كيف تصبح كاتباً (2)

كيف تصبح كاتباً (2)

الموهبة

بقلم: محمد السيد

1 - نظرة في الواقع:

افتح ناظريك، وأبحر معي في أسواق المدن العربية، ولنتوقف عند المحلات التي تسمى مكتبات، وهناك أمعن النظر في صدورها المأزومة بشتى البضائع المصفوفة داخل كل غلافين، حـاول آن تفتـح الأغلفـة ، لتكتشف  البضاعة الملقاة أحرفاً وكلمات وجملاً داخل تلك المجلدات، وسوف تجد بعد كدّ الذهن والعين، أن الأمور في الغالب الأعمّ تربض خلف الوهم، ولا تتعدى الثرثرة الشاحبة الألوان، باهتة الطعم، هذا إن لم يكن الأمر أجلّ وأخطر، إذ تعودت العين على الوقوع في زاوية مرمى تشويه الحلم، ذلك الذي ذهب منه الشادون من مدعي أرباب القلم هذه الأيام إلى إلقائنا على بوابات الفجيعة من خلال رمينا بسهام حروفهم وكلماتهم النابية عن مرمى الإبصار الجمعي لهذه الأمة تاريخاً وحضارة وعقيدة.

وإنك إن حاولت فهم شيء مما يدور في ساحة الحروف العجمى لعاجلك ألم الشعور بأن ذلك الغثاء كله ناتج من عدم الاعتبار بالنطق الأعلى: "الرحمن علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان" فارتاد كل من هبّ ودبّ ساحات الكتابة، مؤيداً ومدعوماً بأسلحة بعض الناشرين من الذين أضاعوا الأمانة، وجروا خلف التجارة التي تلهبها وتسيل لعابها الأسماء المتداولة، بغض النظر عما تريقه أقلامهم فوق القراطيس من دماء الفكر والأدب البريئة.

2 - "خلق الإنسان علمه البيان

وإذن فالكتابة فن يقوم أول ما يقوم بالموهبة، ويقتله ويأتي على الإبداع فيه الإدعاء، ويجب أن يعلم صاحب الموهبة أنها مخلوقة فيه، وأنها من صنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه "بديع السماوات والأرض" فهو لا يدلّ ولا يضل ولا يتيه بتلك الموهبة، بل هو على العكس من ذلك، يحاول التواضع مع بذل الوسع لتوظيف المنحة الربانية، وتنميتها ورعايتها، لتكون في خدمة الاستخلاف الرباني للإنسان المتمثل في العبودية لله، واستعمار الأرض وتسهيل الحياة عليها وترقيتها، بحيث تستقيم على النهج القويم، الذي أرسل الله به جميع الأنبياء من لدن آدم عليه السلام وحتى رسولنا الكريم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.

والبيان من أعظم الهبات الربانية للإنسان، إذا راعى فيه حق الله، ووظف موهبته في هذا الاتجاه، أنتج الخير العميم لهذا الإنسان، لذا كان من الضروري والواجب على كل مؤمن يُحسّ أن لديه موهبة البيان، أن لا يتوانى عن السير في ركب صقلها وتنميتها ورقيها، ثم الخوض بها في سوق البيان، الذي ازدحمت فيه الأصوات الشاذة، والأقلام المشبوهة، والترجمات المغرضة، وكادت أن تطغى على البيان الأبيض الناصع، الذي ساهم في تأخر خطواته كثير من المسلمين القائمين على نشر الكلمة الطيبة وإذاعتها بين الناس، تأكل قلوبهم في ذلك منازعات التجارة والربح، ومناكفات أن يخرج أي عمل على الهوى الذي يريده هؤلاء. لا بل إن الحسد الحالق لكل خير قد يكون أحد آكلات القلوب والمواهب.. بينما نرى أن ما يجري على الضفة الأخرى من المشهد الثقافي يتم بصورة عكسية تماماً، إذ تشجع أية موهبة، وتقدم وتشهر، ويعلى مقامها، لمجرد أنها تصب في اتجاه مضاد لمنهج البيان الرباني المنجي، كما أنه يفسح في المجال لمنظومات الرأي وكلمات البيان، الذي يريد تفجير اللغة وتشكيلها من جديد، بحيث يضيع كل البناء الثقافي المذخور في حروفها منذ خمسة عشر قرناً وحتى اليوم، كما رأينا ارتفاع قامات ما كانت لتظهر حتى ترتفع لولا أنها وجدت نفسها محاطة بناشرين يذيعون كل كلمة تافهة تقولها، وكل صيحة شر تنطلق من بين شفاهها، ثم تزف كل تلك الخبالات بأنواع متنوعة من الزخرفة والدراسات، والقول وإعادة القول، والرد وإعادة الرد، حتى يصل الرد والتكرار إلى أبعد نقطة وآخر فرد في بوادي العرب والمدن..

3 - بماذا تتجلى الموهبة وتعرف؟؟:

وعودة إلى موضوع الموهبة لنقول: إن الكتابة عملية إبداعية، إذ أنها تقوم على تشكيل الصور، وتوصيل المفاهيم والأدب والعلوم، والفكر القويم إلى الناس، بواسطة اللغة وأبجديات اللغة.. فهي بهذا عملية تكوين وتشكيل منطلقة من قلب المنحة الربانية "الموهبة" المحاطة بهالة من التوفيق الرباني إن استخدمت في السبيل القويم، لذلك فإن العناصر التي تكوّن وتطلق الموهبة، أو بمعنى آخر التي يتعرف الشخص بها إلى وجود ها عنده وأنه قادر على عملية الكتابة، وإيصال الأفكار، والصور والمفاهيم إلى الناس بواسطة الحروف والكلمات والجمل. إن هذه العناصر تتمثل فيما يلي:

أ - الذكاء الجيد: إذ أن عملية التشكيل تحتاج إلى فكر تحليلي وتركيبي، ثم إلى قدرة على مزج المفارقات، ووصل الجملة بالأخرى، حتى يصل إلى تكوين فكرة عامة يراد إيصالها إلى الناس.. وهذا لا يتسنى إلا إذا توفر الذكاء الجيد، فإذا لمس الفرد في نفسه القدرة على طرح الأفكار وإمكانية انتقاء الصالح منها، والقدرة على التعبير عما جاء فيها شفهياً ثم لاحظ قدرته على التأثير في الآخرين واستحسانهم لما يقول، فليعلم أن ذكاءه الكتابي خامة قابلة للانطلاق في سوق الإبداع الكتابي، فليتوكل على الله، وليبدأ السير في المهمة بالخطوة الأولى، طالباً العون والتوفيق من الله "وما بكم من نعمة فمن الله".

ب - الخيال المتوازن: فعملية الكتابة (والأدبية منها بصورة خاصة) تحتاج إلى تكوين الأشياء والأفكار في مخيلته، قبل أن يسطرها بقلمه على القرطاس، ومن الطبيعي أن يلتزم هذا الخيال بالهدي الرباني، فلا يكون شططاً يركض خلف الأحلام المريضة، أو الأحلام الجامحة مستحيلة التحقق، فيكون الإخفاق في الوصول إليها سبباً في اليأس أو التشاؤم أو الاكتئاب، وكل ذلك معادٍ للفطرة الربانية، التي أباحت للإنسان أن يتخيل وينشئ الحلم المتوازن الذي يخدم خلافته عن الله في الأرض ولقد كانت أحلام كثير من أدباء الغرب الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، متجهة إلى دواخلهم، ومسافرة إلى بواطنهم التي انطوت على عجز بعيد الغور عن التواءم مع مجتمعاتهم التي هزتها النقلة الرأسمالية الإنتاجية، فراحوا يحلمون بمجتمعات خيالية أنتجتها دواخلهم غير السوية، السارحة في رؤى فوضوية من كل الأنواع، لذا فقد جاءت نصوصهم التي أنتجوها انطلاقاً من هذه الخيالات، مفرطة في التخبط، والجنون والخبال.(1).

ولكن كيف يتسنى للناشئ أن يكتشف وجود مثل هذا الخيال ضمن ملكاته التي وهبه الله إياها؟..

وللإجابة على السؤال نقول: إن من السهل على الإنسان المثقف أن يطرح الأسئلة التالية على نفسه:

1 - هل يتقن الربط بين الفكرة والفكرة؟

2 - هل يكثر من السؤال عما حوله، وما يسمع من أقوال ، وما يرى من أعمال؟

3 - هل يحب الاختلاء بنفسه ولحظات التأمل؟

4 - هل يتقن التنبؤ بالنتائج النابعة عن تحليل محكم؟

5 - هل يستوعب آفاق الآخرين؟

6 - هل لديه القدرة على استعمال أساليب جديدة في التعبير؟

هذه بعض أسئلة مقترحة من الممكن أن يلقيها المرء على نفسه فإذا وجد أن أكثرية الإجابات إيجابية، فقد تحقق فيه عنصر الخيال المناسب، وهذا يؤهله لركوب الطريق من بدايته ، بعد طلب التوفيق من الله، ثم الجد والدأب والرعاية والممارسة ، فكل ذلك كفيل بوصوله إلى النتائج المرجوة، ليكون كاتباً باتجاه رباني رشيد.

ج - الهمة العالية والثقة بالنفس: ليعلم المؤمن المتجه إلى امتلاك ناصية الكتابة أنه في ساحات مصارعة، السبق فيها لمن يمتلك الأدوات التي أهمها علو الهمة وسمو الهدف، والثقة العالية بالنفس بعد التوكل على الله، وطلب التوفيق منه "وما نيل المطالب بالتمني ، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا".

"وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مردها الأجسام".

فلتكن أخي الكاتب المؤمن من ذوي الهمم العالية الغالية، الواثقين بخطوهم، المصممين على الفوز في ساح الكلم الطيب الخير، ولتكن قدوتك في ذلك حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ جاءت قريش بزعمائها، يعرضون عليه كل ما يريد على أن يترك الأمر الذي أرسله الله به، فما كان جوابه إلا أن قال لهم بأعلى همة وأعظم ثقة وأقدر تعبير: ":والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" أو كما قال صلى الله عليه وسلام

وأنت أخي الكريم إذا تحققت لك هذه الرباعية الموهبية من المنحة الربانية والذكاء العالي، والخيال المتوازن، والهمة العالية والثقة بالنفس، فلتمسك بأول الطريق، ولتمض به مسلحاً بأدواته التي سنتطرق إليها في الفصل القادم إن شاء الله.

يتبع  

(1) انظر شكري عياد (المذاهب الأدبية والنقدية).