كيف تصبح كاتباً (5)

كيف تصبح كاتباً (5)

تنمية الموهبة

ج (الإطلاع الواسع والمستمر)

بقلم: محمد السيد

1 - البرعم يتطور:

أرأيت إلى البرعم يحاور خيوط الفجر. من أجل أن تتفتح أوراقه، وتنفض أكمامه عن أجفانها ندى النوم، وذلك لتدخل صخب الحياة، مسلحة بالشذى ترسله إلى كل  الأنحاء لتحصل على الثقة ثم الإعجاب، ثم الاتجاه إليها كي يرشف منها المرتشفون ذلك اللون الرائع، والجمال المتناسق، والعطر الرباني الحالم.

ذلك هو مثل المبدع الإنسان، يتفتح ويتطور، وترتفع قامته وتنهض، كلما ازداد حواراً مع كل ما حوله، فهو في صعود دائم ما دام ينهل من معين الثقافة الذي لا ينضب، بكل فروعها، بادئاً بأساسياتها وتراثها، ماراً بفروعها المتنوعة، منتهياً إلى الحاضر وما يدور فيه من تفاعلات ثقافية، يحتاج فيها إلى جواز مرور يكون مليئاً بتأشيرات الوعي العالي، والإيمان الواقي والهمة اللامتناهية، والقريحة المتجددة الإبداع، واللغة الخارقة لحصون العصر، التي تغلفت بجدران سميكة من الادعاء التقني المتفجر، محاولة تعميم ثقافة واحدة بعينها، لتكون سيدة الجميع، تحت مسمى يبدو في ظاهره محبباًً، لكنه مبطن من الداخل بسموم الهيمنة واستلاب كل الداخلين إلى محاضنها، وتحويلهم إلى سدنة يخدمون رفاه شعوب أسياد (العولمة).

ولا بد لهذا البرعم الموهبي المؤمن من حيازة التحلي ببراءة متمردة على ثقافة الاستسلام، التي راحت تغزو أسواقنا الثقافية، وذلك من أجل أن يكون صوتاً يقاتل لإيقاف عملية تقديم الشهداء لمحكمة الإرهاب. ناطقاً رسمياً باسم خصوصية الهوية، وتميز هذه الأمة بكتابها الكريم المرسوم بآيات الله البينات، التي تفيض بالحرص على الإنسان من خلال بيان بلاغي معجز، حق لكل برعم أن ينطلق من التعرف عليه ابتداءً، تعرفاً إيمانياً عقدياً أولاً، ثم ليسوح في معجزاته البلاغية البيانية التي لا تنقضي عجائبها، ولا ينتهي تجدد معانيها، وتلألؤ ألفاظها وحروفها الفذة. حيث من هذه النقطة بالذات تبدأ حركة تطور البرعم، حركة واعية مبصرة، شامخة التطلعات، موفقة الخطوات، راسخة في العلم والفهم والتعبير، قابلة راضية معتزة بالمنة العظمى التي امتنها الله على الإنسان إذ قال: (الرحمن، علم القرآن ، خلق الإنسان، علمه البيان.)(1)

2 - آفاق الاطلاع:

إنما صنع الكلام لإفادة المعاني، والبلاغة فيه أن تبلغ به ما تريد من نفس المخاطب من إقناع وترغيب وترهيب وتشويق وتعجيب أو إدخال سرور أو حزن أو غير ذلك فالبلاغة ملكة روحية وأريحية نفسية، وليست صناعة لفظية محضة، لا بد من الاهتداء إلى أسباب تجعل الكلام مؤثراً.(2)

وبناء على هذا نستطيع القول: إن الكلمة تاريخ ولغة وفقه وقانون وعلم، وخبرة إنسانية، وتجربة حياتية، وحالة نفسية ذات معان عميقة، وعاطفة جياشة ممتزجة بلفظ معبر، وفلسفة نازعة إلى بناء الحياة على أسس فكرية، وإرادة جماعية. فمتى كانت الكلمة المزجاة جامدة ميتة غير ناطقة بكل هذا الذي ذكرناه، أصبحت غير ذات قيمة أو جدوى كما ذكر الرافعي في إعجاز القرآن صفحة (20).

ولقد نقل عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كلاماً داعما ً لما أوردناه، واصفة به كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه، فقالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيّن فصل، يحفظه من جلس إليه". وهذا يعني أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في القمة من البيان، (بين فصل) فيه النفع والفائدة والحلول والخبرات والتاريخ المفيد، والعلاج الناجع، والفهم الواضح النير المبصر، المخترق لحصون المعتدين الظالمين، السالك بلين وقوة قلوب المؤمنين، البين، المداوي الهادي، المتعامل مع حياة الناس بما يرقيها، ويرفع تطلعاتها.

من كل ما تقدم نستطيع تحديد مجالات الاطلاع، وعناصر الثقافة المطلوب من صاحب الموهبة حيازتها، إن أراد تنمية موهبته والارتفاع بها:

 أ - العيش مع القرآن وتمثل تعاليمه، والتعرف على علومه، والدخول إلى معالم بيانه وبلاغته، وإعجازه الذي يخترق العصور والجغرافيا، فالقرآن هو المدرسة الأولى والأساسية لكل الشادين المبتغين ركوب صهوات البيان، الكاتبين للنفس وللغير، (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).

(ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون).

والقرآن هو تاريخ وأساس وامتداد ثقافة وبيان لغتنا وأمتنا، وهو الذي يقيم أداءها على الوجه الذي نطق به أصحابها الأوائل، وييسر ذلك لأهلها في كل عصر: (ولولا هذا الكتاب الكريم لما وجد على الأرض أسود ولا أحمر يعرف اليوم ولا قبل اليوم كيف كانت تنطق العرب بألسنتها، وكيف تقيم أحرفها وتحقق مخارجها، وهذا أمر يكون في ذهابه ذهاب البيان العربي جملته أو عامته.(3)

ب - أن تتفتح البراعم من نسغ السنة وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو امتداد بيان السماء فوق الأرض، وفعل تعاليم رب العالمين متمثلة بحركة بشر نبي، يعيش بين الناس يؤاكلهم ويشاربهم، يدعوهم ويجاهد بنفسه وبهم، ويرعى شؤونهم ويتقلب معهم في الحياة بحلوها ومرها نصرها وتراجعها.. فهو البيان العملي الفذ للإسلام في هذه الأرض ومع الناس. وهو الأساس الثاني بعد القرآن في البناء الثقافي وتنمية موهبة الموهوبين بصورة صحيحة سديدة. وقد وصف الرافعي بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام جميل إذ قال: "هذه البلاغة الإنسانية التي سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دون غايتها، لم تصنع وهي من الأحكام كأنها مصنوعة، ولم يتكلف لها وهي على السهولة بعيدة ممنوعة) (4) وإذن فالعيش في ظلال هذا البيان والتعامل معه أساس ركين من أساسات ثقافة صاحب الموهبة.

ج - الأخذ من كل علم وفن بطرف:

بين ابن قتيبة في مقدمة كتابه "أدب الكاتب" ما يحتاجه الذي يشدو موهبة الكتابة من أدوات وسعة اطلاع بما يلي:

- أن يشدو شيئاً من الإعراب - وأن يتعرف على شيء من علم الهندسة والرياضيات.

- ولا بد له من النظر في جمل من الفقه.

كما لا بد له من معرفة أخبار الناس ومعرفة أحوالهم وأقدارهم أوضاعهم، وما يصلح لهم أن يخاطبوا به (أي أن يعرف شيئاً عن الفلسفة والاجتماع والنفس والأدب الخاص والعام).

- والاطلاع على الكتيبات التي وضعها ابن قتيبة من أجل من يريدون دخول معترك التبليغ عن طريق الكتابة وهي كتب خفاف، يشتمل كل منها على فن من الفنون والعلوم كما قال ابن قتيبة.

د- وأضيف في هذا الباب ما يفيد أن صاحب الموهبة لكي يحقق تنمية موهبته أن يكون مطلعاً على :

- ثقافات الشعوب الأخرى وآداابها وفلسفاتها.

- وعلى أسس ورئيسيات التقنيات المعاصرة.

- على تراث أمته في مختلف الفنون.

- على تاريخ أمته والأمم الأخرى.

وحتى لا نكثر على صاحب الموهبة ونطيل عليه بقوائم طويلة عريضة، قد توقعه بالإحباط، فإننا نقول: ليس المطلوب من صاحب الموهبة أن يكون عالماً ضليعاً بكل ما ذكرناه، بل المطلوب أن يكون لديه اطلاع إلمام عام، وفهم عام، وصورة عامة عن كل ما ورد، بحيث يستطيع استعماله في خطابه البلاغي الإبلاغي بشكل يجعل لخطابه قوة وقدرة على الاختراق، خصوصاً في عصرنا الحاضر الذي اتكأ على كم هائل من الثقافات الزائفة والتقنيات الفتاكة.

"وبما أن الكلام: هو الذي يعطي العلوم منازلها، ويبين مراتبها، ويكشف عن صورها، ويجني صنوف ثمرها، ويدل على سرائرها، وبه أبان الله تعالى الإنسان من سائر الحيوان"(5) فإن صاحب الكلام الذي يمتلك أبكر مخزون ثقافي في ذاكرته، ويحسن استعمال هذا المخزون في كلماته، يستفيد أيما فائدة من ذلك كله في رفعة قلمه وبلاغة إبلاغه. وإعطاء التراث حياة جديدة مناسبة للعصر.

3 - الحصن الحصين والمرجعية القويمة:

لقد كان القرآن وثقافة القرآن والسنة النبوية المرجعين القويمين الثابتين لكل الشداة في باب الكتابة، وذلك إذا أرادوا لشخصيتهم أن لا تتماهي في شخصيات الآخرين وثقافاتهم وحضارتهم، وقد شكل الاعتماد المعاصر على ثقافات الآخرين والرضوخ للأبعاد المعنوية لمنتجاته المادية والحضارية والفكرية، إضافة إلى الجهل التام أو الجزئي بثقافة المرجعيات والحصون الأساسية للأمة أقول شكل ذلك ارتداداً كارثياً في موقف ومكانة أمتنا، مما جر إلى هذه الأوضاع المزرية التي تعشها الأمة. من تخلف وضعف وذيلية.

- ولقد كان من نتائج الجهل بالمرجعية القرآنية والسنة النبوية، أن كرس أهل هذا الجهل مجهوداتهم الكبرى للهجوم على اللغة العربية؛ الأداة العظيمة، ثقافة المرجعية الحصينة. فقامت دعوات تجحد فصاحة هذه اللغة وبلاغة مرجعياتها، وتسعى إلى تفجير هذه اللغة بالأساليب المتمنطقة بقنابل الحداثة الزائفة، ونبذ أساليب الأجداد والانقطاع عنها نهائياً. بل إن البعض دعا إلى ترك الفصحى والخوض في غمار العامية والفوضى، وذلك من أجل قطع الوصل بين الحاضر والماضي ليأتي المستقبل تافهاً ضائعاً.. ووصل الأمر بالبعض أن تجرأ على الدعوة لهجر الحرف العربي والكتابة بالحرف اللاتيني كما فعل "أتاتورك" المجرم في تركيا، الذي اتخذ الحرف اللاتيني بدلاً من الحرف العربي لكتابة اللغة التركية. لذا فإن ناشئة الكتاب من الموهوبين المؤمنين مثقلون بالمهام العظام التي يتمثل أهمهما وأعظمها، بإعادة الرونق والجلاء للاعتماد على المرجعية القرآنية النبوية القويمة، تلك الإعادة التي راحت تأخذ مكانها في مقدمة البناء الثقافي لمجتمعات الأمة العصرية، على يد العديد من عمالقة الثقافة الإسلامية العربية المعاصرة.. ولكن الطريق لاحب وطويل، ويحتاج إلى تتابع الأجيال وتراكم الخبرات، وعمق الانتماء، ولمزيد من الأسماء المليئة بالنماء والتطور والمعاصرة والمعبأة بالمرجعية الأصلية المتصلة القويمة الحصينة.

الهوامش

1 – (1، 2، 3، 4) سورة الرحمن.

2 - هذا الكلام من مقدمات كتاب دلائل الإعجاز - عبد القاهر الجرجاني ص7. ط 2 دار المعرفة - بيروت.

3 - إعجاز القرآن مصطفى صادق الرافعي ص 81.

4 - إعجاز القرآن ص 279.

5 - أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني ص 5.

يتبع