دراسة تطبيقية على السين وسوف في القرآن الكريم
مشكلة زيادة المبنى
ودلالتها على زيادة المعنى
دراسة تطبيقية على
السين وسوف في القرآن الكريم
محمد ذنون يونس
جامعة الموصل – كلية الآداب
قسم اللغة العربية
يشيع في الدرس اللغوي القديم جمع من الأسس العامة والخاصة وضعها لغويون عانوا المادة المستقراة درساً وتحليلاً وبناءً، محاولين من ذلك الضبط للمفردات ومدلولاتها، حاصرين لها ضمن فكرة موحدة جامعة، ومن تلك الأسس العامة ظاهرة سميت بـ "زيادة المبنى ودلالتها على زيادة المعنى" وقد تذوقها اللغويون الأوائل في جمعهم لكلام العرب، وفسرها بعض المنظرين من بعدهم بتفسيرات لا تزال –في ظني- محتاجة إلى ضبط مواردها، وحصر صورها، لأن كثيراً مما لا يدخل تحت هذا الأساس، قد يعد –وهماً- منها، ولذا فيحتاج الأمر إلى نظرية ترصد الصور المتعددة والمختلفة، ثم تبني القواعد المتحكمة في إدخال وإخراج غيره.
أقول هذا بعد مداخلات عميقة مع تآليف القوم الذين كانوا يختلفون في بعض الصور اللغوية، ونشأ هذا الخلاف لذلك الاحتياج النظري السالف، ومن ثم شك بعضهم في اطراد هذا الأساس، إذ واجهته أمثلة ظنها داخلة في الأساس العام، لكنه لم ير زيادة في المعنى.
وبيان ذلك اختصاراً: أن سيبويه (ت 180هـ) يجعل زيادة المبنى في الضرورات الشعرية روما لوجه ما، يقول: "وليس شيء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهاً"(1)، على حين لم يعلل ابن جني ورود (مساجيد) بدلاً من (مساجد)، و (تنقاد الصياريف) بدلاً من (صيارف) وفقاً لذلك التصور، بل رآه في باب (مضارعة الحروف للحركات) إنه احتياج الشاعر إلى إقامة الوزن، فيمطل الحركة لينشئ حرفاً من جنسها(2). من دون تعرض لأي أثر معنوي أفادته الزيادة اللفظية، وقد نحكم لعدم وجود النظرية السالفة بدخول الخارج، في باب عقده ابن جني وسماه: "تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية" فقد نتسارع إلى الحكم بذلك عندما نسمع بنحو (رخو) و (رخود) لنقول: إن زيادة المبنى دلّت على زيادة المعنى، بعد علمنا بأن الأول بمعنى: الضعف، والثاني بمعنى: التثني العائد إليه، فهو ضعف مع لازم من لوازمه، وتولد هذا اللازم نتيجة زيادة المبنى، فلو قبلنا صورة كهذه داخلة في الأساس العام لتحولت كل اللوازم المعنوية بين الأبواب المشتقة والجامدة إلى هذه القاعدة فيموت عنصر مهم في مفهوم القاعدة، ألا وهو التنظيم بين الصور المختلفة وكيف يحصل؟! مع كل هذه الأمثلة الملأى بالاختلافات غير المتناهية، فبإهمال الفرق بين الأصل الاشتقاقي للكلمتين السالفتين وإعطاء الأهمية للجانب المعنوي المبني على أسس غير بنيوية يقع الكثير من التداخل في هذه القاعدة العريضة، فرخو أصولها: ر، خ، و، بينما (رخود) أصولها ر، خ، د، فكل ما في الأمر أنه اتفق التقارب الدلالي من غير اتفاق كامل في الأصول المشتقة منها، وهو شرط أساسي للدخول في فهم هذا الأساس ولذا قال ابن جني: "فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به"(3)، وكما يشترط اتفاق الأصول فليشترط عدم الاعتداد باللوازم العقلية من الألفاظ، فكلمة (تمييز) تدل على حالة التبيين، وهي تستلزم وجود المميز والمميز لزوماً عقلياً، بينما كلمة (مميز) لا تستدعي إلا (المميز) فلا يدخل أيضاً تحت هذه القاعدة، مع تساوي البنى في كلتا الكلمتين، لأنه لزوم عقلي نشأ من دلالة المصدر واسم الفاعل ولم ينشأ من ذات الألفاظ، وكذا يقال عندما تنقص البنى مع عدم نقصان المعاني كما في كلمتي: إعطاء، وعطاء، فالأولى هي الحدث، والثانية هي المادة فقط، والقول بأن الأولى متكونة من حدث مع المادة، فنقول إن المادة لازمة للحدث لزوماً عقلياً، وكذا اسم المصدر لأن المادة تستلزم وجود الحدث كاستلزام الحدث للمادة، وإلا سمي العطاء باسم خاص به كالدنانير والذهب، فلما أراد المتكلم الإشارة إلى عنصر الحدث عدل عن خصوص المادة إلى ما فيه معنى الحدث وهو العطاء، ولذا قالوا: اسم المصدر يعمل كعمل المصدر، أي لوجود عنصر الحدث فيه.
وكالحالتين المستبعدتين حالات التفرقة بين الفئات النحوية، فحروف (أنيت) المضافة إلى الماضي وقعت للتفرقة، وليست لزيادة المعنى، لأن الماضي بمجرد الزيادة اختفى دلالياً والحدث باق على هيئته الأولى، ومثله زيادة التثنية والجمع، إذ لا فرق بين الألف والنون والواو والنون في تثنية (زيد) وهنا نتساءل: لو أن الواضع قد خص الجمع بثلاث زيادات، هل كنا سنقول بدخول هذه الصورة في ذلك الأساس؟ وبعبارة أخرى: لما أضفنا حرفين حصلت التثنية ولما أضفنا ثلاثة أحرف حصلت الجمعية لقاعدة المبنى ودلالتها على زيادة المعنى والتثنية أكثر معنى من المفرد وكذا الجمع أكثر من كليهما، بهذا الفهم عبر عبد الحكيم السيالكوتي وأراد إقناعنا به(4)، ولكنه تناسى أن زيادة المعنى في القاعدة المذكورة ليست أية زيادة، وإنما الزيادة على معنى المادة الاشتقاقية، فزيد بمعنى الزيادة لم يزد عليها شيء في التثنية والجمع، فالزيادة على حالها في (الزيدان) و (الزيدون) أما انقلاب المفرد إلى التثنية والجمع فكانقلاب الماضي إلى مضارع، فالتوجيه السالف يعمم ليشمل الماصدق، وبهذا التعميم لا نقدر على التفرقة بين حالة التثنية والجمع لكون زيادتهما واحدة، والمطرد في المعنى أدخل في القاعدة من غير المطرد، ولأن لفظاً واحداً باعتبار الماصدق خاص وباعتبار الماصدقات الواحدة عام وهو باق على كونه لفظاً واحداً، فإدخال الماصدق في القاعدة محدث للوهن فيها، ولأنه لا دليل على الواحد في بعض الصور كما في (ذهب) بخلاف (زيد) فإنه دليل على الماصدق لكونه علماً فظهوره كاف في الدلالة بخلاف علم الفاعل في (ذهب)، وأخيراً لأن في الزيادة انتقالاً من الحدث إلى محدثه فلو اعتبرنا الماصدق في الفعل ننتقل من الذهاب إلى صاحبه، والذهاب واحد. فكذلك لا تعتبر الماصدق في (زيد، زيدان، زيدون).
سنكتفي بهذا القدر للاستدلال على عمق الدراسة واختلاف صورها وسياقاتها، لنشرع في مقصود الدراسة موضوعة البحث، ونقول:
يكاد النحويون يتفقون على أن (سوف) أكثر معنى من (السين) ويقصدون بالمعنى ههنا: الدلالة الزمنية، إذ لا معنى لهما غيره، يقول سيبويه: "وتقول سيفعل ذلك وسوف يفعل ذلك فتلحقها هذين الحرفين لمعنى، كما تلحق الألف واللام الأسماء للمعرفة"(5)، وبهذا التشبيه يكون هذان الحرفان قد وضعا للدلالة على الزمن، ولكن عند اقترانهما بالفعل الصالح لقبولهما، وكذلك الألف واللام فلا دلالة لهما على التعريف إلا عند سبكهما بالاسم القابل، وفائدة التسوية الأخرى أن الألف واللام تعرف مدخولهما للسامع، فكذلك السين وسوف، فعندما تدخلان على المضارع تخلصانه لزمن الاستقبال، فإذا كانت الألف واللام مؤدية لغرض تعريفي في الأسماء، فالسين وسوف تؤديان ذات الغرض في الأفعال المضارعة ولكن ضرر التشبيه كامن -إذ فهم على إطلاقه- في التسوية بين السين وسوف، ولم يرد لسيبويه نص في أن (سوف) أكثر معنى من (السين) سوى ما توحيه ظاهر عبارته من الترتيب الذكري بينهما، المسلتزم لعدم الترادف مع الانتقال من حالة كلامية إلى أخرى، المشعر –بخصوص المقام- بالزيادة المعنوية.
لقد اكتفى بذكر دلالتهما على التعريف الزمني للمضارع، لأن هذا الفعل موضوع لزمن الحال وآنات الاستقبال المتعددة، ولكن أغلب النحاة نصوا على الزيادة، وأظن أن هذا الإطلاق قد نشأ بمجيء ابن جني ت 392هـ، وكثرة ترداده لقضية زيادة المبنى، ويؤيد هذا الظن قول السيوطي ت 911هـ في الإتقان: سوف كالسين وأوسع زماناً منها عند البصريين، لأن كثرة الحروف تدل على كثرة المعنى، ومرادفة لها عند غيرهم(6)، فهذا النص إشارة إلى عدم وقوع الإجماع على الزيادة، والبصريون ههنا لا يعني قاطبتهم أبداً، وسر هذا الخلاف نظرهم في الآيات القرآنية التي وردت فيها هاتان الأداتان، فمن نظر إلى حالات الزيادة صرح بها، ومن نظر إلى حالات لا تؤيد الزيادة –كما سيأتي- صرح بالمرادفة، ويدخل في الشطر الأول من أرهق نفسه في بيان الآيات المشتملة على معنى أزيد، وإن كان ظاهرها يومئ بالمرادفة، ويؤيد هذا السؤال تعليل ابن مالك ت 672هـ للمرادفة بقوله: "ولأنهما قد استعملا في الوقت الواحد، قال تعالى في سورة النبأ {كلا سيعلمون، ثم كلا سيعلمون} وفي سورة التكاثر {كلا سوفَ تعلمون، ثم كلا سوفَ تعلمون} ثم يستدل بدليل عقلي على المرادفة ليقول: "إن الماضي والمستقبل متقابلان، والماضي لا يقصد به إلا مطلق المضي دون تعرض لقرب الزمان أو بعده، فكذا المستقبل ليجري المتقابلان على سنن واحد"(7) ولكن من يذهب إلى زيادة المعنى يقدر على نفي دليله، أما الأول فله أن يقول: لا نسلم أن السياق في السورتين واحد ففي (النبأ) كان الكلام في الغيبة لقوله تعالى: {عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون} والغيبة لا تستدعي حال الرد في المعنى، ومن نواتجها القرب الزماني المدلول عليه بالسين، أما السياق الآخر في قوله تعالى: {ألهكم التكاثر، حتى زرتمُ المقابر} فهو خطاب حقيقي أو متخيل، فيستدعي اللفظ عنفاً في الرد ومن نواتجه البعد الزمني تأكيداً لعدم حصول العلم في الزمن القريب. وأما الثاني فبالقول: نمنع أن الماضي لا يقصد به إلا مطلق المضي، بدليل اشتراطهم لوقوع خبر (أن) و(إن) المقرون باللام بوجود (قد) وممن نص على ذلك ابن مالك نفسه: لأن (قد) تقرب الماضي من الحال فأشبه حينئذ المضارع(8). إن موطن الخلل في صنيع ابن مالك وغيره يتمثل في الانتباه إلى السين وسوف مجردين عن سياقهما اللغوي التام من عناصر الخطاب والغيبة والمبني للمعلوم والمجهول وسائر المتعلقات الأخرى.
إنني لست مع الترادف، لأنه إهمال واضح لتغاير لفظي مقصود، كان له آثار واضحة على صعيد المعنى النصي والمعنى العام، وكذلك لست مع التعليلات الواهية في زيادة المعنى، والمنبثقة من ملاحظة أدنى اختلاف سياقي، لأن التسليم بهذا الأخير سيؤدي إلى تناقضات في التعليلات نمثل لها بهذا المثال: قال تعالى (وسوفَ يُؤتِ اللهُ المؤمنينَ أجراً عظيماً) النساء – آ: 146، و(فسَيُدخلُهم في رحمةٍ منه وفضلٍ) النساء – آ: 175، فكلاهما وعد للمؤمنين، وقد يلتمس البعض تعليلات للتفرقة، بأن النص الأول لأجر يوم القيامة، والثاني لأجر الدنيا، فلو قبل هذا التعليل فكيف نعلل قوله تعالى: (ومَن أَوفى بما عاهدَ عليهِ اللهُ فسيؤتيهِ أجراً عظيما) الفتح – آ: 10، فكان اللائق بالتعليل أن يكون التعبير ب (سوف)، وكذلك قوله تعالى (والذينَ آمنوا وعملوا الصالحاتِ سَنُدخلهُم جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ) النساء – آ: 122 وأما القول بأن (السين) حلت بدلاً من (سوف) للتقريب استعارة، فنورده على النص الأول: لم لم يقرب فيه؟ وتتعدد العلل وتكثر الأجوبة وتنهال الردود ولن نصل من جراء ذلك إلى حل نطمئن إليه بعض الاطمئنان، والحل كامن في النظرة الشاملة لجميع النصوص في سياقاتها المختلفة، دون ملاحظة الاختلافات السياقية بين نصين مجردين عن بيئتيهما اللغويتين.
لقد لفتت ظاهرة استعمال (السين وسوف) في القرآن الكريم انتباه كثير من العلماء محاولين وضع ضوابط معينة لاستخدامها، فقد حاول الزركشي ت 794هـ في البرهان تقديم تفرقة بينهما، تعمل على ضبط مجموعة كبيرة من الصور الواردة، فقد ذكر أن (السين) مع كونها حرف استقبال أنها تأتي للاستمرار(9)، كما في قوله تعالى (ستجدونَ آخرين يريدون أن يأمنوكم) النساء – آ: 91، وفي قوله تعالى (سيقولُ السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) البقرة – آ: 142، على حين أن (سوف) خالية من عنصر الاستمرارية، وبهذا الضابط يكون بيد الناظر معيار للقول بأن أي حالة استمرارية في لغة القرآن الكريم لا تقترن ب (سوف)، وهذا إن صح في صور كثيرة لكنه يبقى موطن شك بالنسبة لآيات أخرى، فقد ورد قوله تعالى ب- (سوف) مع الدلالة على الاستمرارية في: (ومنْ يفعلْ ذلك عدواناً وظلماً فسوفَ نُصليه نارا) النساء – آ: 30، و (ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاتِ اللهِ فسوفَ نُؤتيه أجراً عظيماً) النساء – آ: 113 وغيرهما، وبهذه التفرقة يكون من الصعب التسليم بها وبنتائجها ولذا ينقل لنا السيوطي أن ابن هشام الأنصاري رفض هذه الدلالة بقوله "وهذا لا يعرفه النحويون، بل الاستمرار مستفاد من المضارع والسين باقية على الاستقبال؛ إذ الاستمرار إنما يكون في المستقبل"(10)، فإذا كان هذا المعيار ذا مستوى آلي، فإن المعيار الذي يقدمه آخرون ذو مستوى دلالي، وملخصه: أن (سوف) تستعمل كثيراً في الوعيد وقد تستعمل في الوعد، وإن الأكثر في السين الوعد وقد تأتي للوعيد.
وهو معيار اغلبي كما هو المتبادر من عبارتهم، ولكنه يصطدم باستقراء النصوص فهناك آيات كثيرة ليس فيها وعد ولا وعيد – بهذا المفهوم ولنضرب أمثلة لها:
قال تعالى: (سيقولُ السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) البقرة – آ: 142 و (ولا جناح عليكم فيما عَّرضتم به من خطبةِ النساء أو أكننتم في أنفسكم علِم اللهُ أنكم ستذكرونَهَّن) البقرة – آ: 235، و (ستجدونَ آخرينَ يُريدونَ أن يأمنوكم ويأمنوا قومَهم) النساء- آ: 91 و (ومن قالَ سأُنزلُ مثلَ ما أنزل الله) الأنعام – آ: 93، (إنَّ الذين كفروا ينفقونَ أموالهم لِيصدوا عن سبيلِ اللهِ فسينفقونها ثُم تكون عليهم حسرة) الأنفال – آ: 36 وغيرها، وأي معيار هذا للضبط والخروج بالنتائج العلمية النافعة؟ ولا ننسى أن هناك مشكلتين في هذا الضابط:
الأولى: أن التفرقة قائمة على أساس مدخول السين وسوف، دون الأداتين بذاتيهما أي تفسير الظاهرة بما تقترن به، فإن كان المقترن بها فعلاً دالاً على الخير كانت السين أو سوف وعداً والعكس صحيح، وما قيمة هذا العمل؟ وما قيمة الأسلوب الأغلبي فيه؟ فلو أن القرآن غلب في لغته على الكثير، لأن القرآن ليس جامعاً للغة، لا نقلب المعيار وقد يتساءل البعض: كيف نفرق باعتبار ذاتيهما هما حرفان ليس لهما معنى بذاتهما، أقول: نعم، لكن التفرقة – في هذه الحالة- لا تنبعث من الجانب الدلالي وإنما من الوضع التركيبي الخاص في اللغة أو مراقبة أحوال الصور الواردة تركيباً، عندئذ يتسنى لنا أن ندرك المدلول الحقيقي للأداتين، فحروف المعاني لا تدرس باعتبار ما يتصلان به دلالياً لأنها دراسة مضللة، وإنما بكيفية تركيبهما تركيباً لا يمكن فيه الاستبدال فإذا فقهنا سر البناء اللغوي سهل علينا التحليل الدلالي، وعندئذ يتحدد لهما معنى بذاتهما لا معنى للذهول عنه والانصراف إلى المدخول فقط.
الثانية: ما معنى الوعد والوعيد؟ فإن كان مدلولهما مجرد وجدان الفعل دالا على الخير والشر، فهذا أمر فيه توقف، فكثير من الآيات – كما رأينا- خالية من هذين العنصرين، ولو عدلنا المعيار وقلنا: إن السين وسوف تأتيان لتوكيد الوعد دائماً سواء كان مدخولهما خيراً أم شراً أو غيرهما لكان أدق فقوله تعالى (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يومِ القيامةِ وسوفَ يُنبِّئهم الله بما كانوا يصنعون) المائدة – آ: 14 يشير إلى الوعيد إن فهمناه على أنه مجرد الدلالة على الشر؛ ولكنه إن فسر بالوعد بالملاقاة والإنباء لكان أكثر وضوحاً؛ ومثله قوله تعالى (قلْ يا قوم اعملوا على مكانتِكم إني عاملٌ فسوفَ تعلمونَ من تكون ُله عاقبةُ الدار)الأنعام – آ: 135، فهو وعد بالعلم وحصوله والمس هذا التعديل في قول سيبويه كما نقله الزركشي "ومثله قول سيبويه في قوله: (فسَيكفيكم الله) معنى السين: إن ذلك كائن لا محالة وإن تأخرت إلى حين"(11) فالتأخر إلى حين سواء كان خيراً أو شراً أو غيرهما بدخول السين يصير ذا طابع وعدي كما ندرك بهذا التعديل ضعف ما ذكره الزمخشري: "أفادت السين وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد، إذا قلت سأنتقم منك"(12) لأنه فهم الوعيد من الانتقام ودلالته المعجمية، على حين أن المدخول كان شراً، والسين عملت على مجرد الوعد بحصوله وتحققه، ومثله سأرحمك، فالزمخشري أشَّر فائدة السين في توكيد مدخولها وإن كان مشايعاً للآخرين في التقسيم المغلوط، وبهذا التصور نكون قد وقفنا على حقيقة الوظيفة التي تقدمها السين وسوف بذاتيهما عندما يتركبان مع الأفعال المضارعة من دون إغفال الأداتين والانتباه إلى ما بعدهما فحسب.
والاعتراض بأن الوعد –في لغة العرب- للخير والوعيد للشر فكيف نجمعهما في الوعد؟ اعتراض لا يرد على تعديلنا لأن الوعد نسبناه إلى السين دون المدخول لأن المدخول إذا لم يكن خيراً ولا شراً فإن السين تفيد الوعد بحصوله وتحققه، كما سيأتي.
وإنما قلت في التعديل (دائماً) رداً على ما ذكره الشيخ عبد الخالق عضيمة في رؤيته لبعض الآيات خالياً من عنصر الوعد والوعيد، لأنه شايعهم في تلك الرؤية، فرأى آيات خالية من ذلك –كما مثلنا له سابقاً- ولكن بعد التعديل تكون الآيات التي أوردت داخلة في معيارنا خارجة عن معياره، ومن ثم سيكون المعيار المعدل أكثر اطراداً وأقوى حجة وأعمق تأملاً، فالعربي عندما ينطق بـ "يقوم زيد" يكون مدلوله المطابقي مجرد الأخبار بالقيام ومثله: أرحَمك وأنتقم منك، فإذا ما قلت سيقوم وسأرحمك وسأنتقم منك فمدلوله الوعد مع التوكيد بحصول المدخول لا محالة في أحد أزمنة الاستقبال.
ذكرنا سابقاً (إرادة المجاز) وهو ما نهض به المفسرون في دلالة (السين وسوف) بأنهما يتبادلان الموقع، على سبيل الاستعارة التصريحية بجامع الاشتراك في الاستقبال الزماني، فالسين دالة على الزمن القريب، فإذا ما دلّت (سوف) عليه، نكون قد شبهنا (سوف) بالسين ثم حذفنا المشبه به والعكس صحيح.
بهذا البناء النقدي تصدى علماؤنا الأقدمون لدراسة هذه المشكلة، وحاول المفسرون إيجاد تأويلات مختلفة لتعليل الخروج عن الأصل في كل من الأداتين، وهم في ذلك منبثقون من التسليم بأن زيادة المبنى تحدث زيادة في المعنى، ومن أولئك أبو حيان الأندلسي ت (754هـ) في (بحره) فقد توقف على مجموعة من الصور تدعو للتساؤل عن كيفية الاستبدال وأسبابه، فعلّق على الآيتين المتواليتين في سورة النساء {إنَّ الذين كفروا بآياتنا سوفَ نُصليهم ناراً كلَّما نضجت.. والذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ سنُدخلهم جنات..} بما يأتي: "جاءت جملة الكفار مؤكدة بـ (إن) على سبيل تحقيق الوعيد ولم تحتج إلى ذلك في جملة المؤمنين، وأتى فيها بالسين المشعرة بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمنين وتبشيرهم به"(13) لأن السين وقعت في غير الاستقبال القريب، وهي مساوية في حدثها لزمن حدث الإصلاء في النار فاتكأ على أسلوب المجاز دفعاً للتساؤل المتقدم.
وهنا يبدر تساؤل مشروع: لِمَ لم تحارب نفسيات الكفار بإشعارهم بقرب العذاب؟ وتساؤل آخر: لو أن النص قد ورد بعكس الاستخدام، فماذا نتصور أن يقول أبو حيان في ذلك، ولا ننسى محاكمته التأويلية هذه، فقد خالف ما اتفق عليه النجاة من أن السين وسوف تؤكدان المدخول، فكلتا الجملتين مؤكدتان، وكذلك التأكيد بالحرف المشبه بالفعل لأن هذا الحرف مقدر بعد (واو) العطف، فما ذكره محل نظر كبير.
ويتوقف كذلك على ذات الظاهرة، وليته التزم بمعياره التأويلي السالف فقد استحدث معياراً خارجاً عن النص جملة وتفصيلاً، وهو لا يعني القواعديين الذين يبحثون عن أسرار البناء اللغوي باعتباره نظاماً معقداً من الوسائل التعبيرية يقول معلقاً على قوله تعالى في سورة الأنعام {فقد كذَّبوا بالحقّ لمّا جاءكم فسوفَ يأتيهم أنباؤ ما كانوا يستهزؤن} وعلى قوله تعالى في سورة الشعراء {فقد كذَّبوا فسيأتيهم أنباؤ ما كانوا به يستهزؤن} الأنعام متقدمة نزولاً فاستكمل اللفظ وحذف في الثاني للاختصار والإحالة على الأول(14)، ولو قبل هذا التأويل فكيف يستطيع أو يؤول الآيات التي استكملت اللفظ وهي متأخرة نزولاً، واختصرته وهي متقدمة عليها، فقوله تعالى في سورة النساء، وهي مدنية {سوفَ نُصليهم ناراً} أتى مستكملاً للفظ، مع أن قوله تعالى في سورة المدثر، وهي مكيّة {سأُصليه سقر} جاءت مختصرة، بل هناك في داخل السورة الواحدة يأتي اللفظ مستكملاً ومختصراً، فكيف نؤول مثل هذا؟
نعود بعد هذه الجولة النقدية لنتكلم بشيء من المنطق في هذه المشكلة اللغوية، فما العلاقة بين الحقائق الخارجية الداخلة تحت هذا الأساس منطقياً؟
لما كانت الألفاظ أدلة المعاني والمعاني صادقة على حقائق موجودة أو اعتبارية فإذا ما زيد في الألفاظ ألفاظ زادت المعاني ومن ثم دخلت حقائق أخرى فيه لم تكن داخلة في الأصل، أي دخلت مع دخول الأصل وعدم خروجه، ومن ثم فالعلاقة المنطقية هي العموم والخصوص المطلق، ولندع الجرجاني ت 472هـ يمثل لذلك: "تقول ندم زيد ولم ينفعه الندم، أي عقيب الندم، ولا يلزم استمرار عدم النفع من الماضي إلى وقت الإخبار، ونقول" ندم زيد ولما ينفعه الندم.. ولزم لما استمرار عدم النفع من الماضي إلى وقت الإخبار"(15) فلما شاملة لآنات الزمن الداخل في مفهوم (لم) مع شيء أزيد، والذي ينبغي أن يعلم هو عدم اشتراط دلالة العام على ما يدل عليه الخاص –إلا عند إرادة المجاز- وإلا لانتفت علاقة العموم والخصوص، وإنما التفتنا إلى هذه المسألة المنطقية لنقطع شك من يشك في زيادة المعنى بخصوص (سوف) بأنها دالة على الزمن البعيد، و (السين) دالة على الزمن القريب، فلا يتلاقيان في موضوع ما، ومن ثم فالعلاقة تكون تبايناً، فلا معنى لقولنا: زيادة المبنى دالة على زيادة المعنى.
لقد توضحت المشكلة، وبانت طريقة التحليل التجزيئية عند الدارسين المتقدمين والذي اضطرهم إلى ذلك معالجة النص القرآني معالجة كاملة، لم تتح لهم متسعاً من الوقت ليتحروا في أصول ما يقولون في كثير من المواقف، ولكن ابن هشام الأنصاري ت 761هـ كان ينظر إلى هذه المشكلة وهو يجمع الآيات في المعنى نظرة خاصة، عبر عنها عندما نقل قول بعضهم بخصوص الاستقبال الأزيد في (سوف) بقوله: وليس بمطرد(16). هذه المقولة دعت الباحث إلى إعادة النظرة في الآيات التي وردت فيها هاتان الأداتان، وانطلاقاً من فهم عبد القاهر الجرجاني الذي طالما نبّه في دلائله على قضية استدعاء بعض الألفاظ لبعض، واقتضاء كلمة لأخرى دون ما عداها وتمازج تركيب مع تركيب دون ما سواه، بحيث لو استبدلنا لفظاً من السلسلة بمرادفه لكان نشازاً لا يقبله العربي الناطق الفصيح، يقول: "وليس النظم ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق، ولذلك كان عندهم نظيراً للنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هناك، وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح"(17) فوضع السين وسوف كان لتركيب بنائي محكم، لو استبدلنا أحدهما مكان الآخر لاختلفت البنية العرفية التي اتفق عليها الناطقون، ومن ثم اختلفت دلالتها الخاضعة لقانون التركيب القواعدي، والنحاة لم يتعرضوا إلى أكثر من دخولها على الفعل المضارع، ولكن متى تدخل؟ وما يعقبها من أفعال؟ وما نوعية التراكيب اللاحقة لها؟ وأي الأفعال التي يتقدمها وتعطف عليه؟ كل هذا كان مهملاً وهم يضعون قواعد السين وسوف، ولا يجب أن نتناسى المقتضيات البنائية الداعية لكل من الأداتين فنحرم أنفسنا متعة الفهم الدقيق لتوزيع الأداتين في القرآن توزيعاً منظماتً بالغ الأهمية.
وبعد استخراج القواعد التركيبية ينبغي العمل على تحليلها للوصول إلى دلالاتها الضمنية، التي ستعطينا تأييداً لمشكلة: "زيادة المبنى ودلالتها على زيادة المعنى" ونثبت من بعدها أن هذه القواعد كانت مرتبطة بقضيتي الاستقبال القريب والاستقبال البعيد، وآن الأوان لذكر هذه القواعد التركيبية التي يتم فيها توزيع هاتين الأداتين:
1 – الابتداء: ونقصد به إرادة التعبير في بداية الخطاب، ولا يؤتى في هذا الموقف إلا بالسين، وذلك أنها لما دلت على الزمن القريب، وكان المتكلم يحرص على إثبات فعله اللغوي وأن حصوله قوي إلى درجة أنه قريب الوقوع، لم يعبر بسوف الدالة على تراخي الحدث في آنات الزمن البعيد، ومن ثم فلن يخدم الابتداء بها غرض المتكلم الذي يريد، وأي متكلم يريد لفعله الضعف في التحقق؟ كما نجد في الآيات الآتية: {سيقول السفهاء من الناسِ ما ولّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} البقرة- آ: 142، و {سنُلقي في قلوبِ الذين كفروا الرعب} آل عمران – آ: 151، و {ستجدون آخرينَ يريدون أن يأمنوكم} النساء آ: 91، و {سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض..} الأعراف آ: 146 وغيرها من النصوص العديدة، فالعربي الناطق لا يبدأ جملته بفعل مستقبل بعيد، لأنه يدرك أن هذا الابتداء مخالف لغرضه الدلالي، ومُستدعٍ لضعف حدثه اللغوي الذي يريد تقويته في ذهن السامع.
2 – العطف على الفعل: وفي هذه الحالة القواعدية لا يؤتى إلا بالسين أيضاً، لأن عطف الفعل المضارع على مدخول السين يأتي لغرض توكيد المعنى، والتوكيد بالسين –لقربها الزمني- أقوى من التوكيد بسوف، ولذا سنجد في حالة عدم إرادة التوكيد أن الفعل قد اتصل بـ (سوف) مع وجود العطف، وفي هذا تقوية للقاعدة، ولو استبدلنا السين بسوف لحدث بتر بين المتعاطفين، ومن ثم سيكون الحدث غير قويّ فينفرط عقد التوكيد يقول تعالى: {قالَ سلامٌ عليكَ سأستغفرُ لكَ ربي إنه كان بي حفيّاً وأعتزلكم وما تعبدون...} مريم- آ: 47 – 48، و {كلاّ سنكتبُ ما يقولُ ونمدُّ له من العذاب مدَّا} مريم آ: 79، و {قلْ للذين كفروا ستُغلبون وتُحشرون إلى جهنم وبئسَ المِهاد} آل عمران آ: 12 و {كلاَّ سيكفرون بعبادتِهم ويكونونَ عليهم ضِدَّا} مريم آ: 82، وغيرها كثير، وبهذه القاعدة الرصينة نمتلك تفسيراً علمياً لمجيء سوف دون السين في قوله تعالى {قالَ سوفَ أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} يوسف آ: 98، فهي ليست مشابهة لقول إبراهيم –عليه السلام- المتقدم، إذ إرادة العطف مانعة من استخدام (سوف) فلو وقف المؤول إزاء هذين النصين لحكم بتمحلات بعيدة سرعان ما تتهاوى بأدنى تأويل معقول مخالف، لتجاهل القوانين التركيبية وآثارها الدلالية، وستقوى هذه القاعدة عندما ندرك التعليل الذي عللنا به سابقاً في النصين الآتيين {قال أمّا من ظلمَ فسوفَ نُعذّبه ثم يُردّ إلى ربه فيعذبه عذاباً نُكرا} فمعلوم أن العطف لم يكن لغرض التوكيد –كما مرّ- فهنا قوتان معذبتان، والعذاب الأول سينتهي لمغايرته العذاب الثاني مادة وشكلاً، ولما لم يكن التوكيد مراداً حلّت سوف الدالة على وقوع الفعل في الزمن البعيد والذي لا يقوي عنصر الحدث عند إرادة التوكيد، وأما قوله تعالى: {فأما من أُوتي كتابَه بيمينه فسوفَ يُحاسبُ حساباً يسيرا وينقلبُ إلى أهله مسرورا، وأما من أُوتي كتابه وراء ظهره فسوفَ يدعوا ثبورا ويصلى سعيرا} ففاعل المحاسبة الظاهرة والضمنية مغاير لفاعل المنقلب والداعي، وتغاير الفاعلين مانع من إرادة التوكيد لأن الحدثين لم يتسلطا على فاعل واحد، فكأنهما قوتان ضاربتان باتجاهين مختلفين، وسوّغ ذلك مجيء (سوف) ولذا جاءت السين في قوله تعالى: {سنعذّبهم مرتين ثم يُردُّونَ إلى عذابٍ عظيم} التوبة آ: 101 فالفعلان أسندا إلى فاعل واحد، فالتوكيد حاصل، ومثله قوله تعالى: {وأممٌ سنمتّعهم ثم يُمسُّهم منّا عذابٌ أليم} هود آ: 48، وبهذه القاعدة نستطيع تحليل الفرق بين هاتين الآيتين المتواليتين، قال تعالى: {إنَّ الذينَ كفروا بآياتنا سوفَ نُصليهم ناراً كلَّما نضجت جلودُهم... والذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ سنُدخلهم جناتٍ تجري من.. ونُدخلهم ظِلاً ظَليلا} النساء آ: 56- 57 فقد ترك القرآن (سوف) مع آية المؤمنين ليس لتبشيرهم بقرب الدخول، بل لمانع تركيبي هو العطف التوزيع التنظيمي لهاتين الأداتين كان يحرص على قضايا أخرى تستحق البحث لاكتشاف نظامها كما صمم هذا البحث لذلك، إذ الكلام نسيج مركب من القضايا اللغوية، والاعتناء بكشف إحداهما لا ينبغي أن يقع على حساب الأخرى، بل على الباحث أن يفطن إلى ذلك ويدرك سر ترك النظام المستكشف في بحثه إلى نظام آخر فما دام العدول من نظام إلى نظام فلا خلل ولا اضطراب، وإنما الاضطراب يتصور لو تم العدول من الحالة النظامية إلى حالة غير نظامية، وهذا هو الإعجاز القرآني التركيبي الذي يتم فيه توزيع الألفاظ لعلل وغايات لا يعدل عنها إلا لعلل أخرى ودوافع تنظيمية مغايرة.
فالآية الأولى، وردت في مقابل قوله تعالى: {إنَّ الذين يكفرونَ بالله ورُسله ويريدونَ أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولونَ نؤمن ببعض ونكفرُ ببعض ويريدونَ أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك همُ الكافرونَ حقاً وأعتدنا للكافرينَ عذاباً مهينا} النساء آ: 150 – 151، وملامح المقابلة ظاهرة بين النصين، والذي يهمنا الفعل (اعتدنا) وقوله تعالى: {سوفَ يؤتيهم أجورَهم} فلو جاءت السين بدلاً منها لما ضرّ ذلك البناء التركيبي للآية، لأن موطن الاهتمام انصبّ بين الموقفين، موقف الماضي المطلق وموقف المستقبل المطلق، دون درجة الاستقبال ومدته، وهنا تحقق المرادفة ولذا حكم ابن هشام الأنصاري على من اعتقد زيادة المعنى: بأن ذلك ليس بمطرد، -كما مر- ولكن عدم الاطراد كان حفاظاً على تنظيم كلامي آخر ألا وهو قضية المقابلة التي لو بحثت لرأينا عدم اطرادها أيضاً، حفاظاً على تنظيم كلامي آخر، ولذا كان القرآن نظاماً لغوياً معقداً لا يمكن تبيّن خيوطه بالنظرة التفسيرية الكلية التي وجدناها عند المفسرين، بل على أخذ العينات اللغوية ومراقبة نظامها الداخلي وكيفية الانزياح عنها. وأما الآية الثانية فقد وردت في مقابل قوله تعالى: {وأخذِهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلِهم أموالَ الناس بالباطلِ وأعتدنا للكافرينَ منهم عذاباً أليما} النساء آ: 161.
فجاءت السين في مقابل (اعتدنا) أيضاً، إشعاراً بالتغاير الجزائي الكبير، وشتان بين صورتي (الإعداد) و (الإدخال) فكذلك الفرق بين الماضي والمستقبل الذي لم يقع لغرض تركيبي خاص، فهو مستقبل مطلق في مقابل ماض مطلق، والقول بإمكانية الحرص على النظامين التركيبيين معاً في آن واحد، أعني نظام المقابلة ونظام الأداتين لا مسوغ له، لأنه لو وقع نظام الأداة فاتت المقابلة بين الماضي بقيد المطلق والمستقبل بقيد المطلق، إذ السين وسوف تجعلانه مستقبلاً مفيداً بالقرب والبعد، بخلاف ما نحن فيه فهو مستقبل يعم القريب والبعيد، وما السين إلا أداتان لذلك المطلق.
وعلى الرغم من أهمية صورة المقابلة إلا أننا لم نعثر على مثال واحد، وأما المشاكلة التي هي ضد المقابلة، فلم يكن الحرص فيها على درجة الاستقبال ومدته، بقدر ما هو دلالة على الزمن المستقبل مطلقاً، وفي هذه الدلالة بترادف السين مع سوف، فلو عبر بالسين بدلاً من سوف وبالعكس لم يكن هناك فرق دلالي، لأن الموانع التركيبية قد خلت، فلا اعتبار بعدئذ للقرب والبعد وإنما الاعتبار في قوله {وندخلهم} إذ لو وقع الإدخال الأول بـ (سوف) لاضطرب العطف في تحقيق غايته، وصار التأكيد غير مترابط، وبه نفهم أن مجيء (سوف) مع آية الكفار لعدم وجود العطف فلو قال الله تعالى: سوف نصليهم ناراً ونعذبهم.. لكان ورود ذلك السين، والذي يؤيد هذه القاعدة أنه لم يرد عطف بين مدخول السين وسوف يجعل زمنهما موحداً، أو يوحي بإمكانية الالتقاء مع الحفاظ على عنصر التوكيد، ولذا جاء العطف بين مدخول السين فقط، كما في قوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملكُم ورسولُه والمؤمنون وستُردّونَ إلى عالم الغيبِ والشّهادة} التوبة آ: 105، مما يشير إلى أن الفعل المضارع المعطوف على مدخول السين هو الذي اقتضى دخول السين دون (سوف)، فلو جاءنا نص عطف فيه دخول (سوف) على مدخول (السين) لما كنا نحكم بذلك الاقتضاء، ولما أعرنا قضية التوكيد عنايتنا، ولكن لم يجيء.
إلا أن الفرق بين عطف الفعل المضارع المجرد والمتصل بالسين كما في النص المتقدم أن الأول يحدث مع معطوفة جملة واحدة، والثاني يتأخر حصول فعله زمناً، ومع ذلك فالتوكيد حاصل بخلاف (سوف) بدليل قوله تعالى: {سيقولُ المخلَّفونَ إذا انطلقتم إلى مغانمَ لتأخذوها ذرونا نتبعكم.. قلْ لن تتبعونا كذلكم قال اللهُ من قبلُ فسيقولونَ بل تحسدوننا} الفتح آ: 15، فقد جاءت السين المتصلة بالفعل المضارع لتوكيد الموقف الأول، وإن كانت متأخرة زماناً.
3 – عطف مدخول السين على الفعل المضارع: وهنا يجري عكس الترتيب، ولكن بذات الدلالة، والمقصود بالفعل المضارع كل حدث دلّ على زمن يقرب من زمن الحال فتكون السين مؤكدة لمدخولها، ومدخولها لمضمون ما قبله، ولو جاءت سوف لدلّ تراخيها الزمني على ضياع الترابط التوكيدي بين الجملتين المترابطتين بالعطف كقوله تعالى: {إنما يأكلونَ في بطونهم ناراً وسيصلَون سعيرا} النساء آ: 10، و{ نغفرْ لكم خطيئاتكم وسنزيدُ المحسنين} الأعراف آ: 161، و {لن يضروا اللهَ شيئاً وسيحبطُ أعمالهم} محمد آ: 32، ومما يدخل تحت هذه القاعدة التركيبية قوله تعالى {ومن نكثَ على نفسه ومنْ أوفى بما عاهدَ عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً} الفتح آ: 10، فجملة (فسيؤتيه) معطوفة ضمناً بجملتها على (ينكث على نفسه) ويدخل تحت هذه القاعدة قوله تعالى: {قدْ نبّأنا اللهُ من أخبارِكم وسيرى الله عملَكم ورسولُه والمؤمنون} التوبة آ: 49، لأن (قد) تدخل على الفعل الماضي فتقرب زمنه إلى الحال، فلو وضعنا (سوف) بدلاً من السين في هذا النص فسيُحدث اضطراباً دلالياً لبعد الشقة بين الحال وزمن الاستقبال البعيد، فالسين لقربها الزمني من الحال صح العطف فيها على فعل ماض قريب زمنه من زمن الحال، ومما يدخل في هذه القاعدة قوله تعالى: {يأخذونَ عَرَضَ الأدنى ويقولونَ سيُغفر لنا} الأنعام آ: 169، فالقول والاستغفار واحد وقد عطف على (يأخذون).
4 – الجواب: وتقع السين في معرض الجواب عن سؤال صريح أو ضمني فقط، والملاحظ في النص القرآني أن السين وقعت في أجوبة سريعة إما للتحدي وإما لسرعة الفعل أو مجرد التلفظ من دون وعي حقيقي بمضمون الجواب، ولا شك أن السين تنبئ عن هذه الحالات جميعها تقوية لمضمون الجواب، وتوكيداً لحقيقته، فمن السؤال الصريح قوله تعالى: {يسألونك عن ذي القرنين قلْ سأتلو عليكم منه ذِكرا} الكهف آ: 83، وهو موطن تحدّ، و {قلْ لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمونَ سيقولونَ لله قلْ أفلا تتقون...} المؤمنون آ: 85 – 89، وهو تسرع باللفظ من دون إدراك حقيقي لمضمونه، ومن الضمني قوله تعالى: {إنه فكّر وقدَّر فقُتلَ كيف قدَّر ثم قُتل كيف قدّر.. إنْ هذا إلا قولُ البشر سأُصليه سقر} المدثر آ: 18 – 26، فكأن سائلاً قال: وما جزاء من قال هذا فأتى الجواب إيذاناً بسرعة الفعل، بخلاف قوله تعالى: {إنَّ الذين كفروا بآياتنا سوفَ نُصليهم نارا} النساء آ: 56، فليس هناك حالة جوابية تستدعي هذه السرعة الجزائية، ومثله قوله تعالى: {تبّت يدَ أبي لهب وتبّ. ما أغنى عنه مالُه وما كَسب سيصلى ناراً ذاتَ لهب} المسد آ: 1-3، فكان الجواب حاضراً عند أول خطور السؤال في ذهن القارئ، ويظهر الجواب في محاججة يوسف لإخوانه بشأن أخيه، قال تعالى: {قالوا سنُراود عنه أباه وإنّا لفاعلون} فكأن يوسف قد أضمر في نفسه سؤالاً تقديره: فماذا ستفعلون، وبهذا التخريج القواعدي لا يعترض على ما مرّ بأن حق هذا التعبير أن يكون بـ (سوف) إذ هو مقيس على قوله تعالى: {قال سوفَ أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} فهنا لم يسألوا الأب سؤال المستفهم بل سؤال الطلب بخلاف موقف يوسف الذي أراد أن يعرف ما هم فاعلون، ولذا قالوا: وإنّا لفاعلون وقال الأب: إنه هو الغفور الرحيم، ولم يقل وإني لفاعل لما تطلبون.
ومنه قوله تعالى: {ولا يحسبنَّ الذينَ يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سيطوّفون ما بخلوا به يومَ القيامة} آل عمران آ: 180 والآيات التي وقعت فيها السين في صدر الجواب كثيرة وعليك بالقياس.
ولنا أن نتوقف على قوله تعالى في سورة النبأ {عمَّ يتساءلون عن النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون، كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون، ألم نجعل الأرض مِهادا} وعلى قوله تعالى في سورة التكاثر {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر، كلا سوف تعلمون، ثم كلا سوف تعملون، كلا لو تعلمون علمَ اليقين} وكان ابن مالك قد أحس بكونهما مترادفين من خصوص الموضوع المتكلم عليه، فظنهما مجرد صلة لوقوع (كلا) والأمر ليس كذلك، فإذا كانت السين تقع في الجواب فدلالة السؤال عن القيامة في النص الأول صريحة "يتساءلون" وأما في النص الثاني فلا سؤال صريح ولا ضمني بل جاءت (سوف) على أصلها من اتصالها بمادة (العلم) –كما سيأتي- وأما مسوغ اتصال السين بمادة العلم فلكونها غير معبرة عن نهاية الموقف، فالاستفهام الواقع بعدها متصل بنفي العلم.
5 – بين العلم والقول: فقد اتصلت سوف بمادة العلم باشتقاقاته في (17) من حالات مجيئها الثمانية والثلاثين، ولم تتصل بالقول أبداً، مما ينبئ عن قضية بالغة الأهمية بخصوص استعمال هذه الأداة، وهنا يرجع بنا الأمر إلى الحاجة إلى إيجاد معجم تركيبي، نستطيع بوساطته معرفة ما يصح الاقتران فيه وما لا يصح، وكان العربي يدرك هذا ويفهمه، وعلينا كدارسين للغة أن نفقه سرّه وسبب وروده، فقد سمع أعرابي قارئاً يقرأ قوله تعالى: {وهو العزيز الحكيم} بجعل الحكيم أولاً والعزيز ثانياً فأنكر عليه لأنه يدرك بذوقه الفطري أن الاقتران يقبل في حالة دون أخرى وأن فعلاً من الأفعال يتصل بفاعل مخصوص دون غيره، وأمثلة هذا كثيرة ويطول البحث فيها، فما سر اقتران (سوف) بمادة العلم وعدم اتصالها بمادة القول، يطيب للباحث أن يعطي مشكلة زيادة المبنى دعماً أكبر من خلال هذا التأويل، إذ العلم لا يحصل في الذهن إلا بعد سلسلة من المشاهدات والسماعات، مع الاحتياج إلى استدلالات عقلية فالتأخر الحصولي له سمة لازمة، أما القول فهو مجرد تلفظ قد لا يكون مصحوباً إلا بتصور ضئيل غير كاشف عن حقيقة ماهيته، ولذا جاءت مادة العلم مقترنة بنهاية الموقف كقوله تعالى: {لكلٍّ نبأ مستقرٌ وسوف تعلمون} الأنعام آ: 67 , {إني عاملٌ فسوفَ تعلمون من تكونُ له عاقبة الأمور} الأنعام آ: 135، و {إنَّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتُخرجوا منها أهلها فسوفَ تعلمون} الأعراف آ: 123، و {فإن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذابُ الخزي} هود آ: 39، وغيرها وليس لنا أن نقول إن اللفظ استكمل هناك واختصر هنا إحالة على ما سبق.
أما السين فإنها تقترن بالقول فقط، وتعليل هذا ظاهر مما سبق، إلا أن هناك آيات ثمان قد جاءت السين فيها متصلة مع مادة العلم وهي {يعلمُ ما تكسِبُ كلّ نفس وسيعلمُ الكفارُ لمن عقبى الدار} الرعد آ: 42، و {سيعلمُ الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون} الشعراء آ: 227، و{حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شرّ مكاناً وأضعفُ جندا} مريم آ: 75، و {أم أمنتم مَن في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعملون كيف نذير} الجن آ: 24، و {قل كلٌّ متربصٌ فتربّصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السويّ ومن اهتدى} طه آ: 135، و {أُلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذّاب أشرّ سيعلمون غداً من الكذاب الأشرّ} القمر آ: 26 -27، و {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمونَ من هو في ضلال مبين} الملك آ:29، فلو وضعنا (سوف) بدلاً من السين لاضطراب الفهم بذلك، ومكمن ذلك أن مادة العلم في سوف يختتم بها الموقف وأن اتصل بها شيء لكنه غير مستقل، كقوله تعالى: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبةُ الدار} و {فسوفَ تعلمون من يأتيه عذاب يُخزيه ويحلّ عليه عذابٌ مُقيم} فالاسم الموصول غير مستقل عما تقدمه، أما هنا فالجملة الواقعة بعد العلم جملة مستقلة لكونها استفهامية: من الكذاب الأشر، من هو في ضلال مبين.. ومن ثم فالسين لا يختتم بها الحدث الكلامي لكون زمنها قريباً بالنسبة لزمن سوف وأما الآيات التي انتهت بالسين فهي إما لمانع تركيبي أو لأن السلسة الكلامية لم تنته بعد، واجتمعا في قوله تعالى {نغفر لكم خطيآتكم وسنزيد المحسنين} فالمانع التركيبي هو تقدم الفعل المضارع ولأن ما بعدها متصل بها، إذ يقول تعالى بعدها {فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم} والاتصال ظاهر كما لا يخفى، ومن النوع الأول فقط قوله تعالى {إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيَصلون سعيرا. يوصيكم الله في أولادكم..} ومن النوع الثاني: {قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى. واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء..} ومن النوع الأول أيضاً قوله تعالى {وما محمد إلا رسول.. ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين.. ومن يُرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثوابُ الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين} آل عمران آ: 144-145 فقد اختتم بالسين لمانع تركيبي متقدم.
7 – العلم ومرادفاته: فعندما يتقدم فعل دال على التحقق بنفسه أو بمرادفه فإن السين تقع للتناسب بين تحقق الفعل الدال على الحصول بنفسه وبين السين المؤكدة لذلك الحصول، بخلاف (سوف) التي تحدث بتراً في الموقف الكلامي الذي وقع ليدل على التيقن وذلك كقوله تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خِطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علمَ الله أنكم ستذكرونهن} البقرة آ: 235، و{حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عددا} الجن آ: 24، و {علم أن سيكون منكم مرضى} المزمل آ: 20.
8 – قرب المذكور أو بعده: وقد ظهرت في نصين فقط، وهما قوله تعالى {فقد كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم فسوفَ يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن} الأنعام آ: 5، و {فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن} ففي النص الأول تأخر بيان الإنباء، إذ لم يقص الله علينا قصة إبراهيم إلا بعد (50) آية، أما في سورة الشعراء فقد جاءت قصة موسى بعد ثلاث آيات ثم أعقبتها قصص إبراهيم ونوح وهود.. وهذه قاعدة مهمة، ولكنها غير تركيبية، ولذا كان تصنيفها في المرتبة الأخيرة.
هذا ما عرفته من القواعد التركيبية التي تحكم عملية توزيع السين وسوف ولا يمكن وقوع الترادف فيها، لأن العربي سيحس بالأثر الدلالي المختلف نتيجة مخالفة العرف التركيبي الذي عهده، ولكن بقيت صور يمكن الاستبدال فيها بين السين وسوف، وأعتقد أنها مترادفة، لأن الحرص كان منصباً على قضيتين أخريتين وهما (المقابلة) و (المشاكلة) فهنا لا يلتفت إلى درجة الاستقبال بقدر ما يلتفت إلى المقابلة بين المواقف المختلفة للسياق وهذه الصور هي:
أ – قال تعالى {والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيما} النساء آ: 152، وقال تعالى {لكن الراسخون في العلم منهم.. والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً} النساء آ: 162، فهاتان الآيتان لا أجد لهما قاعدة تركيبية اقتضت دخولاً معيناً –بعد طول بحث واستقراء- ولكن القرآن مع حرصه على مطلق الاستقبال، ومنه قوله تعالى في الآيتين المتواليتين {وقالوا هذه أنعامٌ وحرثٌ حجر لا يطعمها إلا من نشاء يزعمهم وأنعامٌ حرّمت ظهورها وأنعامٌ لا يذكرون اسم الله عليها افتراء علليه سيجزيهم بما كانوا يفترون. وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورها ومحرّمٌ على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفُهم إنه حكيم عليم} الأنعام آ: 138 -139، فليس هناك مقتض تركيبي دعا إلى اتصال السين دون (سوف) وإنما هي مجرد المشاكلة بين الموقفين، والقرب الزمني غير ملتفت إليه، بل الاستقبال المطلق الذي تحققه إحدى الأداتين عند عدم المقتضى التركيبي، والذي يدلنا على هذا الاستنتاج هو تخلي السين التي لا تقع في نهايات الموقف عن ذلك، فصارت واقعة في نهاية الموقف منبثقة عن دلالة غير دلالتها الأصلية، وكذلك الحال بالنسبة لـ (سوف) فقد غادرت موقعها الدال على الاختتام للحدث الكلامي إلى مجرد الاستقبال المطلق، فتبادلتا موقعياً لعدم وجود المقتضى القواعدي، فيكونان عندئذ مترادفين.
نتائج البحث:
1 – مناقشة القدماء فيما ابتدعته قرائحهم لا يعني تقصيرهم أبداً، وإنما لكل درس موضوعه وغايته، وهم لما فسروا القرآن لم يجمعوا ألفاظاً متناسقة في مكان وعزلوه ثم حللوه، بل تعرضوا لذلك جملة، فكان عليهم التسليم بمقتضيات لغوية قد نختلف في تحديدها وصورها أيما اختلاف.
2 – كثير من قواعد التركيب في استخدام الأدوات لا يزال مجهولاً، وإن بحوثاً معمقة تحاول الكشف والإبراز ستتوصل إلى امتلاك التعليلات التي لا توقعنا في مزالق فكرية قد تحملنا على اتخاذ مواقف قاصرة وغير واعية في تحليلات نقدية أخرى.
3 – السين وسوف لا يترادفان إذا اقتضاهما تركيب قواعدي أو دلالي أو سياقي بل كل وضع لغاية، وترجم عن استخدام قرآني دقيق، بحيث لو أبدلنا ذلك التنظيم لرأينا عدم المجانسة ماثلة للعيان، وليس ذلك إلا للتركيب وحده دون التعديلات الخارجة عن النص التي رأيناها عند بعض المتقدمين.
4 – أما الترادف فإنه يقع عند الحرص على أنظمة كلامية أخرى، وهنا يظهر معنى جديد لهاتين الأداتين وهو: الاستقبال المطلق غير المقيد بالقرب والبعد، فليس الترادف بمعنى اشتراك السين مع سوف في معناها البعيد أو بالعكس، وإنما الترادف الحاصل هو الدلالة على مطلق الاستقبال الواقع في مقابلة مطلق المضي أو لمشاكلة المطلق أيضاً، وهذا هو المعنى الجديد لكلتا الأداتين، فتصريح القدماء بالمرادفة بمعنى دلالة السين على البعيد أو سوف على القريب ليس بصحيح.
5 – بعض الآيات لم نستشهد بها لعلمنا ببداهة دخولها تحت الأقسام القواعدية المذكورة.
6 – قد نختلف في القواعد والاستنتاجات، إلا أننا لا نختلف في صلاحية المنهج الدراسي المعتمد.
7 – وأخيراً فقد وردت السين بعدد (116) مرة، وسوف بعدد (38) مرة وتكررت السين مرتين في نصين فإذا تجاهلنا المكررين، كانت السين تعدل ثلاث مرات استعمال (سوف) ولفظ (سوف) أكثر من السين بثلاثة حروف.
الهوامش:
(1) الكتاب –لسيبويه 1/32، القاهرة، تحقيق عبد السلام هارون، 1988.
(2) الخصائص: 2/317-318.
(3) الخصائص: 3/371.
(4) حاشية على حاشية اللاري على الجامي، طبعة استانبول، د ت: ص13.
(5) الكتاب: 1/14.
(6) 1/162-163 بيروت- المكتبة الثقافية، 1973.
(7) البرهان في علوم القرآن-الزركشي: 4/282، تحقيق مصطفى عبد القادر، 1988م.
(8) شرح الكافية، تحقيق د. عبد المنعم أحمد هريدي، جامعة أم القرى، ط1، 1982: 1/498، شرح ابن عقيل: 1، 370، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الفكر، ط15، 1972.
(9) 4/280-281.
(10) الاتقان 1/162-163.
(11) البرهان: 4/280-281 بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1988م.
(12) الكشاف: 1/196، بيروت، دار الكتاب العربي.
(13) البحر المحيط: 3/275 الرياض، دت.
(14) البحر المحيط: 4/75.
(15) عوامل الجرجاني: ص6 استانبول، دت.
(16) مغني اللبيب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، 1987، ص123.
(17) دلائل الإعجاز، تعليق أحمد مصطفى، القاهرة، ط2، دت، ص40.