المذهبية الإسلامية ومعارك المصطلحات
المفكّر الإسلامي محسن عبد الحميد
المذهبية الإسلامية ومعارك المصطلحات
يوسف يوسف
شغلت قضايا المصطلح وما تزال أذهان عدد كبير من المفكّرين. وهؤلاء انقسموا، كما نعرف، بين رافض للكثير من المصطلحات التي يرونها غريبة عن منظومتنا الاجتماعية والحضارية، ومبشّر بها يرى أنّها لغة عالمية يمكنها استيعاب معارف بقية الأمم وعلومها، وثالث يحاول التوفيق بين هذا وذاك. ورغم أنّ كلّ قسم يحرص على تقديم حججه، إلاّ أنّ المعركة لم تحسم، وأغلب الظنّ أنّها ستبقى مستعرة ما دام هناك صراع بين الكفر والإيمان.
فالأوّل يتّهم الثاني بمحاولات التغريب والارتماء في أحضان منظومة أخرى.
بينما الثاني يتّهم الأول بالسلفية والجمود وعدم القدرة على استيعاب متطلّبات التغيير الحضاري الذي يشهده عصرنا الراهن.
ويمكن من قراءة الكثير مما كتب حول قضايا المصطلح القول أنّ أغلب المطارحات الفكرية في هذا الخصوص ابتعدت عن أبسط مقوّمات النقاش الهادئ، وأنّها دخلت في أتون الجدل البيزنطي الذي لا طائل من ورائه. وهي إلى جانب ذلك، تكشف عّما يمكن أن نسمّيها النظرة الأحادية التي تسقط اجتهاد الآخر بدون مبّرر منطقي، كما أنّ أصحابها يتناسون عن عمد، في حمّى الجدل الذي يخوضون فيه قاعدة نشأة المصطلحات وظهورها في هذا المجتمع أو ذاك. وإذا ما أردنا البحث عن سبب لهذا التشرذم فنحن أمام احتمالين:
فأمَّا الأوّل فإنَّ أغلب الكتابات وما تبشّر به من آراء ومفاهيم، تفتقد الحجّة المنطقية التي تؤكد أنّ صاحبها يتمترس خلف ترسانة ثقافية هائلة تمكّنه من إقناع الآخرين.
وأما الثاني: فإنّ هؤلاء يتمترسون خلف مفهوم مسبق لا يقبلون التنازل عنه.
ومع الاحتمالين فإنّ الطامة ليست أقل من تلك التي يسبّبها جهل طبيب مسلم بمكانة العالم المسلم (ابن النفيس) مكتشف الدورة الدموية.
وعندما ينبري مفكّر عربي لمناقشة قضيّة تأهيل المصطلح والدعوة لتعريبه يبدو الأمر لنا طبيعياً كعرب. أما أن ينبري مفكّر كردي لحمل الدعوة ذاتها، وإن تباينت المنطلقات، ففيه بعض من الاستثناء، وربّما الكثير مما يدعو للدهشة.
وإذا كنّا قد حكمنا باعتبار الأمر طبيعياً في الحالة الأولى، على اعتبار أنّ رفض التأصيل هو الاستثناء الذي يمارسه فاقدو الهوية، فإنّ الدكتور محسن عبد الحميد الذي تتلاشى قوميته انسجاماً مع عقيدته الإسلامية كمفكّر، يبدّد دهشتنا بالسرعة نفسها التي نتقبّل فيها الموقف الأوّل. ودفاعه عن المصطلح بالدعوة إلى تأصيله، دفاع عن حالتين إحداهما تكمل الأخرى، وتنمو فيها، وهما العروبة والإسلام، فهو في اعتقادنا يرى نفسه في الحالتين معاً، لكن ضمن الفهم الذي يقدّمه لكل منهما، فالأولى التي يقصدها هي عروبة القرآن، وعروبة الإسلام، وعروبة محمد صلى الله عليه وسلم، التي يتمثّلها في الحديث النبوي الشريف (ليست العربية من أحدكم بأبٍ أو أم، وإنّما العربية اللسان، فمن تكلّم العربية فهو عربي).
وأما الإسلام، فيراه من خلال دائرة يحدّدها بدائرة الإسلام التي تجمع بين المسلمين جميعاً في أمة واحدة، ودائرة الدين عامة، وكذلك دائرة الأصل البشري والأخوة الإنسانية عامة.
وأهميّة آرائه في المصطلح وقضاياه، متأتّية من مكانته كمفكر إسلامي، فهو صاحب مؤلّفات عديدة، تربو، مع سلسلة رسائله (البيضاء) على الأربعين. وهي ليست من ذلك الصنف من المؤلفات التي يمكن نعتها بالتجميعية، فهو صاحب اجتهاد يرى ضرورة أن يواكب المجتهد عصره، وأن يحترم عقله، في الوقت الذي لا ينكر على الآخرين حقهم في الاجتهاد.
ولعلنا، بالإشارة إلى بعض عنوانات كتبه، نلقي ولو قليلاً من الضوء على مكانته، ومنها:
- منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام.
- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري.
- أزمة المثقفين تجاه الإسلام في العصر الحديث.
- تجديد الفكر الإسلامي.
- نظرات في الاقتصاد الإسلامي.
- صراع الأفكار في المجتمع الإسلامي.
- حقّ المعارضة السياسية في المجتمع الإسلامي.
- نظرات في تفسير آيات من القرآن.
- تفسير آيات الصفات بين المثبتة والمؤوّلة.
- المنهج الشمولي في فهم الإسلام.
وكثيراً ما حملته كتاباته إلى الاختلاف مع مفكّرين ذوي مشارب مختلفة. والاختلاف الذي يتشبّث به، ينأى عن السفسطائية وآلية ذوي الجدل العقيم. إنه من دعاة احترام العقل، لكن ضمن شروط وقياسات المنهج الشمولي الذي على المفكّر أن يتحصّن فيه، ويطلّ منه على الآخرين وجهودهم. ومن أمثلة هذا الاختلاف، رفضه لاستعمال مصطلحي (الفكر الإسلامي) و(الفكرة الإسلامية) رغم أنّ هذا الاستعمال أتى في مجرى كتابات مفكّرين إسلاميين منهم الدكتور محمد البهي، والأستاذ محمد المبارك، والدكتور عبد الحليم محمود. كما أنّه اختلف مع الأستاذ سيّد قطب في استعمال مصطلح (التصوّر الإسلامي) بدل (الفكر الإسلامي). وفي اختلافه فإنّه يسوق الأسباب. فاستخدام مصطلح الفكر الإسلامي يصحّ برأيه على ما أنتجه الفكر المسلم الذي ينطلق من الإسلام في مضامير الحياة كلّها، وأبداً فإنّه باعتقاده لا يجوز أن يستعمل للدلالة على الوحي الإلهي، انطلاقاً من حقيقة أنّ الفكر إفراز عقلي بشري، أما الوحي فمعصوم. أما بخصوص مصطلح (التصوّر الإسلامي) فيرى أنّه قد يحدث التباساً لأنّه قد لا يستعمل التصوّر بمعنى كلّيات الوحي الإلهي، بل قد يستعمل بمعناه الثاني الذي يدلّ على أنه إفراز للعقل. ولأن الاختلاف عنده يعني الانضباط كما أشرنا في حدود المنهج الشمولي، فإنّه يقترح استخدام مصطلح (المذهبية الإسلامية) للدلالة على ما ذهب إليه الإسلام في أمور الكون وخالقه والحياة والإنسان. إنه يرفض ويقترح ما هو دالّ، فالمذهبية تصبح مصطلحاً يمتاز بالأصالة، ويحول من جهد أخرى دون استخدام كلمة (الأيديولوجية) الأجنبية بمعنى الأصول والكليات الإسلامية. واختلافه يظهر كذلك مع القائلين بإمكانية إحداث التغيير في العالم الإسلامي، لاسيما العربي منه، بالاعتماد على الفلسفات الماديّة والعلمانية، ومن هؤلاء حسين مروّة، والطيّب تيزيني، وعبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري وعبد الكبير الخطيبي، وقد خاض مع هؤلاء معارك مهمة، ويأخذ عليهم تجاهلهم لحقيقتين:
الأولى: ترتبط باستقلال الإسلام من حيث هو وحي إلهي عن الزمان والمكان.
والثانية: جهلهم المركّب بحقيقة أنّ علماء الإسلام ومفكّريه وفقهاءه أدركوا تمام الإدراك، أنّ ما في التاريخ الإسلامي من الاتجاهات والمذاهب الفكرية، لا يدخل في المفهوم السابق، بل هو تاريخ الاجتهاد المناسب للمراحل الزمنية، يمكن تجاوز أية جزئية أو قضية فيه، وإخضاعها من جديد إلى المناقشة وعرضها على مدى تحقيقها للمصالح الحاضرة المضبوطة.
لقد أولى الدكتور محسن عبد الحميد قضية المصطلح اهتماماً كبيراً، وفضلاً عن حرصه الشديد على المصطلحات التي يستخدمها في كتاباته، فإنه ناقشها في كتابه الهام (المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري) الذي صدر حتى الآن في أربع طبعات. وأهمية القضية تتأتى من طبيعة الصراع الذي يراه، فهو صراع يهدف الغرب من ورائه إلى احتواء معطيات الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة الإسلامية، إنّه يرى أنّ المصطلحات مشروع لمعركة ثقافية كبيرة، يديرها الغرب الذي يحاول التسلّل إلى ثقافتنا عبر الكثير من مفاهيمه ومصطلحاته. وهكذا فإنّه يحاول أن يدير المعركة على طريقته، باقتراح مصطلحات تمتاز بالأصالة، وبالقدرة على استيعاب عطيات حياتنا الواهنة. وكما نرى من إدارته للمعركة، فإنّه يلتقي مع روجيه جارودي في تحطيم العصمة الموهومة للحضارة الغربية الأوروبية، ويرفض أن يجعلها مقياساً لكلّ حضارة وتقدّم.
وفي المقدّمة إلى (المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري) يقول عمر عبيد حسنة:
"إنّ المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم الفكرية التي تحدّد هويّة الأمة بمالها من رصيد نفسي ودلالات فكرية، وتطبيقات تاريخية مأمونة، إنها أوعية النقل الثقافي، وأقنية التواصل الحضاري، وعدم تحديدها ووضوحها يؤدّيان إلى لون من التسطيح الخطير في الشخصية المسلمة، والتقطيع لصورة تواصلها الحضاري.
ويمكن للباحث في فكر عبد الحميد أن يكتشف نزوعه إلى استخدام مقاييس الفحص والاختبار. وهو عندما ينبري للمواجهة، يستحضر كلّ ما في ترسانته الثقافية، ليس من أجل المحافظة على مصطلحات الأمة فقط، وإنما من أجل الكشف عن مدلولاتها للإبقاء على ما يجب أن يبقى ونفي مالا يستطيع التعبير عن عصرنا، ثم إنه لا يستسلم لصفات (الفكر الدفاعي) فمهمته الهجوم المضادّ، ما دام الغرب قد شنّ الهجوم علينا.
وإذا ما أردنا التفعيل، فإنه عندما يطرح مصطلح (المذهبية الإسلامية) على سبيل المثال، ينظر إلى ما حوله وما سبقه، فإذا كان السائد الذي لا يلتقي معه هو استخدام مصطلح (الأيديولوجية) الذي يعني العقيدة الإنسانية، أي ما يصل إليه الإنسان بفكره لتأسيس مفاهيمه الأساسية التي تشكل إطاراً فكرياً لنظرته الكليّة إلى الوجود، وإذا كان لا يلتقي مع مصطلحي "الفكر الإسلامي" و"الفكرة الإسلامية" بحسب الاستخدامات التي يراها أصحابها ممن سبقت الإشارة إليهم، فإنه لا يلتقي كذلك مع القائلين باستخدام مصطلح (العقيدة الإسلامية) ذلك لأنه مصطلح مستعمل منذ القديم. وهو هنا لا يرفضه لقدمه، وإنّما لأنّه ينحصر في إطار الدلالة إلى الإلهيات والنبوّات والمعاد والقضاء والقدر فقط، ثم إنه يبحث عن مصطلح أشمل منه.
ومصطلح (المذهبية الإسلامية) يشمل العقيدة الإسلامية، كما يشمل غيرها من الكلّيات التي ارتضاها الإسلام في العالم المادي لضبط حركته، سواء في الحياة عموماً أو في المجتمع، أو داخل عالم الإنسان من حيث هو فرد. وتتمة لحجتّه المنطقية التي يبحث عنها بهدف إقناع القارئ بصواب منطلقاته، فإنه يعرّفه بظروف نشأة المصطلح. إذ سابقاً عندما حصر علماء الكلام كلّيات الإسلام في دائرة الموضوعات الأربعة، سموها (العقيدة الإسلامية) أو (علم الكلام) أو (التوحيد) وفي ذلك فقد انطلقوا من واقع الصراع الفكري في عصرهم، ومن القضايا مثار النقاش يومئذ مع الفلاسفة ولاهوتي أهل الملل والنحل الأخرى. أما اليوم، فقد تبدّلت ظروف الصراع الفكري، فالمذاهب الأخرى تقدّم كلّياتها في القضايا التي تتعلّق بأصول عقائدها وفكرها في إطار الكون وخالقه والحياة والمجتمع والإنسان، ولأنّ الإسلام حدّد مواقفه التفصيلية من أصول القضايا الكبرى في الحياة والمجتمع والإنسان، فلابدّ أن تضيف تلك التفعيلات على الأصول العقائدية الأخرى، حتى تتأصّل عندنا المصطلحات، وبضمنها مصطلح (المذهبية الإسلامية) بشمولها، كي نستطيع مواجهة المذهبيات الأخرى، في كلّ ما تتعرّض له من أصول أفكارها.
بهذا فهو يضم المصطلح من سياقه وعصره. وعلى ذلك يتحدّد موقفه منه فهو إما أن يبقيه في ساحة المعركة، أو يدعو لإخلائه منها. فعلم الكلام بشكله القديم، من جهة، لم يعد يفيدنا في صراعنا العصري، وكما بيّنا، لذلك فإنه لا يعوّل عليه بالطريقة التي اتّبعها السلف. وهو في موقفه هذا ينطلق من بطلان عصمة جهد العقل البشري، ويمنح العصمة للوحي الإلهي وحده. إنه يرفض رفضاً قاطعاً أن تتحوّل الاجتهادات العقلية إلى أصول ثابتة، تحسب على الوحي المعصوم، لأنّ من شأن هذا، كما يرى، إعاقة حركتنا العقلية الحاضرة، كما أنّه يسلب منّا حرية مراجعتنا لاجتهادات أسلافنا، ثم إنه يحول بيننا وبين الحركة باتجاه تأصيل حياتنا الفكرية في ضوء التغييرات التي تحدث في عصرنا.
ولكي يؤكد أهمية المصطلحات التي يعتبرها جزءاً هاماً من المعركة الحضارية الشاملة، فإنه يرفض كذلك رفضاً قاطعاً تلك التي تأتي من خارج منظومتها الخاصّة، ويدعو إلى توليد المصطلحات التي تنسجم مع السياق الإسلامي الذي يجب أن تعيش وتكبر في أفيائه. وهو هنا يريد تحرير الأمة من آثار غزو الغرب الثقافي، بما في ذلك ما يسمّيه التلفيق في إسقاط مفاهيم ومصطلحات وافدة على واقعنا مثلما يفعل الماديون والمتفرنجون من أصحاب الفلسفات الغربية. أي أنه يضع الإسلام بكليته في معركة الحضارة، وليس جزءاً منه كما يفعل التجزيئيون من دعاة الاستفادة من المفاهيم الغربية.
والسؤال الذي يطرح نفسه:
كيف يمكن للمصطلح أن يمتلك نمطه الخاص؟
وكما نعرف فإنّ المجتمعات البشرية أنماط متنوعة في مستوياتها الحضارية التي تشكّل خلفيتها التاريخية وتؤثّر في حياتها حاضراً ومستقبلاً، كما أنّ الإنسان تركيب نفسي وشعوري وعقلي معقّد ومركّب، كما أنه كائن اجتماعي تحكمه قوانين الدين والعادات والتقاليد.. إلخ.. وبسبب كل ذلك، فإنّ لكلّ مجتمع منظومته التي لها وحدة داخلية خاصّة ونسق عام، وإذا أردنا أن تحتفظ حضارة ما بملامحها ووحدتها، وشخصيتها المستقلة، فلابدّ أن يجري التغيير في إطارها، حتى تكون استمراريتها متوازنة ومتواصلة، كي لا تفقد خصائصها، فتنقطع تماماً عن ماضيها وخصائصها وتذوب في حضارات أمم أخرى، تختلف عنها في ركائزها وتصوّراتها والنتائج التي تترتّب عليها.
والمجتمع الإسلامي الذي صاغه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، صياغة حضارية انطلقت من مذهبية في الكون والحياة والمجتمع والإنسان له خصائص معروفة، شكّلت تاريخه وتطوّره وحركته، وحافظت على وحدته الداخلية بانسجام ووضوح. عليه فإنّ أيّ تخطيط للتغيير الاجتماعي لابدّ أن يجري في إطار مذهبيته عقيدة وشريعة وسلوكاً، حتى تحافظ الحضارة الإسلامية على أساسها وخصائصها، وحتى لا تنحرف وتسقط أمام حضارات أخرى، ماديّة في أسسها، مصلحيّة في غاياتها، تؤلّه الإنسان وتسحقه في الوقت ذاته.
إنه يرى أنّ الذين ينطلقون من منطلقات حضارية أخرى تتبع مذهبيات تتنافى في أسسها وخصائصها مع مذهبية الإسلام في الله تعالى والعالم والإنسان، يريدون أن يغيّروا مجرى التاريخ، حتى تظهر أمة أخرى غريبة عن ماضيها، تبدأ من الصفر، ولا تمت إلى الإسلام وحضارته الربّانية الإنسانية السامية بصلة ما.
في ظلّ هذا يفهم الصراع بالمصطلحات أيضاً، وهو جزء من صراع المذهبيات (العقائد) وفي مجال المقارنة فإنه يقول: إن نمط التطوّر العلمي والتقني المعاصر يحمل كلّ خصائص الحضارة الأوروبية، ويلبّي أهدافها وحاجاتها ودوافعها، الأمر الذي كان سيجعل مسار هذا التطوّر مختلفاً لو قادته حضارات أخرى ذات أهداف ودوافع وحاجات وظروف مختلفة عن تلك التي تتّسم بها الحضارة الأوروبية. وأمام ذلك يرى أنه لا مفرّ من وضع العلوم والتقنيات ضمن خصوصية نسقها الحضاري، لتلبّي دوافعه ومصالحه وحاجاته وأهدافه.
وعليه فإنه من جوانب مهمّتنا التغييرية في البناء الجديد، أن نحوّل مناهج الفلسفات والعلوم الإنسانية الغربية إلى مناهج فلسفة إسلامية، وعلم اجتماع إسلامي، وعلم اقتصاد إسلامي، وعلم سياسة إسلامي، وعلم نفس إسلامي، وعلم تربية إسلامي، وهكذا.. مع ما يتبع ذلك من مصطلحات خاصّة بنا بالطبع.
إننا إذا أردنا أن تتغيّر أوضاعنا الحضارية في ضوء المذهبية الإسلامية، فلا بدّ أن تكون مصطلحاتنا الحضارية تعبّر تعبيراً دقيقاً عن حقائقها وطبيعتها ووحدتها الداخلية ومنظومتها المتميّزة، لأنّ في ذلك الصفاء، ووضوح الرؤية واستقامة المنهج. ولأنّ التغيير الحضاري في أي مجتمع إذا قاده التلفيق بين مجموعات اصطلاحية تنتمي إلى منظومات حضارية مختلفة، فإنّ التغيير يفقد التخطيط الموجّه، ويدخل في إطار الفوضى في الفكر والممارسة، فيؤثر ذلك في كيان المجتمع كلّه، كما أنّ فوضى الاصطلاحات من جهة أخرى دليل عدم الأصالة، وبرهان عدم وجود الذات، وفقدان للخصوصية الحضارية.
إنّ من بين المشاكل الفكرية الخطيرة التي نعاني منها في مرحلتنا الحاضرة، تشابك الاصطلاحات التي تنتمي إلى حضارات متضادّة في كل شيء، فمن أهل الفكر من يدعو إلى استعارة المصطلحات الحضارية الأجنبية دون تردّد،، بحجّة أنها أصبحت لغة عالمية، وهؤلاء يرون أنه لابد لنا من أن نسقط لغتنا العقيدية الخاصة، ونتبنى لغة المصطلحات الحديثة الشائعة حتى نصل إلى لغة مشتركة للحوار بين الاتجاهات الفكرية داخل ثقافتنا، وبين حضاراتنا وحضارات أخرى. لكنّ هؤلاء يتناسون أنّ وراء هذه المصطلحات تكمن منظومة حضارية تختلف في مقدّماتها ونتائجها عن منظومتنا الحضارية ونمطها الاجتماعي.
وعليه لابدّ من مصطلح خاص، ذلك لأنها -المصطلحات- في نتيجتها النهائية ستمكّن الفكر العربي الإسلامي المعاصر من تحقيق ذاته، والوقوف بأهلية كاملة أمام الأفكار الغربية، والمشكلة أخيراً تتمثّل في مظهرين: أحدهما يقوده أولئك الذين وقعوا أسرى المصطلحات والأفكار الأوروبية بشكل عام، والثاني اعتقادهم بالعصمة للحضارة الأوروبية واعتبارها نهاية المطاف في تطوّر العقل البشري، وإذا كان من الصعب على القسم الأوّل التحرّر مما حملوه لأنه صورة من صور الاحتواء الثقافي، فإنّ القسم الثاني لم يستطع أن ينفي هذه العصمة حتى الآن، وبين هذا وذاك، فإنّ بوابة العالم الإسلامي ستبقى مغلقة أمام كلّ دعوات التغريب ومصطلحاتها، برغم محاولات التسلّل المتكررة التي نجح بعضها، كما أنّ العلماء المسلمين سيبقون حجر عثرة كبيرة أمام طموحات الغزو الثقافي، فتارة يحاربون على جبهة المصطلح، وأخرى على جبهة المنظومة الخاصة، ومن هؤلاء المفكر الإسلامي الكردي محسن عبد الحميد جزاه الله عن جهوده الجزاء الحسن.