كيف تصبح كاتباً (9)
كيف تصبح كاتباً (9)
حديث في الأسلوب
بقلم: محمد السيد
1 - الأسلوب هو الرجل
أصبحت الآن على ثغرة، وغدوت تتمثل روعة حديث نبيك صلى الله عليه وسلم، فتدفعك الحمية الإيمانية إلى الالتزام بمطلبها: "فلا يؤتين الإسلام من قبلك"، وعندئذ لا بد أنك تسمع حفيف الحرف يناوش قلبك، وخفق الكلمة الندي الناعم يراود شفتيك، لينطلق مخطوطاً يسطره طرف قلمك، فتمتلئ نهاراتك بحب مهنتك، وتضج المعاني في أرجائك، مبتغية الصعود إلى هامات العلا، وامتلاك أسرار البيان المصفى، وارتقاء كاهل الاستكشاف في عالم التميز وعالم نيل المراتب، اللذين يبتعدان بك عن السقوط في دنيا التقليد المزري لموهبتك، القاعد بك عند حدود الرضى بالقليل من الاهتمام بما تقول وتكتب، والرديء المكرر من المعاني والأفكار وهي حدود كما ترى لا تليق بمن أراد المضي خفيفاً من المؤن والأثقال ومطالب الجسد كي يكون ارتقاؤه إلى القمة هيناً لين العريكة، إذ أن تخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب،كما قال ابن الجوزي رحمه الله(1).
وأنت في كل هذا مدعو إلى التيقظ لجملة قيلت قديماً: "الأسلوب هو الرجل"، ولا أظنك إلا راغباً في أن تكون الرجل المتميز، الذي يبتعث المعاني والأفكار في الألفاظ الحية المتناغمة المنسجمة مع مستويات المستقبلين، ولا تريد أن تكون الحرف البليد، الذي يساكن الوحشة والغربة، ويضرب الأمثال العاجزة عن الوصول، ويبعث الصور القابعة في أغوار صاحبها، لا تغادره إلا لترتد إلى صدره وقلبه وعينه؛ حسيرة المردود، مبحوحة النداء، واهنة الخطى في عالم التأثير والإجابة.
وإنك إذن داخل من بوابة لتفل جحافل الكلمات، وتمتلك أسباب الابتكار في دنياها، وتصنع من عالمها ما يجعلك تفرش الأزهار في طرقاتها، وتنثر الدر في ساحاتها، وتنوع الأساليب، فتنتقل بها من واحد إلا آخر "تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليك"(2) وهذا كله يتطلب منك أن تكون يقظ الحاسة، حاضر اللحظة، لا قطاً مجداً للعناوين، وصائغاً مجيداً للمعاني بما يميزك، ومنوعاً مرناً في الأسلوب، ونافخاً نشطاً للحياة في الحروف، متأملاً طويلاً في تراكيب الكلمات ورصفها جنباً إلى جنب، بما يخترع لك الأسلوب الفرد العالي. . لتحظى من جملة: "الأسلوب الرجل" بأعلى نتائجها، ومغدق ظلها، ويانع ثمرها، حاديك في ذلك كله الإعجاز القرآني، والبلاغة الربانية التي تمثلت في كل كلمة وحرف وجملة وتركيب، وردت بشكل معجز في النص الرباني الكريم. ألا ترى معي كيف أن الجملة القرآنية : "تكاد تميز من الغيظ" أدخلت - كما قيل - ابن قتيبة إلى بوابة الدراسات البلاغية؟ كون"النص القرآني الكريم الأمثل لدراسة الصور الجمالية في النص العربي"(3).
2 - الكتابة فيما تحذق:
كي تكون كاتباً مفهوماً، تقدم للناس رؤيتك عن الأحداث والأفكار في هالة من الكلمات والتراكيب الجميلة المقنعة الساحرة، يجب أن تتذكر أن الكاتب لا يبدع ويتفوق إلا إذا دخل من الباب الذي يعرفه حق المعرفة، ويحذق في ولوجه ومعالجة إشكالاته، ويطاوعه قلمه فيه للسير فوق القراطيس بسلاسة وعذوبة، إذ أن فتح منافذ كثيرة يستجر الكاتب إلى الضعف والوهن في جميع الأشكال الكتابية التي يباشرها، بينما الاختصاص، وبذل معظم الجهد في التحسين المستمر والتطوير الدائم للموهبة فيما يحذق الكاتب، هو الذي يضعه على عتبة النجاح، ثم الإبحار في عالم الإنجاز، الذي يأتي بالقبول ووصول الصوت وسحر الكلمة والحرف، فالشاعر يجب أن يكون جهده الأكبر في تطوير حرفه الشعري، حتى يصل فيه إلى المستوى المسموع والحضور المؤثر الفاعل.. والروائي أو القاص يجب أن يكون جهدهما الأكبر في تطوير آلياتهما وتقانياتهما الفنية والموضوعية، وذلك كي يستطيعا فتح أبواب القلوب أمام ما يطرحانه من فكر وعمل وتوجهات. وهذا الذي قلناه آنفاً ينسحب حكمه على كل لون من ألوان الكتابة أدبية كانت، أم علمية، أم سياسية، أم اجتماعية، أم غير ذلك.
وليس معنى ذلك أن يقف الكاتب بموهبته عند نوع واحد من الكتابة لا يبرحه، بل إنا نقول: إن الكاتب الذي يجد في نفسه إمكانيات للكتابة في موضوع آخر أو مواضيع أخرى، فعليه أن يفتح لهذه الإمكانيات نوافذ تتنفس منها، وتجلي ذاتها من خلال تلك النوافذ، حتى إذا حاولت هذه مزاحمة الموهبة الكبرى عنده، كبح جماحها، فأنزلها قدرها، وجعل لها خلوف الوقت والإقدام، في حدود العدل الذي لا يكبت القدرات ولا يجور على الحذق... وإن مراعاة ذلك يشكل قضية هامة لدى الكاتب المتوازن، الذي يريد لكتابته ارتقاء مضمار التطور والتقدم، واحتلال المواقع المتقدمة دائماً، وقد نبه الجاحظ إلى قضية معيار للإفهام من خلال الكتابة يقوم على الحذق "أي أن يقوم على معرفة عالية بأساليب العرب في كلامها"(4).
وهذا ما يجعلنا نفهم فهماً عميقاً حلف رب العزة بالقلم والحرف: (ن، والقلم وما يسطرون) كما يجعلنا نفهم الأهمية الكبرى للعلم المسطور بالقلم فوق القرطاس، الذي ذكره ربنا في كتابه الكريم: (الذي علم بالقلم).
وإن هذا الحذق بأساليب العرب في كلامها "ويأتي على رأسها ومقدمة أمرها ضبط القرآن للغة العرب وأدائها وتيسير ذلك لكل العصور)، هو المطلوب الأول للكاتب المؤمن المقبل على خوض معركة الحرف، وقد بين الأستاذ الرافعي رحمه الله عواقب الضعف في ذلك، إذ قال: "وأنت قد ترى الضعفاء الذين لا يحكمون منطقهم، وما يصنعون بالأساليب المدمجة والفقر المتوثقة إذا هم تعاطوها فنطقوا بها، حتى ليصير معهم أجود الكلام في جزالته وقوة أسره وصلابة معجمه إلى الفسولة والضعف، وإلى البرد والغثاثة، كأنما يموت في ألسنتهم موتاً لا رحمة فيه"(5).
3 - وصايا عامة:
أ - اتخذ من الكتابة رسالة ومهمة إيمانيتين، تبتغيان تعريف الناس بالطريق الذي يسعدهم، ويخلصهم من الجري خلف الوهم الذي يسمونه الحداثة، وهو في الحقيقة الفوضى المؤدية إلى الضياع.
ب - التزام حدود الاعتدال والصدق والموضوعية فيما تكتب أو تقول، وابتعد عن التهويل والكلام الذي لم تتيقن من صحته، حتى لو كان الكلام عن عدوك، وذلك امتثالاً لقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنأن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى).
ج - ابتعد عن أساليب الشتم والإقذاع في الكلام، واجعل كلماتك بمستوى هدفك ورسالتك ومهمتك التي اخترتها لنفسك، واحرص على أن تكون رفيقاً حليماً في غير ضعف، وذلك امتثالاً لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه". وقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء". وتوجيهه صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت رحمة مهداة" و "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
د - اختر من المواضيع والمعالجات ما يكون قريباً من فهم المتلقين، وما يهمهم، ويحاول تقديم الحلول لهذا الذي يهمهم وذلك مصداقاً لقول الله تعالى: (وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً) وقوله جل وعلا: (و قولوا للناس حسناً).
هـ - اجعل وقت الكتابة عند اعتدال مزاجك وفي أحسن ظروفك وضمن الساعات التي تتفتح فيها قريحتك، وتتكاثر فيها التعابير والأفكار تكاثراً يجعلها على أطراف قلمك، وحينئذ فإنك لا تجد لك بداً من تناوله وتسجيل خواطرك، فإن ذلك أيسر لك، وأسلس لعملك، وأقوم للسانك وخطك، وأبلغ في التعبير والتأثير، إذ الكلام حينئذ يكون عفواً لا تكلف فيه، ودفقاً تتعاون على ابتعاثه العواطف والأحاسيس والعقل والخيال، فيخرج نوراً متكامل الخلقة والجمال.
و - ولا تنس أن تمهر عملك بالتوثيق وذلك بالإكثار من المؤيدات، ولكن بدون إسراف، وتزيين الكلام بالأمثلة والأمثال المتداولة ولكن بدون إفراط أو إقذاع أو تطويل.. فإن التوثيق يدعم رأيك ويشد عضدك، وإن ضرب الأمثلة والأمثال يفسر قولك ويزيد من وضوحه وبيانه، ويقربه من الناس، ويحببه إليهم. وذلك كما تعرف أسلوب من أساليب القرآن الكريم في البيان والإظهار والتأثير فاحرص عليه ولا تفوته.. وتأمل جمال وقرب المعنى والمبنى من الإفهام في قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم).
4 - في مفردات الأسلوب:
قال ابن أبي داود: (القلم سفير العقل، ورسول الفكر، وترجمان الذهن)(6).
فلما كانت الكتابة سفيراً لعقل الكاتب لدى المتلقين ورسولاً لفكره، وكانت رسالة ومهمة إيمانية لدى الكاتب المؤمن، فقد وجب الكثير من العناية بالأسلوب، والدراية النظرية والعملية بتنوعاته وفتوحاته التي تيسر الطريق إلى قلوب المتلقيين وعقولهم وعواطفهم وأفهامهم.. وفيما يلي بعض الأمور التي تيسر الأسلوب وتعلي مقامه:
أ - تخير اللفظة الملائمة للمعنى المراد وللتركيب الجملي الذي تريد تسطيره، بحيث تبني بناء منسجماً في الشكل والجوهر والموسيقى، وانسيابية المجموع: كان ابن المقفع كثيراً ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك، فقال "إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيره"(7).
ب - ومن حسن الأسلوب: "أن تتخير اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، فلا هي بالوحشية الغريبة المحتاجة للعودة إلى المعاجم، ولا هي بالعامية المغرقة المفضية إلى اللحن(8).
ج - البعد عن التكلف في الأسلوب، والإغراق في البحث عن الجماليات البيانية على حساب المعاني والمباني فقد قال شيخ البلغاء الجرجاني: "بحيث أنه من فرط الشغف بأمور ترجع إلى ماله اسم في البديع إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبيّن".
د- توصل إلى المعنى بأقصر الطرق، فلا تكثر من الثرثرة والحشو غير المفيد وذلك من غير إيجاز مخل، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون المتشدقون".
هـ- احرص على مراعاة أحوال الناس الذين تكتب لهم، وتفقد كلامك كي يكون ملائماً بالمقام والمناسبة وهذا هو الأسلوب البلاغي القرآني كما هو أسلوب البلاغ الرسالي الذي جاء في كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو ما قال عنه ابن قتيبة: "من سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأيقن أن للعرب الحكمة وفصل الخطاب"(9).
وقد قيل لبعضهم: كيف ترى إبراهيم الصولي فقال:
يـولد اللؤلؤ المنثور منطقة ويـنظم الدر بالأقلام(10)
و- انتق السهل من التراكيب المنسجم مع المعنى دون ركاكة أو نزول في الأسلوب، فقد قال ابن قتيبة: "نستحب له - إن استطاع - أن يعدل بكلامه عن الجهة التي تلزمه مستثقل الإعراب"(11).
ز- اهتم بالتنقيح ومعاودة القراءة وذلك ليستقيم لك الكلام، وتنسجم الكلمات والألفاظ بعضها مع البعض الآخر، وبالتالي مع المعنى العام المراد، وذلك ليصل ذلك المعنى إلى الناس بأقصر الطرق وأفخم تعبير.
ومن مقتضيات ذلك، أن تبحث عن توكيد المعنى بالمترادفات دون تطويل أو حشو، واستعمل الجمل القصيرة فهي أدعى للفهم والانسجام ونقل المعنى بسهولة. كما أنه من مقتضيات ذلك العناية بالصنعة دون تكلف، وأن تسلم العبارة للعبارة بسلاسة ودون استثقال للانتقال من قبل القارئ.
ح- ابتعد عن تجميد المعنى في الكلمة، وذلك بانتقاء الألفاظ المرنة، ووضعها في العبارة الرفيفة؛ حمالة الوجوه، مجنحة المعاني مع مراعاة جنس النص ومناسبته ومكانه وجمهوره.
وبعد: فقد كنت متواطئاً معك أيها الكاتب الهمام، حين اكتفيت بهذا المختصر من القول عن الأسلوب حتى لكأنني حسبت أنك أعلم مني في البقية الباقية من النص المتعلق بذلك ومغزاه العميق فأنا لا ألام على ذلك الظن فلا أخالك إلا أنك قد حسبت لكل شيء حسابه فسيماؤك يقول: إنك لا تخشى قطعان الضلال وأنت تختزن كل ذلك الرصيد الذي جئنا على ذكره مذ بدأنا وحتى اللحظة.
فهل أنت موافقي أن المناوئين لإسلامنا من كتبة السلاطين أو كتبة الهوى لا يملكون في مواجهتك سوى التبشير المتهافت بأنهم الأنبياء الكذبة لهذا العصر..(مع الاعتذار للاقتباس من عنوان كتاب للأستاذ الكبير حسن التل رحمه الله...)!.
فاستل قلمك بقوة، وامض إلى حيث انتدبك دينك، ولا تخش بأس المدعين.
الهوامش:
(1) صيد الخاطر ص 23.
(2) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 275.
(3) حيوية اللغة بين التحقيق والمجاز د. سمير أحمد معلوف ص 218 منشورات اتحاد الكتاب العرب 1996.
(4) حيوية اللغة بين التحقيق والمجاز د. سمير أحمد معلوف ص 218 منشورات اتحاد الكاب العرب 1996.
(5) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية - مصطفى صادق الرافعي ص 81 دار الكتاب العربي ط 1990.
(6) من محاضرات الأدباء والبلغاء ص 113.
(7) أدب الكاتب لابن قتيبة ص 102.
(8) أسرار البلاغة، عبد القادر الجرجاني ص4.
(9) المصدر السابق ص9.
(10) أدب الكاتب لابن قتيبة ص9.
(11) محاضرات الأدباء ص101.
(12) أدب الكاتب لابن قتيبة ص17.
يتبع