضع الواحد منّا أهواءه جانباً، ويتحصّن بالحيادية والنزاهة، ثم يبدأ المقارنة بين السرديات التي أنجزها الكنعانيون، وتلك التي أنجزها اليهود، دون أن تغيب من أمام ناظريه حقيقة أن الكنعانيين سبقوا اليهود في الظهور على مسرح الحياة في فلسطين، وأن ظهور اليهود فيها كان عابراً، ولأن من بين أهداف هذه الدراسة السعي لاسترداد التاريخ الفلسطيني الذي أسكتته الدراسات التوراتية، أو حوّلته إلى مفردة (إسرائيلية) بحسب تعبير (كيث وايتلام).
دعونا نواصل المهمة من المنظور الذي يقارن بين السرديات ما دامت لها حروبها الخاصة هي الأخرى، شأن غيرها من الأدوات التي يبتكرها الإنسان.
تقول بديعة أمين: إنّ ما حصل بالنسبة لموضوع كتابة جزء من التوراة لا يستهان به، كان ببساطة عملية اقتباس، وقد لا يكون ثمة مبرر للتردد بوصفها بأنها كانت أقرب (للسرقة الأدبية) منها لما يعنيه مفهوم (الاقتباس) من حيث أن الربانيين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تدوين العهد القديم، نسبوا لتوراتهم ما أخذوه من آداب وفنون المنطقة(3).
ومثل هذا القول يدعونا للتأمل، خصوصاً أنه يأتي من باحثة في الشؤون الأدبية والفكرية الصهيونية، ثم إنه يذهب بعيداً في مناقشة المقدّس المزعوم، لكنها ليست وحدها من يضع التوراة في قفص الاتهام، لمحاكمتها، وإن كان القرآن الكريم قد سبق الجميع في هذه المسألة (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون)(4).فهل نحن بصدد الحديث عن (سرقة أدبية) أم (انتحال أدبي) أم (تلاص)؟ سمّه ما شئت حتى لو قلت عنه أنه (تناص أدبي) لكن ثمة فارق كبير، وأنت لا تجهل هذا، بين مصطلحي (التلاص) و (التناص) وأظن أن الأمر لا يفوت على عاقل، فالأول واضح المعالم، والدلالة، وقد اتخذ شكله ومعناه من مفردة (اللصوصية).وأما الثاني الذي قد لا يرفضه البعض، ويقدّمون المسوغات له، فإنه من وجهة نظرنا، خصوصاً في حالة الحديث عن كتاب سماوي، فإنه غير ممكن الوقوع، أي أننا نميل إلى الافتراض بأن المقدّس السماوي عصيّ على الوقوع في مصيدة أي واحد من هذه المصطلحات، فكيف تقع التوراة في المصيدة، وهي كما يزعم اليهود كتابهم السماوي المقدّس؟ هذا يجعلنا نفرّق بين كتابين: أحدهما سماوي نزل على موسى، والثاني وضعي كتبه أحبار اليهود، وهو الذي نقصده في هذه المقارنة.مثال عرضي، سريع، ولكنه يلقي الضوء على طبيعة هذه المقارنة وأهدافها، المثال مقتبس مما في نصّ (اللآلئ)(5) ومما في التوراة، وللقارئ أن يخرج بالاستنتاج الذي يراه: يقول نصّ اللآلئ:
- سخرت الآلهة من دروب الخمر
- وسخرت الآلهات من مسالك الخمر
- عوضاً عن تناول الغداء إنه يحتسي الخمر
- احتسِ الخمر إذن إن كنت متعباً (اللآلئ 63).
ويقول سفر أشعيا:
(ولكن هؤلاء أيضاً ضلوا بالخمر، وتاهوا بالمسكر، الكاهن والنبيّ ترنّحا بالمسكر، ابتلعتهما الخمر، تاها من المسكر (أشعيا 28/7).
ويقول نصّ (اللآلئ) أيضاً:
"دعه يحيا لأني أنا، أحبّ الشعب الذي صنعته
"وأغذي بالخبز الشعب الذي وهبته الحياة
"وبالخمر الشعب الذي أحييه (اللآلئ 100)
ويقول سفر أشعيا:
(صراخ على الخمر في الأزقة، غَرُب كلُّ فرح. انتفى سرور الأرض) (أشعيا 24/11).
إننا نلاحظ (تلاصاً) في التحريم، وحتى فإننا نلاحظ (التلاص) في استخدام التكرار. وإذا ما أردنا التوسع في الأمر، يمكننا القول: إن التوراة وجدت في نص (اللآلئ) مرتعاً خصباً، ظل كتبتها يقتاتون منه، مثلما اقتاتوا من مراعي الآخرين إبان تلك الأزمنة. يقول ناجح المعموري: ولا يكاد سفر من أسفار التوراة، يخلو من (التناص)، مع الأنظمة الفكرية والدينية في حضارات الشرق المعروفة، والتي (تحاورت) مع الخطاب التوراتي الذي مارس عملية السطو والانتحال والاستبدال. (6) فإذا كانت أسفار التثنية ويشوع وأشعيا والمزامير قد انفتحت انفتاحاً واسعاً على الحضارة الكنعانية، فإن أسفاراً أخرى غيرها انفتحت على الحضارة المصرية، كما انفتح سفر التكوين خصوصاً على الحضارة الرافيدينية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا عن حدود هذا الانفتاح، وهل استطاع اليهود تكوين نصهم الخاص؟
وإذا أردنا تقديم إجابة دقيقة، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الثقافات والحضارات والديانات، التي نمت وترعرعت هي الأخرى في البلدان المجاورة لفلسطين، وكذلك ثقافة وحضارة وديانة الكنعانيين، وأخذها بنظر الاعتبار كذلك. إذ بدون هذا كله، فإن معرفتنا بالديانة اليهودية، ستظل قاصرة، وسنظل عاجزين عن اكتشاف ما أخذه اللص، من مدونات ونصوص... إلخ، وهذا مما يوقع في الإرباك، ويحول دون معرفة ما يحاك ضد كنعان، أرضاً وإنساناً. أما إذا وصلنا إلى الحال التي تمكننا من معرفة كل ذلك، فإننا سنظفر بالنتيجة التي تقول: إن إسرائيل القديمة فرية كبيرة، والحقيقة التي فيها ليست أفضل من القول أن التوراة التي بين أيدينا هي توراة موسى.
عند تحليل شخصية اليهودي، نرى أنها تعاني مما يمكن أن نطلق عليه عنصر النقص. ويتمثل هذا النقص في حالة النظر إلى منظومة الذات، أن اليهودي يرى نفسه دون الآخرين، ومن هنا نشأت لديه أحاسيس الذلة والمسكنة وحتى الدونية. لنتوقف هنا أمام الآية القرآنية التي تقول: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. قال إنكم قوم تجهلون)(7).
وخلاصة القول: إن اليهود- وهذه هي حالهم في مختلف الأزمان- ظلوا ينظرون إلى من يجاورهم بمنطق الحسد تارة، ومحاولة التشبه بهم تارة أخرى. وقصصهم في تقصي آثار من كانوا حولهم لا تعد ولا تحصى. ومن هنا ظهر (التلاص) الذي نتحدث عنه، وبدا ذلك واضحاً في سطوهم على قصص الأخوين قابيل وهابيل، وولادة سرجون، وكذلك أساطير تحريم الخنزير، والسنوات السبع العجاف المعروفة في تراث وادي الرافدين (8).
ولكن من المهم التنبيه، إلى أنهم في مجمل الأحوال، ظلوا ميالين إلى السطو على تراث الآخرين، وتحريفه لإيجاد نظامهم الخاص، الذي لم يستطع التخلص من الآثار التي تشهد على سوء سلوكهم. وإلى هذا يقول المعموري: ونصوص التوراة توحي بما لا يقبل الشك أو الجدل، إلى مراكزها الحضارية الحقيقية، إن كانت عراقية قديمة، أو كنعانية أو مصرية (9). أي أن سلطة النص الأصلي ظلت هي الأقوى، بحيث يمكن القول، أن الخطاب التوارتي ليس له من الخصوصية غير التسمية، وأما الهيمنة فقد بقيت للنص المعتق كما يسميه المعموري.
ومن ذلك على سبيل المثال، ما يأتي في ملحمة دانيال الأوغاريتيه وما يرد لاحقاً في التوراة عن قصة زيارة (يهوه) لإبراهيم وبشارته له بغلام. ويقدم فراس السواح (10) تحليلاً بنائياً يظهر لنا اتفاق القصتين في جميع العناصر المكونة لهما، وإن ظهر بعض الخلاف البسيط لغرض التمويه الفني، في ترتيب الأحداث، وهو ما سيظهر للقارئ بوضوح وكما يلي:
يقول النص الأوغاريتي: دانيال يجلس عند بوابة المدينة يقضي بين الناس/ دانيال يرفع بصره ويرى الإله كوثر- حاسيس عن بعد/ دانيال ينادي زوجته ويعطيها التعليمات بخصوص إكرام الضيف ثم يستقبل كوثر- حاسيس ويستلم منه القوس هدية للإلهة أقهات/ دنتيه زوجة دانيال تجهز خروفاً لإطعام ضيفها/ بعد أن يفرغ الضيف الإلهي، يعطي دانيال القوس، ويأخذ عليه عهد كوثر- حاسيس بأن يقدم بواكير صيده للمعبد.
ويقول النص التوراتي: إبراهيم يجلس عند باب خيمته قرب مدينة حبرون/ إبراهيم يرفع بصره ويرى يهوه ومعه اثنان من حاشيته/ إبراهيم يركض من باب خيمته لاستقبال القادمين ويعرض ضيافته التي تلقى القبول. ثم يعطي تعليماته لزوجته بخصوص إكرام الضيوف/ سارة تعجن خبزاً، والخادم يجهز عجلا لإطعام الضيوف.
بعد أن يفرغ الضيوف الإلهيون، يعطي يهوه وعداً بولادة وريث لإبراهيم.
إن ما يكتسب أهمية عظمى في هذا الصدد- التلاص، هو أن التوراة لم تكن إبداعاً يهودياً صرفاً كما هو شائع، ولا تعبيراً عن عبقرية أصيلة، وإنما كان القسم الأعظم منها مستمداً كما أثبتت الاكتشافات والبحوث الآثارية الأخيرة، من آداب الشعوب (الشرق الأوسط) ومن تراثها الديني(11). وإلى صحة هذا الاستنتاج، تمكن المقارنة بين بدء الخليقة كما نراها في الأسطورة الرافدينية (انيوماايليش) وبين ما يقوله سفر التكوين عن بدئها. فالتطابق يبدو كاملاً حتى على مستوى التعبير الشكلي واللغوي. والأمر نفسه نكتشفه عند المقارنة بين قصة ولادة سرجون الأكدي وموسى. ويأخذ الدكتور أحمد سوسه عن غوستاف لوبون قوله: لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة، ولا أي شيء تقوم به حضارة. واليهود لم يأتوا قط، بأي مساعدة مهما صغرت في إشادة المعارف البشرية، كما أنهم لم يجاوزوا قط الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ(12)، أو كما يقول كمال الصليبي: وما هذه الأسفار إلا مجموعات من الأقاصيص الصادرة أصلاً عن تقاليد مختلفة، ربما كان بعضها مكتوباً وقد تم جمعها وتنسيقها في وقت متأخر نسبياً، وأضيف إليها ما أضيف، فصارت تشكل جزءاً لا يتجزأ من تصور بني إسرائيل لبدايتهم التاريخية(13). إنهم على سبيل المثال، تأثروا بالعلم البابلي، وتقدم الفلك، وقد كان لذلك الأثر الواضح على العقيدة اليهودية، إذ مع ذلك، قسمت السنة اليهودية ولأول مرة إلى أعياد الفصح والحصاد والمظال، بعد أن كان البابليون قد سبقوهم إلى هذا التقسيم، مثلما سبقوهم في عقيدة حفظ يوم السبت أيضاً.
وقد يسأل القارئ بعد هذا، ما الذي تقصده بالربط بين التوراة وخوذة كنعان؟ الأمر واضح كما نظن، إذ أن السطو اليهودي على تراث الأقوام التي جاورت الكنعانيين، يقابله سطو على تراث الكنعانيين، يصل إلى حد محاولة الاستنساخ الكامل لنصوصهم ومدوناتهم وحضارتهم. ففي القراءة النصية المقارنة بين الخطابين: الخطاب الكنعاني والخطاب التوراتي اليهودي. يمكن أن نشاهد العديد من حالات (التلاص) الذي قد يصل حد التطابق اللفظي والدلالي. وقبل هذا، فقد أخذت التوراة عن الكنعانيين فكرة الإله المحتجب، وتعدد الآلهة، وتجسيم الإله وتجسيده كالبشر، وفكرة الإله المحارب، ونزوله إلى الأرض وسط الناس، كما أخذت عنهم فكرة الشعب المختار، وضرورة المحافظة على العرق والسلالة، وآمنت بفكرة وجود جبل للرب وبيت. بل إنها أخذت عنهم طقوسهم الدينية مثل التطهر بالاغتسال، واستخدام البوق، وتقديم القرابين، وعملية المسح، وتقديم الذهب للمعبد، والتضرع بالصراخ.
ومما يراه فراس السواح أن ديانة يهوه التوراتية تطورت ضمن المؤسسة الدينية الكنعانية(14). وإذا ما أردنا اختبار صحة هذا الطرح، علينا أن نلاحظ التالي في عبادة اليهود بحسب ما تقدمها التوراة نفسها:
1- في المرحلة الأولى- مرحلة إبراهيم وإسحق ويعقوب(15)، نرى أنهم وجدوا في (أيل الكنعانيين) الرب الذي يمكنهم التوجه إليه (وأخرج ملكي صادق ملك شليم خبزاً وخمراً لأنه كان كاهناً لله العلي (أيل الكنعانيين) وباركه وقال مبارك أبرام من الله العلي مالك السموات والأرض (التكوين 14/18- 19)، (فاستيقظ يعقوب من نومه وقال إن الرب لقي هذا الموضع، ما هذا إلا بيت الله هذا باب السماء. ثم بكر يعقوب في الغداة وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه نصباً صب على رأسه دهناً، وسمَّى ذلك الموضع بيت أيل) (التكوين 28/ 16-19).
2- في المرحلة الثانية التي تبدأ مع موسى، نرى أنهم في الغالب رفضوا إله موسى، وبدأوا يبحثون عن إله آخر وعلى طريقة الكنعانيين. وبعد أن قيل لهم (ولا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم) (تثنية6/4)، فإنهم عمدوا إلى (ففعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم. وتركوا الرب إله آبائهم الذين حولهم وسجدوا لها وأسخطوا الرب، وتركوا الرب وعبدوا البعل والعشتاروت) (القضاة 2/ 11-13).
3- في المرحلة الثالثة، ظهر (يهوه) كإله قبلي، خاص باليهود، لكنه لم يظهر بمعزل عن تأثير الديانة المجاورة- الكنعانية. فهو (الرب صاحب الحروب الرب اسمه) (الخروج 15/3) الذي لم يقبل القرابين وعلى طريقة آلهة الكنعانيين (وهذه هي التقدمة التي تأخذونها منهم. ذهب وفضة ونحاس وسمنجوني وأرجوان وصبغ قرمز وبر وشعر معزى....إلخ) (الخروج 25/ 3-6).. إلخ من الصفات.
إن (يهوه) الرب اليهودي الأثني، عرف عدداً من الأقوام، أي تشكل في محيطهم الاجتماعي والديني والسياسي وحاز على عناصر من الآلهة العراقية والكنعانية. وإذا ما أردنا البحث عن فروق بين البعل الكنعاني، ويهوه اليهودي على سبيل المثال، فإن الأول بقي أقرب إلى الطبيعة، بصراعه وموته وقيامته في كل سنة، مع الفصول، بينما الثاني قد رفعه التشخيص التوراتي إلى المطلق- فاستوعب شخصية الإله أيل، إلى جانب شخصية البعل، فأصبح خالداً منتصراً أبدياً على الموت(16).
إن عملية التلاص هذه يمكن أن تعتبر من وجه آخر، وراثة قسرية لا مثيل لها. إذ الوارث المزعوم، يحل مكان الوارث صاحب الحق، فيأخذ منه ما تركه له أجداده وآباؤه. وهكذا فإن حدود (التلاص) تمتد لتشمل ما هو أبعد مما سبق، والأمثلة على ذلك عديدة، إن من حيث وراثة الطقوس كما أشرنا، أو حتى من خلال وراثة طريقة المعمار والبناء، وتحديداً المعابد. حتى إن إضفاء صفة الملوكية على الرب كما جاء في التوراة، مستعارة من التراث الأسطوري الكنعاني، حيث كان الإله (بعل) ملكاً في الوقت نفسه. ويرى أحمد سوسه أن المدونات الكنعانية التي عثر عليها في أوغاريت، كشفت بكل جلاء، أن أكثر ما دوَّنه اليهود في التوراة من القطع الأدبية من مزامير وأشعار وتراتيل ترجع إلى أصل كنعاني(17).
وثمة ما تجدر الإشارة إليه، هو أن التوراة عبر سفر يشوع على وجه التحديد، انفتحت انفتاحاً واسعاً على نص (اللآلئ)، فأخذت من (ايلي ميلكو) العديد من صياغاته حول أفعال الملك الكبير، في حروبه ضد الممالك الكنعانية، وألصقها مع تبديل طفيف بيشوع وهو يقود اليهود في حروبهم مع الكنعانيين.
إننا إذا ما قرأنا ما يرد هنا وهناك، وأجرينا المقارنة النصية، لابد أن نخرج بانطباع مفاده، أن عزرا قد وضع فوق رأسه خوذة (ميلكو) التي هي (خوذة كنعان)، الذي يتحدث النص عنه في أهم فصول حياته. ولنا أن نتساءل: إذا كانت التوراة التي بين أيدينا هي نفسها توراة موسى، فهل من المعقول أن (يتناص) الإلهي مع ما يكتبه البشر؟ ولأننا كنا قد استبعدنا هذا منذ البداية، فإنه لن تعترينا الدهشة إذا قلنا أن (التلاص) يصل إلى حد سرقة التعبير اللغوي. ولنقرأ ما يلي لنكتشف (التلاص) الذي نعنيه:
1- النص الكنعاني: فليمت ويبقى بعيداً/ ذلك الذي تركوه/ الخاطئ الذي لا ولد له/ ذلك الذي تركوه/ الخاطئ الذي لا ولد له/ فليرجم/ كما ترجم الكرمة/ ولترتبط بهم كما يربطون الكرمة التي تم تخليصها من الحجارة/ حجارة سدوم/ (من نص ولادة الالهة اللطيفة).
النص التوراتي المقابل: الرجل الذي لا ينجب عن قصد (تكوين 38/9) يموت طريداً بعيداً عن المجتمع/ يجب أن يرجم كما ترجم وتغطى بالحجارة/ الكرمة التي تنبت فيها شتلة سدوم (تثنية 34/12).
2- النص الكنعاني: قدم القرابين على الدوام/ والطيبون ستسمعهم، والقرار قرار الآلهة/ فليكن قرار سعادة وغفران/ قدم الذبائح (حرقاً) طلباً للمدد/ اذبح جدياً/ مع الحليب/ مع القشدة. (نص ولادة الالهة اللطيفة).
النص التوراتي المقابل: تقديم القرابين شهرياً واجب لازب (عدد 28/14) من أجل أن تقترن قرارات الآلهة بالسعادة والرحمة (مزامير 2/14) وبغية الحصول على العون/ يتوجب تقديم جدي وحليب الأحشاء/ الدهن والقشدة (قضاة 13/19).
3- النص الكنعاني: أيها الإله الساكن في الامتلاء/ حيث غرفك مملوءة بالدهون (اللآلئ 22).
النص التوراتي المقابل: لا تحتاج الآلهة إلى القرابين وحدها، منازلها ملأى بالدهن، وأفواهها شبعت (أشعيا 1/11).
4- النص الكنعاني: رفع عينيه وتوجه إلى العذراء عناة/ تلك ا لجميلة بين أخوات السيد/ المحبوبة مثل لآلئها/ ووقف على رجليه ثم ركع متضرعاً (اللآلئ 44)، وأيل مد يده المملوء بالحكمة/ من فم العذراء عناة/ فم أجمل الأخوات (اللآلئ 45).
النص التوراتي المقابل: الحكمة على أفواه النساء، يجب الدعاء والتضرع إلى الآلهة، من أجل تصبح شاههن وهي حلوة كالرمان (مزامير 128/3).
5- النص الكنعاني: ابتهل إلى الآلهة المحسنة/ وإلى المسيئة أيضاً/ هي التي تهب المدن/ إلى أولئك الذين يصعدون/ في الصحراء (ولادة الإلهة اللطيفة).
النص التوراتي المقابل: توجه الصلوات إلى الآلهة المحسنين (مزامير 125/3) وإلى المسيئين أيضاً (تثنية 6/10) ذلك أن الآلهة هي التي أعطت المدن إلى الشعب الأبدي، الذي جاء من الصحراء (تثنية 6/10).
6- النص الكنعاني: وبغطرسة غسل بيديه البيت/ من آثار الإذلال/ دم شمرون الذي أهرقه/ وبأصابعه غسل السرية الأجنبية/ غسل يديها من دم شمرون (اللآلئ 18).
النص التوراتي المقابل: أيديكم ملآنة دماً اغتسلوا (إشعيا 1/15) ولذلك على الزانية أن تغتسل كما يقول يهوه (الملوك 22/ 37-38).
7- النص الكنعاني: ونحو مصائبك لا تدير وجهها/ مصر القاسية/ إنهم باللعنات دمروا كريت/ حجبوا مساكنها بقوى سماوية (اللآلئ 23).
النص التوراتي المقابل: فيصير لكم حصن مصر فرعون خجلاً، والاحتماء بظل مصر خزياً (أشعيا 30/3) فإن مصر تعين باطلاً، وعبثاً لذلك دعوتها رهب الجلوس (أشعيا 31/1).
تلك بعض الصور و الاقتباسات، وسيدرك القارئ، أن جهداً محدوداً لا يمكنه الإلمام بجميع جوانب الموضوع. لكن مما يجب الانتباه إليه، أن السرديات التي تقدمها الثقافات المسيطرة، تسكت في الغالب، كما أشار وايتلام، السرديات الأخرى لأقوام موجودة في المكان نفسه، وتحرمها من صوت مسموع، لفترة من الزمن قد تطول أو تقصر.
وقد يقول قائل هنا: وما شأننا اليوم بكل ما مضى! إن سؤالاً كهذا فيه قدر كبير من السذاجة كما نظن، ذلك لأن الصراع حول الماضي، إنما هو دائماً صراع من أجل الهيمنة والسيطرة في الحاضر(18). لقد حاولت الدراسات التوراتية مثلاً، أن تستبعد الكنعانيين من تاريخ الفترة التي يغطيها نص (اللآلئ)، وهي الفترة نفسها التي يتم اختلاق جزء من تاريخ إسرائيل خلالها، بحثاً عن الحق في الأرض، تحت مسميات عديدة، من بينها تلك المرتبطة بالرسالة الإلهية، والوعد الإلهي (اليهوي).
للملاحظة آنفاً يتراجع السؤال، ويصبح من شأن الباحث النزيه، أن يحاول إعادة تشكيل التاريخ من جديد، فيمنح الكنعانيين حقهم في إبراز ما قدموه، وتمثيل أنفسهم في زمان ومكان محددين يتعرضان للسطو المبرمج. فالذين ينظرون إلى الديانة الكنعانية باعتبارها ديانة بدائية، مخطئون، والأدلة التي سبقت الإشارة إليها تكفي للرد على هؤلاء. إنها الأدلة التي تبين كيف وضع كتبة التوراة، خوذة كنعان فوق توراتهم، أو فوق رؤوسهم، إذ ليس ثمة فرق في ذلك.
هوامش:
1- إسرائيل شاحاك/ التاريخ اليهودي- الديانة اليهودية/ ترجمة صالح علي سوداح/ بيسان للنشر والتوزيع/ بيروت 1995 ص53.
2- شاحاك/ نفسه/ ص54.
3- بديعة أمين/ مواقف في الفكر والثقافة/ دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد 2001/ ص 99.
4- سورة البقرة/ 79.
5- إيلي مياكو/ اللآلئ (من الأدب الأوغاريتي/ ترجمة مفيد عرنوق/ منشورات مجلة الفكر/ بيروت 1980.
6- ناجح المعموري/ الأسطورة والتوراة/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت 2002/ ص42.
7- سورة الأعراف/ 138.
8- بديعة أمين/ مواقف في الفكر والثقافة/ الصفحات ،111،110 ،112 114،113.
9- ناجح المعموري/ المرجع نفسه/ ص44.
10- انظر/ فراس السواح/ أرام دمشق وإسرائيل/ منشورات دار علاء الدين/ دمشق 1995/ ص45.
11- بديعة أمين/ الأسس الجيولوجية للأدب الصهيوني/ دار الشؤون الثقافية العامة/ بغداد/ 1989 ص25.
12- د. أحمد سوسه/ مفصل العرب و اليهود في التاريخ/ دار البشير للنشر/ بغداد 1989 ص467.
13- د. كمال الصليبي/ خفايا التوراة/ دار الساقي/ لندن 1991/ ص13.
14- فراس السواح/ تاريخ أورشليم/ دار علاء الدين/ دمشق 2001/ ص133.
15- لا نتفق مع التوراة في رد أصول اليهود إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب.
16- يوسف الحوراني/ البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم/ دار النهار للنشر/ بيروت 1978/ ص 318.
17- د. أحمد سوسه/ المفصل/ ص459.
18- كيت وايتلام/ اختلاف إسرائيل القديمة/ ترجمة د. سحر الهنيدي/ سلسلة عالم المعرفة/ الكويت/249/ 1999/ ص130.