كيف تصبح كاتباً (8)

كيف تصبح كاتباً (8)

خطوط الارتقاء

بقلم: محمد السيد

1- لماذا وإلى أين؟

إذا تداعت الأكلة، وانتبه المغرضون، وألقاك التيار على شواطئ قاحلة، وساقتك الأقدار إلى عيش أيام مزدحمة بالعنت، وإلى خوض غمار ساحات مغزوة بكل ما يزدري العقول من فكر وكلام وكتابة وكتاب فأنت من أي جهة نظرت وجدت عجباً، يرش النهارات رمـاداً أغبـر،  ويهيل على الحقيقة الناصعة سيلا ًمن الحلكة والتضليل، يحاول التهام الشمس في رابعة النهار.

هناك ينبت في حقول موهبتك غصن يهفو إلى النبع، وترتفع في جنباتك صيحات نهوض تبتغي الارتقاء بالرد، وتعلو وجناتك حمرة حمية في لون البدر ونعومة الندى ولفح الشمس، تطلب كلها ثأراً لوهج الحق، يحرق إملاق الغزو، ويدفن رماد الحلكة بساطع الحرف ورواء الفكر. أفلا ترى معي أيها الكاتب أن كل هذه الغايات كافية لصنع جواب لماذا الارتقاء؟ لكن سؤال إلى أين لا يدعك تستريح من الكد، فها هي مستحقات النجاح تتمطى في أفق عينيك، تالية عليك سؤال أولوية النهوض قائلة: إنك تبدأ فجراً، وتكدس أحلاماً، وتكابد حرج الوقت، فهلا علمت إلى أين أنت ماض في الارتقاء؟.. إذا علمت ذلك، وأيقنت أن الخط الذي تسير فيه، يجب أن يكون صاعداً، ولكي يكون كذلك يجب أن تتجلى فيه عبقرية الإضافة الملموسة الواعية، لا المراوحة عند المشاركة العادية التقليدية في الحوار الراهن، عندئذ لابد أنك سوف تردد مع (د. محمد مندور): "إن العبقرية قدرة إيجابية فعالة، وبغير الإيجابية لا تستطيع أن تعيش، وأن تثمر وأما الهروب أو التسكع فمن خصائص أشباه العبقرية لا العبقرية ذاتها"(1). وإذا فإن الإضافة الإيجابية العبقرية، هي المطلوبة، وهي المفيدة في تحقيق المضي قدما في الارتقاء، حتى يبلغ قلب التأثير وذرى الرد على إملاق الغزو.

2- كيف تستقل خط الصعود:

ينطلق حس الكاتب المؤمن من موقف محدد تجاه كل ما حوله، وهذا الموقف مبني على وعي كامل، مرجعيته ذاكرة تحتوي الماضي والحاضر، وتطلع إلى قادم يستلهم رؤية الكاتب الإيمانية إلى الكون والإنسان والحياة وبناءً على ذلك، فإن خط الصعود يتطلب من الكاتب أن يوفر لإطلاعه وثقافته ووعيه وموقفه المستلزمات التالية:

أ- التأصيل: ولا نعني بالتأصيل هنا أن تلتزم بمحور المقلدين في المعركة الدائرة بين الحداثيين والمتبعين الحرفيين للتراث الماضي.. بل نعني به: استيعاب الماضي كله، واستحضاره جاهزاً لفائدة الحاضر والمستقبل في التنظير الكتابي والحركة الفعلية، وذلك مع التفريق بين:

1- ما هو أصل وأساس يبني الموقف ويحدد الاتجاه، وهو بالذات الإيمان الذي يكون الشخصية ورؤيتها وهدفها وحدود حركتها، ويترأس عملية الوعي الجمعي والفردي بكاملها لدى الكاتب المؤمن، ويشكل القضية الأولى والأخيرة في حياته. ونصوص هذا الأصل ثابتة لا مجال للحركة داخلها إلا للفهم والتمثل والتنفيذ... فهي بمثابة الرأس الموجه لكل حركة وسكنة. واستيعاب ذلك والانطلاق منه أصل أصيل في حركة الكاتب المؤمن.

2- وما هو من نتاج العقل البشري؛ فقهاً كان أم أدباً، علماً كان أم عمراناً، وثقافة كان أم فكراً وفلسفة، وهو الأمر الثاني الذي يجب على الكاتب المؤمن أن يؤصل به مسيرته الفكرية أو الإبداعية أو الأسلوبية، من خلال عملية انتقاء وارتقاء وتوظيف إيجابي فعال لهذا التراث بما يجعل الحياة متواصلة متطورة، والتاريخ سلس الانتقال، منفتح الآفاق، والآخرة متصلة بحركة الإنسان فوق الأرض، بدون أي انقطاع.

والخلاصة: إن مستلزم التأصيل يفرض نفسه على الكاتب المؤمن من ناحيتين:

الأولى: وهي واجبة مفروضة تقتضيها أوليات الإيمان أصلاً، كما توجبها معرفة أصول الإيمان وحدوده وقواعده وأساساته.

الثانية: تقتضيها طبيعة التركيب الثقافي والعلمي عند الكاتب، فهي تتطلب وجود عملية تواصل مع التراث تؤسس لعملية النماء، وذلك كي يقوم البناء الثقافي والفكري للكاتب متيناً راسخاً متواصلاً في أسلوبه وشكله، لا تشوه عمارته قفزات تجعله متصدعاً مليئاً بالمفارقات غير المفسرة ولا المسوغة ولا المفهومة أصلاً، أو تنقله إلى الإمعية أو الانبهارية اللتين تذيبا الخصوصية، وتذهبا بالكاتب بعيداً عن محيطه وجمعه، ليصبح كمن يلقي خطابه في الفراغ الأصم. وأكثر ما يعتمد في هذا التأصيل البنائي، ليكون أعظم تأثيراً، وأجمل تكويناً، كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فهما أولى ما يتجه إليهما الكاتب المؤمن لصقل قلمه وتفصيح لسانه، وتنوير عقله وفكره، ثم يأتي بعدهما في هذا الشأن ديوان الأدب العربي والإسلامي، وكتابات ونتاج فصحاء العرب وكتابهم على مدى العصور، فضلاً عن منتجات مفكريهم وفلاسفتهم الراشدين وعلمائهم الموزونين.. فأنت إذا امتلكت نواصي تلك الأساسات، ودربت لسانك وقلمك، وثقفت عقلك وفكرك بها.. ضمنت لنفسك الفصاحة والحجة والبلاغة التي تحتاجها فيما أنت قادم عليه من مهنة الدعوة الرسالية بالقلم، ومكنت لقدمك في هذا المضمار، فإن أخوف ما يخاف منه داعية القلم واللسان ذلك القصور عن إيصال القول الذي تسببه ضحالة التأصيل الذي ذكرنا، ولتعرف قيمة هذا الأمر اقرأ معي دعاء موسى عليه السلام: (رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي) أو قوله عليه السلام مرجعاً علة طلبه لشد أزره بأخيه إلى ضعف فصاحته: (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءاً يصدقني) وارجع إلى قول الشاعر (أحيحة بن الجلاح):

والقول ذو خطل إذا    ما لم يكن لبّ يعينه (2)

ولتتعظ بهذا في دعاء الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر) في بداية كتابه البيان والتبيين إذ يقول: "اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول، كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلف لما نحسن، كما نعوذ بك من العي والحصر، وقديماً تعوذوا بالله من شرهما، وتتضرعوا إلى الله في السلامة منهما"(3).

إنه دعاء يطلب من الله أن يصحح اللسان ويؤصله، ويصلح القلم، ويكمله ويخلصه من النواقص والعي والحصر، فهذه المطالب هي عدة الداعية ومركبه إلى النجاح.

ب- الحضور:

وأما الحضور فهو المستلزم الهام الثاني، الذي يجب أن يوفره الكاتب لنفسه ولقلمه، كي يبقى صاعداً في سلم الارتقاء الزماني والمكاني. ونعني بالحضور:

1- رحلة في العصر، تجعل منه ابن وقته، الذي يجاري بيانه فرسان عصره، ممتطياً هامات الكلمة الحق، مستمعاً في هذا الشأن إلى كلام الجاحظ: "وإن كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة المنة يوم الحفل فلا تقصر في التماس أعلاها صورة وأرفعها في البيان منزلة"(4).

وذلك طبعاً مع ملاحظة مايلي:

قالت العرب: "مقتل الرجل بين لحييه وفكيه" أي في لسانه لذا وجب حفظ اللسان والقلم بالحكمة والعقل وتجنيبهما الخطل والتزيد، والتكلم أو الكتابة التي لا تراعي الأفهام والظرف، أو المتلقين وحاجاتهم وما يدركون؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستفزنكم الشيطان فإنما أنا عبد الله ورسوله". وقد كان هذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم رداً على وفد من العرب حاولوا مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتزيد.. وقال أبو العتاهية:

والصمت أجمل بالفتى   من منطق في غير حينه

وكان سهل بن هارون يقول: "سياسة البلاغة أشد من البلاغة، كما أن التوقي على الدواء أشد من الدواء"(5).

فلكل كتاب سياسة يجب أن تستوعب الظرف، وتغرف من معارف العصر، وتتوقى من الغياب عن واقع الحال أو الغموض المذهب للفهم، والرأي الذي يجيء في غير وقته وعلى غير ارتياح من ذهن مستمعه.

والخلاصة: إن رحلة في العصر تستوجب: الاطلاع عليه، واستيعاب أحواله ومآلاته وحراكه، والأخذ بسياسة في الكتابة: واضحة الأسلوب، لاحبة الطريق، محددة الهدف، بعيدة عن الخبط العشوائي، وكل ذلك يحتاج إلى التبين والتثبت والحذر من الزلل في الكلام والرأي، فضلاً عن الموضوعية والحلم والعلم والتعلم (6).

2 – ومعرفة بقدْر النفس وإمكانياتها: قال أفلاطون: "لكل تربةٍ غرس، ولكل بناء أس". وقال الشاعر:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه      وجاوزه إلى ما تستطيع

فاحرص على هذه المعرفة بدقة فهي منجية من الحرج والسقوط والهلاك وانظر إلى قول الشاعر بتأمل:

يموت الفتى من عثرة بلسانه    وليس يموت المرء من عثرة الرجل

3 – ومعالجات تطرق أبواب القلوب بقوة: فقد قيل في كلام قاله المأمون في مسألة: "كان والله كغيث وقع على أرض عطشةٍ"(7).

وقال المتنبي عن الكلام المؤثر:

إذا ما صافح الأسماع يوماً     تبسمت الضمائر والقلوب

فكيف يتحقق لك ذلك السحر من الكلام يا صاحِ؟

- بمتابعة أحوال الناس ومعرفة قضاياهم واهتماماتهم، وتناول ذلك كله في المعالجة.

- معرفة الظرف المناسب والوعاء المناسب للكلام المعالج، بحيث يكون الكاتب كالطبيب الحاذق يعرف أين يضع دواءه وكيف ينتفع به.

- الابتعاد عن اجترار الأفكار والحلول والإعادة والرد، والمراوحة عند ما هو مطروح من معالجات، وإن كان بأسلوب جديد. وهذا يعني الابتكار.

- أخذ زمام المبادرة دائماً ما أمكن ذلك، فالبادئ هو صاحب السبق ومحور الحوار وقلما تجور عليه الساحات.

- تسجيل كل ما يمر بك وكل ما تسمع وما ترى، ولا تعتمد على الذاكرة فقد تخونك وأنت بعد ذلك بالخيار، تنتقي من الموضوعات والقضايا ما يلائم اللحظة وما يغطي الفكرة.

ج- التفوق بالإضافة:

1- وأول إضافة تتفوق بها أيها الكاتب المؤمن أن تكون كلمتك هي موقفك، يبرز منهما صلاح أمرك، وعلو خلقك وصدق حالك؛ فقديماً قال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: "ليكن إصلاحك لولدي إصلاح نفسك، فإن عيونهم معقودة بعينيك...".

2- والثاني من أدوات التفوق بالإضافة إن تكلم الناس بما هم في نهم إليه، وشوق إلى سماع وقراءة الرأي السديد فيه.

3- واجعل دائماً الحق ضالتك، والسداد مطلبك، والمراء منبوذاً عندك. والصدق ديدنك، ونبذ الشتائم مذهبك، تكن من المتفوقين القريبين من القلوب والعقول.

4- واستفد من صنع غيرك ولا ترفع الأنف، فإن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.

5- واطرق المعالجة البكر السديدة تفز بالنتيجة، وتقر عينك بالإضافة الجديدة، وتحرز التفوق والقبول، وتقبل عليك العيون بالمتابعة والاهتمام، وتأخذ مقامك المتقدم بين أضرابك من أهل الكتابة والآداب.. فضلاً عن شد أزرك بالتوفيق..

والله تعالى أعلم.

الهوامش:

(1) النقد والنقاد المعاصرين ص238.

(2) البيان والتبيين ص9 دار الكتب العلمية –بيروت/ج1.

(3) المرجع السابق ص7: والسلاطة: طول اللسان، والهذر: الكلام الكثير الرديء، والحصر: العي في المنطق، والعي: ضعف النطق.

(4) المرجع السابق ص139 .

(5) البيان والتبيين ص  دار الكتب العلمية –بيروت/ج1136

(6) المرجع السابق ص137.

(7) كتاب محاضرات الأدباء ص60.

يتبع