كيف تصبح كاتباً (4)
كيف تصبح كاتباً (4)
تنمية الموهبة
ب – الإطلاع الواسع على فروع المعرفة
بقلم: محمد السيد
1 – كلام في المعرفة: "وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم"(1)
كم تحن كلمات هذه الآية إلى حروف من ذاتها خرجت، وعلى هديها وفي حجرها ترعرعت ونمت وأغدقت، إنها حروف وكلمات رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، يقول فيها للناس –مع تغير الأزمان والأمكنة- "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".. والدين هنا هو علم الحياة على تنوعه، ما يتعلق منه بشأن الإنسان مع ربه أو بالأمور التي ترعى شأنه في حياته اليومية، أو شأنه في مآله ومردّه، وكذلك شأن الفكر والرأي والنظريات التي تطور أساليب الحياة وتجددها وتحسن الحياة اليومية وتيسرها من علم طبيعي وطبي وفلكي ونظر فلسفي. وكل ذلك ممهور بخاتم كلمات الله الفذّة: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"(2) فهذا الإنسان مخلوق بقدر، ولأمر أراده الله، هيأ له كل الأسباب لينتهي إلى النهايات التي رسمها بعلمه القديم، فالأرض والسماء وما فيهن ومن فيهن، كل ذلك مسخّر باتجاه وضع هذا الإنسان –المقدر والمراد- في حومة التجربة البشرية الموجهة بكلمات الله العظيمة التي هي أساس المعرفة الحقة فإذا حادت التجربة الشخصية لأي إنسان أو التجربة الجماعية لأي مجموعة بشرية عن خطوط الهدي الرباني في المعرفة فإن ذلك قائد حتماً إلى بوار الحياة الشخصية أو الجماعية، مهما بدا للناس من مظاهر قد تخالف هذه الحقيقة، وذلك لأن هذه الصورة تشكل في الواقع اقتلاعاً لهذا الإنسان من جذوره، من فطرته، من الطريق الواضح النيّر إلى الظلمة والضياع. وهذا هو أصل وأساس كل ذلك الضنك الذي تعيشه البشرية اليوم، عندما ضيعت بوصلتها الربانية، وراحت تتخبط وراء نظر كتاب، وضعوا الهدى الرباني في قائمة المنسيات، أو في قائمة المتروكات الغابرة، وذلك ليجعلوا من أنفسهم وكلماتهم الهائمة على وجهها دساتير جديدة للبشر، فمنهم من أراد أن يجعل من الشعر –كونه شاعراً- بداءة الفكر والعلم والنبع القديم(3) ومنهم الذين راحوا ينظرون للبشر ويفكرون عن الناس، ناسين أنهم مخلوقون لخالق رسم خطوط السعادة للبشر، وأبدع أصول النظر لهم. وجعلهم يفكرون ويختلفون ويجتهدون ويغدون ويروحون في ساحةٍ واسعةٍ من كيفية التنفيذ الأقرب للصواب، والأوسع لاستيعاب مستجدات الحياة وتطوراتها. ولقد جرى على هذا المنوال من التوجه معظم الكتّاب والمفكرين من المتغربين والعلمانيين واليساريين ومتبني الليبرالية الغربية ببغاوية عجيبة.. فبدوا منبتين في كتاباتهم الفكرية والأدبية وحتى العلمية عن فكر الأمة، وتوجه الناس فيها، وعن مجريات ووقائع الحياة اليومية فيها، وأصبح كل ما يكتبون موجه إلى نخبهم وحسب، فلا هدف لهم ولا غاية، إذ أصبحت كتابة هؤلاء تتخبط في أزمة اتصال مع الجماهير(4)
2 – موهبة مطلعة:
"وقل ربي زدني علماً" ولا يؤخذ العلم، أو تنمى الموهبة إلا بالتعلّم، والحق أن يمضي الإنسان حياته بين كونه عالماً أو متعلماً، ولا خير في غير ذلك، كما أوضح وبيّن وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا آدم أبو البشر لم يكن يعرف شيئاً من العلم، ولكن رب العالمين كان معلمه، إذ قال جلّ من قائل: "وعلّم آدم الأسماء كلها". وأشد الناس حاجة إلى العلم، وأحوجهم إلى التعلم، لتنمية مواهبه وإمكاناته التي منحه الله إياها، هو من وجد في نفسه موهبة الكتابة، ثم ندب نفسه للاشتغال بها، وإن أداة هذا التعلم مطلوبة، وهي تتمثل في الإطلاع الدائب، والبحث المستمر، والتطوير والترقية، غير المنقطعة أبداً.
إنّ الكاتب عامة، والأديب خاصة يتعاملان مع النفس الإنسانية برحابة اتساع خطوطها، وعمق تفاعلات مشاعرها، كرهها وحبها، غضبها ورضاها، صفائها وعكرها، خيالها وواقعها، هدوئها وصخبها، وقارها وانفلاتها، حزنها وفرحها.. إلخ ما هنالك، كما يتعاملان مع ما يحيط بهما من عوالم إنسانية أخرى، وأمكنة وظروف وأزمنة، وحياة اجتماعية وسياسية وتاريخية وأدبية واقتصادية وفكرية، وما دام الأمر كذلك فإنّ مدى ما يجب على هذا الكاتب من الإطلاع يكون واسعاً ومتنوعاً بوسع وتنوع كل ما ذكرنا.
ولكن هناك قضية هامة يجب أن ينتبه إليها كل متجه إلى الكتابة من المؤمنين المسلمين، هذه القضية هي أن الإطلاع لا يقضي بالأخذ بكل ما يدفع من معرفة، بل إن هذا الإطلاع ناقد يعرض المعرفة القادمة إليه على العقيدة وفروعها الإيمانية، التي تشكل الأرضية الرئيسية الأولى في قاعدة وأساسات العقل المؤمن، وتحتل كل جزئياته ونظره ورؤاه.. وذلك لأن هذا العقل المؤمن يعلم علم اليقين أن كل ما عدا العقيدة الإيمانية وأسسها المعرفية القطعية ليس إلا ظناً خاضعاً لتقلبات الأوقات والأمزجة والمعارف الآنية التي تتلبس الإنسان في لحظة ما وظرف معين ومعطيات محددة. ويشرح ذلك الأستاذ مصطفى صادق الرافعي إذ يقول: "لقد أثبت تاريخ الإنسانية أن هذا اليقين الساري فيها لن يكون غير الدين، فهو وحده معنى الجاذبية بين المعلوم الذي تبدأ النفس سيرها منه، وبين المجهول الذي تصير النفس إليه طوعاً أو كرهاً، وما دامت الجاذبية فيه وحده فلن يستطيع شيء غيره أن يقيم حدود الإنسانية، أو يحفظ ما يقيمه منها، وما غاية العلم إلا أن يكون قوة في هذه الحدود.."(5).
والخلاصة في هذا الموضوع هي أن الكاتب المؤمن محتاج إلى تنمية موهبته، لتصبح موهبة مطلعة على التاريخ والاجتماع والأدب والفلسفة والسياسية والواقع والاقتصاد والفكر والفن وغير ذلك من مجالات المعرفة، هو إطلاع واع فاهم ناقد، متعامل بإيجابية، وسعة أفق، ومرونة، وحسن انتفاع، واستيعاب بعيد عن التماهي المذيب للحدود والخصوصيات، الداخل في صلب الضياع، الذي يجعل الإنسان مجرد ورقة يكتب على صفحتها الآخرون ما يشاءون ويرغبون. وصدق الله العظيم القائل: "ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.."(6)
3 – تقويم الأداء:
حتى يذهب الكاتب المؤمن في الطريق الآمن إلى آخره، عليه أن يتعرف أولاً بأول على قيمة أدائه في فن الكتابة، الذي اتخذه مطية لغاياته التي آمن بها، ويشكل هذا التعرف جزءاً لا يتجزأ من عملية الاستفادة من الإطلاع وفي خطوة ليست بعيدة عن واقع ما يحدث لكل كاتب، فإن معظم الكتّاب يقفون أمام أدائهم وقفة حساب في لحظة ما، سواء كانوا من الملتزمين بنهج التبليغ الإيماني أم من الذين هاموا في كل واد، وسرحوا بأنظارهم وبصائرهم في مرابع الوهم الهائل، الذي أدخلته على الجميع معطيات عبادة العقل أو الإنسان الفرد أو المادة واللذة أو حتمية العولمة أو بالأحرى الأمركة.
والكاتب المؤمن الذي اتخذ التبليغ مهنة عظيمة.. في أشد الحاجة إلى مثل هذه الوقفة التقويمية النافذة للأداء.. وذلك حتى لا يقع تحت طائلة المسؤولية الواردة في الآية الكريمة من كتاب الله القائلة: "إن الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون"(7).
فكيف يراجع هذا الكاتب أداءه..؟ وما هي الأسئلة التي يقوم من خلالها هذا الأداء..؟ لابد أنه مراجع لإنتاجه كله بين الحين والآخر طارحاً على نفسه الأسئلة التالية أمثلة وليست حصراً:
1 – ما هو مكان ما كتبت من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 – كيف كان الخطاب الذي احتوته كتاباته؟.
أ – هل كان قريباً من عقول الناس؟
ب – هل تطرق فيه إلى واقعهم وأحوالهم؟
ج – هل كان أسلوبه وبيانه من النوع الذي يشد الأذهان؟
د – هل فيه معالجات وأطروحات ترقى بأحوالهم؟.
هـ - هل بيّن فيه أخطار ما يحاصرهم من فكر وحتميات تحاول معهم عملية التئيس للاستسلام لما يطرح..؟
و – هل بعث في خطابه الأمل في الخلاص؟
ز – كيف كان استقبال الناس للخطاب وما مدى تأثيره في سلوكهم؟
3 – هل دخل كتاباته شيء من الفكر أو الأدب الدخيل الرديء دون علمه وذلك بتأثير الإطلاع والتنمية..؟
4 – هل كانت غاياته وأهدافه واضحة بينة في كتاباته لا تلجلج فيها ولا مواربة مضرة؟
5 – كيف كان مستوى الأداء.., هل هو متصاعد الجودة أم في نزول، أم في حالة ثبات؟..
6 – ما هي الفوائد التي جناها من الإطلاع وأين كانت مجيدة نافعة، وأين كانت عديمة الفائدة أو مضرة؟
فإذا تم له ذلك، ووضع علامات لكل سؤال، ثم جمع حصيلة الحساب نظر، فإن كانت النتيجة عالية حمد الله وأثنى عليه أن وفقه لمثل هذا النجاح.. وسعى جاهداً للتطوير والتحسين، وإن كان الأمر غير ذلك لام نفسه وأنبها، وسعى من جديد كي يقوم الاعوجاج بعد أن شخصه.. هذا والله أعلم.
الهوامش:
(1) البقرة آية: 30 – 31.
(2) الذاريات: آية: 56.
(3) عبد المعطي حجازي – جريدة الزمان 11/8/2000 (باب ألف ياء).
(4) هذا ما أكده كثير من الشعراء والكتّاب في ملتقى أصيلة الثقافي الدولي (آب 2000).
(5) إعجاز القرآن ص 12 نشر دار الكتاب العربي ط 8.
(6) المؤمنون آية: 71.
(7) البقرة آية: 79.
يتبع