أزمة الكتاب وجدلية العقل
أزمة الكتاب وجدلية العقل
علاء الدين آل رشي - كاتب سوري
تحسب لصحيفة الحياة نقطة إيجابية أن تثير أزمة الكتاب العربي على مشارف الألفية الميلادية الثالثة وأن تخصص جزءاً من صفحاتها لآراء ناشرين عرب، ويبدو عظم هذا الموضوع من خلال التساؤلات الكثيرة والمؤرقة حول المشهد الثقافي للأمة العربية والإسلامية، فهل الكتاب والكاتب يسهمان حقاً في بناء وعي متميز للإنسان العربي المسلـم؟ أم أن الكتاب العربي ينتظر منقذاً ومخلصاً له من تلك القطيعة بينه وبين اهتمامات الفرد في المجتمعات العربية والإسلامية؟
ثم إن هناك محاذير ومخاوف تبعث على القلق؛ منها أن نسبة الأمية في العالم الإسلامي تتراوح بين 45% و60% وأن عدد الأميين قد ارتفع إلى 66% هذا العام، وكل ما تطبعه دور النشر العربية مجتمعة لا يصل إلى نصف ما تنشره إسرائيل (حسب إحصائيات اليونسكو لسنة 1996م).
وفي واقع مأزوم كهذا لا تجدي معه ثرثرة أو كلام إنشائي لا يصوغ نسقاً معرفياً يتغيا الجذر (الأزمة) وتجلياتها في الواقع وكنت قد تأملت فيما ذكره السيد عودات العدد (13501) من ملاحظات حول أزمة الكتاب محاولاً أن يقنعنا أن الأزمة مثلثة الأطراف: (عزوف القارئ عن الكتاب، وقلة عدد العناوين المنشورة، وقلة عدد النسخ المنشورة).
وحسب رأيي إن كلامه ليس دقيقاً ولا علمياً، فالواقع الذي يحكيه إنما هو ثمرة وتجل، وبكلمة إن الرحم المولدة لهذا الجنين المشوه (عقل عازف عن القراءة) علة لمعلول، وسبب لمسبب وأثر لمؤثر، وليست هي الأصل.
إن أزمة الكتاب تتلخص في أننا أمة -على الأغلب- ما تعودت على القراءة بل تؤثر عدم الكد وإعمال العقل والبعد عن ثقافة بعد النظر والغرق في الآنية والانفعالية (هذا لا يعني عدم وجود صفات إيجابية والكلام لا يصدق على العموم)، ثم هناك العفن السياسي الذي كرس ثقافة الصمت وكمّ الأفواه واغتيال العقل وارتهان الإرادة ولذلك لا غرابة أن نسمع أن كتب الأحلام وتفاسيرها وفنون الطبخ وألوانه تسجل أكثر الكتب مبيعاً في المعارض ناهيك عن التجميل والمكياج وفنون التزويق النسائي.
الأزمة لمّا تَبِعتْ السلطةُ الثقافية المعرفية السلطة السياسية، حيث أصبحت السلطة السياسية تستنبت الأفكار.
منذ سنين عدة وقعنا في ظل ثقافة متماوتة تتيه في شرنقة الأزمات الماضية ولا تتطلع إلى حاضرها إنها تعيش في مسائل خلق القرآن مثلاً، وجدلية العلاقة بين الهوية الإسلامية والانتماء العربي وهكذا تدور في مسائل تستهلك العقل بما لا طائل منه وبالتالي يكرر نوع من الثقافة المنومة والمخدرة للشعوب ومع الزمن سينفر الناس عن الكتاب لأنه لا يحاكيهم ولا يتماشى مع واقعهم.
إن الحرف قوة وبارقة تعمي أبصار أصحاب المصلحة الذين لا يريدون لشعوبهم سوى وعي مؤطر أو مسخر أو مغيب، أقصى ما تبتغيه السلطات السياسية من شعوبها أن يتيه الشاب في قد فتاة حسناء ويسعى لسيارة فارهة وبيت فخم، وحسبك وسائل الإعلام وما تكرس من حس فضائحي ينم عن غياب معنى الكلمة المقروءة.
وليس ثمة مخاوف من التقنيات العلمية ولا داعي للذعر الذي أبداه الأستاذ عودات فإن أمريكا وأوربة لا يزال للكتاب قيمة عندها على الرغم من التفاوت الحضاري، الخوف يا سيد عودات هو أن يطول غفو وسبات العقل العربي الذي أدى إلى أزمة الكتاب الملحوظة، إن ما يلزمنا هو إعادة تشكيل العقل العربي وهو جهد ينبغي أن تتضافر فيه جميع المؤسسات الرسمية والأهلية وتوضع الخطط المرحلية لذلك ويدرس جدواها وثمارها على الواقع.
يؤسفني أن أقول إننا لم ندرك بعد قيمة القراءة التي هي فعل حضاري يختزل الطيف الوجودي إلى مفردات ذات تناغم وتناسق يتبدَّى عنها ظواهر حضارية منها احترام الآخر وهو وعي حضاري لا ترسخه إلا ممارسة فعل القراءة التي تخلق المثاقفة والمحاورة وضرورة وجود الآخر وتعد الحياة ميداناً رحباً.
والأستاذ عودات لم يأت بشيء جديد يستقرئ الواقع في عالم الأسباب الذي تحكيه سنن الكون المرئية، بل همش الكثير من الأسباب الحقيقية لأزمة الكتاب والخطورة في تبسيطه المخل وتعداده الذي يصور طرق الخلاص بأشياء سطحية منها "دعم الكتاب بإلغاء الرسوم وتخفيف أجور نقله وإصدار قوانين حماية الملكية الفكرية و..".
أعود فأقول قبل كل هذا المطلوب إحياء الإنسان العربي بمداركه وحواسه وعقله، إنساننا العربي المهمش، لنعيد لعقله النضارة والحيوية، ولنكفّ ولا نؤيد من يحاول أن يستنبت أفكاره أو أن يملي عليه ثقافة صنعتها عصا السلطان أو طبشورة المعلم.
عندما ينأى العقل العربي عن شتى أنواع المحضّر مسبقاً سيعود للقراءة لأنه سيجد فيها
نفسه ومحيطه ودوره في المنتدى الحضاري الفاعل، وهنا فإن الأنساق الحيوية ستتبادل
التأثر والتأثير ونخرج من انكسارات الحاضر إلى أمجاد الماضي ونستجيب لصيحة (اقرأ)
التي ليست إلا استثماراً للعقل وتوظيفه والخروج به على كل أنواع القهر ليعيش العربي
قارئاً حراً ولن تبقى للكتاب أزمة بعد أن يضاء مصباح العقل العربي.