العواطف البشرية في التصور والأدب الإسلامي

العواطف البشرية

في التصور والأدب الإسلامي

(1)

بقلم: محمد الحسناوي  

 

[email protected]

مقدمة في المصطلحات:

يميز علم النفس بين عدد من المصطلحات كالانفعال والعاطفة والعقدة. فالعاطفة استعداد نفسي، ينشأ عن تركيزمجموعة من الانفعالات حول موضوع معين، ذلك لأن هذا الموضوع في خبرة الشخص الماضية كان مثيراً لعدد من الميول المختلفة ونتج عن تكرر هذه الاستثارة أن أصبح الفرد مستعداً للاستجابة الانفعالية (على نحو له، استجابة تختلف باختلاف الموقف الذي يوجد فيه. فالعاطفة إذن هي عبارة عن اتجاه وجداني نحو موضوع بعينه، مكتسبة بالخبرة والتعلم).(1)

والفرق كبير بين العاطفة والانفعال (EMOTION). فبينما يكون الانفعال تجربة عابرة، إذا العاطفة (SENTIMENT) نزعة مكتسبة تكونت بالتدرج، بعد أن مرت خلال تجارب وجدانية وأعمال عدة(2).

أما العقدة فهي ليست إلا تنظيماً لمجموعة من الانفعالات السابقة أيضاً في مركب جديد. وتختلف العقدة عن العاطفة في أن المركب الانفعالي في حالة العقدة هو مركب لا شعوري، في حين أنه في حالة العاطفة يكون في مستوى شعوري(3).

إن هذه التراكيب أو المجاميع تكسب الحياة الانفعالية المتقلبة قدراً من الانسجام، وهي تتجمع من جديد في مجاميع أوسع. وهذه بدورها حين تتجمع ثانية في نظام واحد شامل متناسق، تكوّن ما نسميه (الشخصية). إن العواطف الثابتة تعطي الحياة الوجدانية نظاماً واتساقاً نحو أهداف بالذات، وأن عاطفة قوية، لهي كافية لتجديد نشاط الفرد واتجاهه في حياته. فالعواطف تلعب دوراً هاماً في حياة الإنسان، وهي مصدر معظم دوافعنا وجهودنا. تأمل عاطفة الأم نحو ابنها، وتأمل كيف تصوغ هذه العاطفة حياتها وتشكلها، وكيف تجدد سلوكها وتحفظ هذا السلوك من جانب ابنها ومن أجله، حتى آخر لحظة من لحظات حياتها، وكيف تتحمل المتاعب والصعاب في سبيله، دون أن تشكو مرة أو تتبرم(4).

وفي مجال النقد الأدبي تعرف العاطفة بأنها حالة شعورية في مقابل التصور الذي يحدثه الإحساس. مثال ذلك: أحس باللون الأحمر الذي يبعث فيَّ عاطفة الانشراح. وعلى العموم: العاطفة هي كل حالة انفعالية، في مقابل الحالة التعقلية والفاعلة(5).

ومن غير نقض أو إهمال لمصطلحات علم النفس نرانا ميالين إلى استخدام التعريف الذي يتداوله نقاد الأدب في بحثنا هذا. وهذا لا يمنعنا من التدقيق والتنبيه حين نستخدم مصطلحات علم النفس عند اللزوم.

*     *     *

العواطف في التصور الإسلامي:

من قواعد التصور الإسلامي تكريم الإنسان. قال الله تعالى: [ ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ](الإسراء: 70).

وطبيعة هذا الإنسان المكرم - في التصور الإسلامي- أنه قبضة من طين الأرض، ونفحة من روح الله، غير منفصل بأحد عنصريه من عنصره الآخر في أية لحظة من اللحظات. [ وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأٍ مسنون. فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين ] (الحجر: 9). فلا هو بالحيوان الصرف، كما ترى الداروينية، ولا يمكن أن يكون ملاكاً كما تسعى إلى ذلك الهندوكية والبوذية بالرهبانية. من خبر الرهط الثلاثة الذين سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عبادته، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالُّوها. وأحدهم يصلي الليل أبداً، والثاني يصوم الدهر أبداً، والثالث يعتزل النساء، فجاء إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغِبَ عن سنتي فليس مني). (رواه مسلم).

فالإنسان يأكل ويشرب ويتزوج كالحيوان، لكنه يختلف عنه بالفارق النفسي الشعوري وطريقة السلوك، وكم تخطئ المذاهب والفلسفات التي تجرد الإنسان من الإحساس والمشاعر والحياة الانفعالية، حين تلغي واقع "النفس" كله، لتثبت فقط واقع (المادة)، متأثرة بالنظرة المادية الحيوانية للإنسان، التي لا تجعل منه قيمة أعلى من قيمة المادة، بل بالعكس قيمة أقل، لأن المادة تؤثر في الإنسان تأثيراً (حتمياً)، يخضع له أراد أو لم يرد، في حين لا يؤثر هو في المادة إلا برضاها ورغبتها! وحسب قوانينها الذاتية ذات الطابع الحتمي والجبروت(6)!

وكم يُعلي الله قيمة الإنسان ويكرمه حين يسخر له الكائنات: [ الله الذي سخَّرَ لكم البحر ولتجريَ الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون. وسخر لكم ما في السموات وما الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ] (الجاثية: 12 و13). ومعنى التسخير تكليف مخلوق عملاً بلا أجرة أو تذليله. ومن مظاهر هذا التكريم تفضيل الإنسان على الملائكة وطلب السجود منهم لآدم عليه السلام: [ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال: أأسجدُ لمن خلقتَ طيناً ] (الإسراء: 61). وتعليل هذا التكريم راجع إلى طبيعة الإنسان المزدوجة (قبضة الطين ونفحة الروح)، بينما طبيعة الملائكة أنهم مخلوقات من نور خالص، ليس لهم ثقلة الجسم ولا عتامة الطين، ومن ثم فهم إشراقة خالصة محددة الاتجاه. اتجاهها هو الطاعة المطلقة الدائمة الكاملة [ لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يُؤمَرون] (التحريم: 6) عل حين تتجلى عبقرية الإنسان في أنه يسير بجسمه على الأرض وهو متطلع بروحه إلى السماء، ولا يتحقق له ذلك إلا حين يكون إنساناً حقيقياً لا حيواناً ولا ملاكاً، وبمعنى آخر حين يقضي ضروراته الأرضية الحيوانية على طريقة الإنسان لا على طريقة الحيوان، ويحقق أشواقه الروحية الملائكية على طريقة الإنسان لا على طريقة الملاك. وبذلك يحقق رسالته في الأرض ويحقق أفضل ما يستطيعه، ويحقق كثيراً من الخير(7).

على أن الحياة الانفعالية في الإنسان حافلة بمختلف العواطف والأحاسيس والمشاعر، وليست العاطفة الجنسية إلا واحدة منها. قد تكون من أهمها وأبرزها لكنها ليست الوحيدة. فهناك عواطف الأبوة والبنوة والأمومة والخوف والرجاء، ونستطيع تقسيم العواطف بحسب موضوعها الذي تدور حوله ثلاثة أقسام:

1- عواطف تدور حول موضوعات مادية، مثل عاطفة الأم لابنها، والأب لأولاده والقارئ لكتاب معين، وربة البيت لبنيها.

2 - عواطف تدور حول موضوعات جمعية، كعاطفة المرء نحو أسرته، أو حزبه أو مدرسة تربى فيها.

3 - عواطف تدور حول موضوعات مجردة، كعاطفة الميل إلى المثل العليا الأخلاقية مثل الأمانة والصدق والكرم (8).

ومن الممكن أن يدرج النوعان الأولان تحت عنوان العواطف المادية، كما يمكن أن نذكر العواطف الفردية مقابل العواطف الجمعية. ومن العواطف المادية التي اهتم بها علم النفس لدى الفرد عواطف التملك وتأكيد الذات والمقاتلة أو الميل إلى العدوان، أما العاطفة الجنسية فقد شغلت حيزاً ضخماً من جهود فريق من علماء النفس، وانقسموا فيها وحولها مدارس ومذاهب، لدرجة جعلت من فرويد يزج بالجنس والعواطف الجنسية في كل مجالات النشاط الحيواني للإنسان، وكان لذلك أثره الكبير في الفكر الأوربي والأدب وبالتالي في المجتمعات الأوربية، حيث انطلقت الحيوانات المسعورة تلطخ صفحة الفن بحركات السعار الجنسي المنهومة الطائشة، وتعري الإنسان من كل ملا بسه الحسية والمعنوية (9).

والجنس في نظر الإسلام حقيقة مهمة عميقة أصيلة، ومثل ذلك ما يتعلق به من عواطف ومشاعر وأحاسيس، والفرق بين التصور الإسلامي وغيره من التصورات المنحرفة أن الإسلام يحكم الأخلاق الإسلامية بهذه المشاعر والعواطف من خلال المفهوم الشامل المستمد من ناموس الوجود (10). فالإسلام يشترط (النظافة) في أمور الجنس. وهذه النظافة قاعدة واحدة تشمل كل شؤون الحياة المالية والاجتماعية والسياسية والدينية، مثل تعامل الإنسان مع ربه، وتعامله مع نفسه [ قد أفلح المؤمنون الذي هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو مُعرِضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون- إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، فانهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، أولئك همُ الوارثون، الذي يرثون الفردوس، هم فيها خالدون] .(11) (الآيات: المؤمنون: 1-11).

فالإسلام لا يغفل عما يحدثه التجاذب الفطري بين الجنسين من مشاعر وخواطر وأفكار وسلوك، لكنه يقيسها بمقياس الإسلام الدائم الذي يقيس به كل شيء: فما سار مع الناموس، ناموس الحياة والكون، فهو صالح وصواب. وما خالف هذا الناموس فهو خطأ. والله تعالى يطلب من هذه الفطرة أن ترتفع وتتهذب، لأن هدف الوجود كلي ليس مجرد استمرار الحياة، ولكن رفعها وتجميلها، والوصول بها إلى مرتبة الجمال والكمال (12). على أن التصور الإسلامي الذي لا يُغفل عاطفة بشرية في نظرته الشاملة المتوازنة المتناسقة حتى الرفق بالحيوانات، نجده أيضاً يفسح مجالاً رحباً لعاطفة العبادة: حبّ الله تعالى (هذا الحب بما يفيض على النفس من أنوار شفافة رائقة وبما يوسع من آفاقها حتى تشمل الوجود كله، وبما يرفع من كيانها حتى تصبح وكأنها نور خالص مشرق متلألئ، لا تدخله عتامة الجسد ولا ثقلة الطين. إنه عجيبة من عجائب الأحاسيس البشرية.. وإنه لفي القمة من هذه الأحاسيس)(13). وعلى الرغم من ضخامة الحجم الذي يحتله هذا النوع في النفس الإنسانية وتاريخ البشر ودعوات الأنبياء والرسل وأدب المتصوفة في الأدب العربي والآداب الأخرى لم أجد في حدود اطلاعي عناية كافية في علم النفس المعاصر لهذا النوع من العاطفة، وهذا مؤشر على انحراف التصور البشري في غياب التصور الإسلامي.

إن علاقة الإنسان بربه جزء من فطرة البشر، وإذا كانت عاطفة الحب (حب الله) أرقى جوانب هذه العلاقة وأسماها، فإن هناك عواطف الخوف من الله تعالى وخشيته وتقواه التي تحتل موقعاً هاماً في التصور الإسلامي: [ والذي جاء بالصدق وصدَّقَ به أولئك هم المتقون. لهم ما يشاؤون عند ربهم، ذلك جزاء المحسنين ] (الزمر: 33 و34). وتعد صفة (المتقين) من أهم الصفات والدرجات التي يتطلع إليها الإنسان المؤمن. وقد وردت في القرآن الكريم لفظة (متقون - متقين) /49/ تسعاً وأربعين مرة، أما الألفاظ المشتقة من (التقوى) فقد وردت /258/ ثماني وخمسين ومئتي مرة. قال تعالى: [ بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحبُّ المتقين ] (آل عمران: 76) وهل هناك فوق حب الله تعالى من حب? وكما ورد التصريح بحب الله للمتقين (إن الله يحب المتقين) ثلاث مرات في القرآن الكريم (آل عمران 76 والتوبة 4 و7).

ذلك حب الله عزّ وجل، أما حب الكون أو الطبيعة وحب الكائنات الحية وحب البشرية فآفاق أخرى تكشف عن مدى رحابة عاطفة الحب ذاتها وأنها ليست مقصورة ولا يجوز أن تقصر على الحب الجنسي(14) أو العاطفة الجنسية. قال عزّ من قائل: [ زُيِّنِ للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا. والله عنده حُسنُ المآب] (آل عمران: 14).

إن لفظ (الشهوة) مصطلح قرآني للعاطفة الهابطة يقابله في التصور الإسلامي لفظ (المتاع)، كما أن من مصطلحات التصور الإسلامي للعواطف البشرية تعبير (النفس الأمارة بالسوء) يقابله تعبير (النفس اللوامة)، ومرة أخرى ليس التزيين بحد ذاته محرماً أو مرفوضاً، لأن هناك فرقاً بين تزيين الخير وتزيين الشر، كما أن هناك فرقاً بين (زينة) و(زينة) قال تعالى: [ يا بني آم خذوا زينتكم عند كل مسجد، وكلوا واشربوا ولا تُسرِفوا. إنه لا يُحب المسرفين. قل من حرَّم زينه الله التي أخرج لعباده والطيباتِ من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةٌ يوم القيامة، كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ] (الأعراف: 31 و32).

إذا وجدت عاطفة الحب وعاطفة الكره وجد الصراع بينهما سواء في النفس الواحدة أم بين نفسين اثنتين أو أكثر: [ لقد همت به وهَمَّ بها لولا أن رأى بُرهانَ ربه ] (يوسف: 24) [ قال: ربِّ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، إلا تصرفْ عني كيدهن أصبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين ] (يوسف: 33)

وهناك صراع الواحد مع الجماعة، وهو حال الأنبياء جميعاً عليهم السلام مع أقوامهم، وصراع جماعة مع جماعة، وهو حال المؤمنين مع الكافرين في كل زمان ومكان: [ ولما برزوا للجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله وقتل داوودُ جالوتُ، وآتاه الله الملك والحكمة وعلَّمه مما يشاء، ولولا دفعُ الله الناسَ بعضهم ببعض، لفسدت الأرض. ولكنَّ الله ذو فضل على العالمين ] (البقرة: 250- 251). فعاطفة المقاتلة أو ما يسميه علم النفس (الميل إلى العدوان) من سنن الله في خلقه وهي ككل عاطفة تهبط وتصعد في سلّم القيم، ومع ذلك لولا الشر الموجود في الأرض، ومصارعة الخير له لركد الخير وأسن وتعفن أو ترهل وضعف(15).

إن التصور الإسلامي للعواطف البشرية المنبثق من تصور الإسلام الواسع الشامل للكون والحياة والإنسان يفسح المجال للوجدانات البشرية كلها من محبة وكراهية وصراع. ويفسح المجال لمشاعر الجنس، وصور الصراع الاقتصادي والاجتماعي، ولكنه يضعها في موضعهما من الصورة، ليرسم في بقية اللوحة مشاعر الحب الكبرى ومجالات الصراع الأكبر. فيكون أكثر واقعية من تلك التصورات الصغيرة المحدودة، ويكون أصدق تعبيراً عن حقيقة الحياة العميقة الشاملة وأجمل تصويراً للحياة من بقية التصورات(16).

هذه جملة عامة في جوانب التصور الإسلامي للعواطف البشرية، وقد عالجت المؤلفات الإسلامية الحديثة هذا الموضوع بما يغني عن التفصيل، وأخص بالذكر جهود الأستاذ محمد قطب ومؤلفاته مثل: منهج الفن الإسلامية - دراسات في النفس الإنسانية - الإنسان بين المادية والإسلام -  منهج التربية الإسلامي - التطور والثبات في حياة البشر.

العواطف البشرية في الأدب الإسلامي

مساحة الأدب الإسلامي في الزمان والمكان واسعة جداً، وسنقتصر ها هنا على اختيار خطوط ونماذج من القرآن الكريم وهو الأصل أو المصدر الأساس، ثم من مؤلفات علي أحمد باكثير.

لما كان القرآن الكريم كتاب دعوة وهداية ومنزلاً من لدن حكيم خبير: [ الذي أحسن كل شيء خلقَه وبدأَ خلق الإنسان من طين ]  (السجدة: 7) كان آية في الإعجاز، لا سيما الإعجاز البياني الذي يخاطب النفوس ويستجيش الوجدانات، كما يخاطب العقول سواء بسواء، وقد فطن العرب الفصحاء بحسهم البياني إلى ذلك مؤمنهم ومشركهم، سحر منهم الألباب وأخذ بمجامع القلوب، وقصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتعلق الوليد بن المغيرة به قبل إعراضه معروفتان، وهو الذي قال: (والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يُعلى.. إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره. أما ترون أنه يفرق بين المرء وأهله ووالده ومواليه): [ إنه فكَّرَ وقدَّرَ. فقُتِلَ كيف قدَّرَ. ثم قُتِلَ كيف قَدَّرَ. ثم نَظَرَ. ثم عَبَسَ وبَسَرَ. ثم أَدْبَرَ واستكبرَ، فقال إنْ هذا إلا سحرٌ يؤثر ] (المدثر: 18 - 24)

وللتدليل على عناية القرآن الكريم بالعواطف والوجدانات البشرية في خطابه المعجز لها نكتفي بالإشارة إلى أهم الأساليب التي استخدمها، مثل: التصوير الفني والقصة والإيقاع الموسيقي ونخص بالذكر أسلوب الترغيب والترهيب، الترغيب بالخير وبالجنة وبما عند الله من نعمة وفضل، والترهيب بالنار وما فيها من عذاب وشقاء وحرمان. قال تعالى: [ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرُّ منه جلود الذي يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يُضللِ اللهُ فماله من هاد. أفمنْ يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة. وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون ] (الزمر: 23 - 24). ولقد أجاد الشهيد سيد قطب في تفسيره (الظلال) وفي دراساته الأدبية للقرآن في الكشف عن هذا الجانب من إعجاز القرآن.

هذا بالنسبة إلى استجاشة العواطف والوجدانات، أما تصوير تلك العواطف، وتناولها بالعرض والتحليل -وفي ذلك ما فيه من تأثير واستجاشة أيضاً- فإعجاز آخر: [ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريمَ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله. قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. إن كنتُ قلته فقد علمتَه. تعلم ما في نفس ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ] (المائدة: 116). وقبل الحديث عن العواطف البشرية نحب أن نشير إلى الكائنات غير البشرية التي خلع عليها القرآن عواطف: من نجم وشجر وحيوان وأرض وسماء، وفي ذلك ما فيه أيضاً من استجاشة لعواطف البشر ووجداناتهم. قال تعالى: [ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً. قالتا: أتينا طائعين ] (فصلت: 111). وقال عزّ من قائل: [ حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون. فتبسم ضاحكاً من قولها، وقال: ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ] (النمل: 18 -19).

إن الحديث عن العواطف البشرية في القرآن الكريم يكاد يشمل القرآن كله، لأن الكتاب الرباني الخالد الذي أرسل إلى البشرية كافة، فيه تاريخ هذه البشرية الفكري والعاطفي، كما أن فيه طب نفوسها ومستودع أسرار تلك النفس، وبوسعنا أن نرصد عدداً من السمات في عرضه لهذه العواطف وهي الشمول والجد والواقعية والعمق والنظافة.

ونعني بالشمول تغطية الأنواع المتعددة للعواطف البشرية، عواطف الرجال والنساء، وعواطف الشيوخ والأطفال، عواطف الآباء والأمهات والأبناء عواطف الصالحين والطالحين عواطف الدعاة والعصاة، عواطف الملوك والسوقة أو الدهماء، عواطف فردية وأخرى جماعية، عواطف ذات موضوعات مادية وأخرى معنوية أو مجردة، وفوق ذلك وقبله عواطف البشر تجاه خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وباعثهم يوم النشور.

والجميل والطريف في آن واحد أن معظم البشر الذين حفل القرآن الكريم بتصوير عواطفهم هم أنبياء الله ورسله عليهم السلام، والطرافة هو تصوير عواطفهم البشرية في جميع أحوالها، بما فيها أحوال الضعف على الرغم من أنهم معصومون: [ قل سبحان ربي هل كنتَ إلا بشراً رسولاً ]. (الإسراء: 93). ففضلاً عن العرض الفني في تصوير بشرية العواطف من صدق وواقع هناك غرض ديني ألا وهو أن الهفوات التي تقع منهم إثبات لبشريتهم أمام الخلائق، لئلا يرفعوهم فوق المستوى البشري، ويحملوهم من صفات الألوهية ما لا يمكن أن يتصفوا به، فهم عبيد مخلوقون لله تعالى، وليظهر الفرق بين أحوالهم قبل النبوة وأحوالهم بعدها.

لقد صور القرآن عاطفة الأبوة لدى يعقوب تجاه أبنائه يوسف وإخوته، ولدى إبراهيم تجاه ولده إسماعيل الذي رأى في الحلم أنه يذبحه، وفي وصايا لقمان لابنه، وفي دعوة نوح ابنه ليركب السفينة معه: [ ونادى نوح ابنه وكان في معزل: يا بني اركب معنا ولا تكنْ مع الكافرين. قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. وحال بينهما الموج، فكان من المغرَقين... ونادى نوح ربه: قال: ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح إنه ليس من أهلك. إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم. إني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال: ربِّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم. وإلا تغفرْ لي وترحمني أكن من الخاسرين ] (هود: 42 -43 و45 - 47) ففضلاً عن تصوير عاطفة الأبوة وما فيها من حب وإشفاق وحنان في لحظة ضعف.. هناك أيضاً تصوير لحظة الارتفاع بعدها والتوبة والإنابة والاستغفار.

وصوّر القرآن الكريم من عواطف البنوَّة دعوة إبراهيم آباه آزر للإيمان واستغفاره الله تعالى واستسلام إسماعيل لأبيه إبراهيم كي يذبحه: [ فلما بلغ معه السعي قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر. ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتلَّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقتَ الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم ] (الصافات: 102 - 107).

إنها عواطف بشرية حية: أب يريد ذبح ابنه لغير ما ذنب اقترفه بل استسلاماً لأمر الله. إنها لحظة قوة، قوة في بشرية الأب، وقوة في بشرية الابن، لذلك كان الأب من أولي العزم في الأنبياء عليهم السلام.

وصور القرآن من عواطف الأخوة مأساة ابني آدم (قابيل وهابيل)، وحسد إخوة يوسف وصحبة هارون وموسى. [ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً، فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبَّل من الآخر. قال: لأقتلنك قال: إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطتَ إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك. إني أخاف الله رب العالمين. إنما أريد أن تبوءَ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار ذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسُه قتلَ أخيه فقتله. فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي. فأصبح من النادمين ] (المائدة: 27-31). عاطفتان متصارعتان. إحداهما في لحظة ضعف والأخرى في لحظة قوة. وخاتمة الضعف الندم والخسران. تبكيت النفس يبلغ القمة حين لا يفطن القاتل إلى ما فطن إليه الغراب وهو حيوان أعجم.

تلك نماذج من تصوير القرآن للعواطف الفردية صاعدة وهابطة، أما العواطف الجمعية فأفضل نموذج لها هو ما عرضه من نفسيات بني إسرائيل ذلك العرض المفصل الذي لم يتكرر لدى أقوام آخرين، وفي ذلك حكمة بالغة سواء في الدلالة على دور هؤلاء في التاريخ أم في تفردهم بأنواع من الغلظة والقسوة والانحراف ما لا مثيل له: بدءاً بعصيانهم لله تعالى، ومرواً بالشرك وعبادة العجل، وانتهاء بقتل أنبياء الله، قال تعالى بعد وصف التوائهم وعنادهم في ذبح البقرة: [ ثم قست قلوبكم بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة. وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء. وإن منها لما يهبط من خشية الله. وما الله بغافل عما تعملون ] (البقرة: 74).

إن دراسة العواطف البشرية في القرآن تغني الدراسات النفسية العلمية، وهي جديرة بإرساء قواعد علم نفس إسلامي، كما أن دراسة عواطف بني إسرائيل، وقد أبدع القرآن تصويرها، لأمر ذو شأن في السياسة والاجتماع، فضلاً عن العلم والأدب، ولمثل هذه الإنجازات ندعو أصحاب القلم والهمم.

أما عواطف النساء فقد صور لنا القرآن منها عواطف الأمومة لدى امرأة عمران وأم موسى، كما صور عواطف الملكة بلقيس وزوجة فرعون، ثم عواطف العذراء البريئة الخائفة من التهم والظنون [ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً، فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً. قالت: إني أعوذ بالرحمن إن كنت تقيا. قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغياً. قال كذلكِ قال ربكِ هو علىّ هين، ولنجعله آية للناس ورحمة منا، وكان أمراً مقضياً. فحملتْه، فانتبذت به مكاناً قصياً. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: يا ليتني متُ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً]  (مريم: 16 -23).

وفي مجال العاطفة الجنسية لدى المرأة عرض القرآن نموذجين: أحدهما في لحظة ضعف المرأة والأخرى في لحظة قوتها. الأولى امرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه، والثانية ابنة شعيب التي قالت لموسى عليه السلام: [ إن أبي يدعوك ليجزيك  أجر ما سقيت لنا ] بعد أن جاءته على استحياء ثم قالت لأبيها: [ يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ] (القصص: 25 و26).

وإذا تأملنا لحظات الضعف البشري في العواطف التي صورها القرآن الكريم نجده، يسلك معها إحدى سبيلين: إما أن يعرضها بسرعة وإيجاز، أو أن يسوقها بشكل يحول دون التلذذ والإثارة بل تنطبع في النفس آثار النفور والتقزز، سواء في ذلك شذوذ قوم لوط الجنسي، أم غرور قارون، أم شهوانية امرأة العزيز، أم عدوانية (ابن آدم)، أم مادية بني إسرائيل وعنادهم ومظالمهم. وليس التطويل في أمر بني إسرائيل إلا لكثرة ما لديهم من انحرافات وجرائم. وهذا أمر واقع بقدر ما هو عميق وجاد. ونعني بالجد أنه هادف للإصلاح أو للتربية والارتقاء، ولو ورد في صورة ساخرة: [ مثل الذين حُملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ]  (الجمعة: 5). [ واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها. ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمثلُهُ كمثل الكلب إن تحملْ عليه يلهث أو تتركه يلهث. ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا. فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ] (الأعراف: 175 و 176).

وهكذا لم تكن العواطف البشرية في عرض القرآن لها خيراً محضاً ولا شراً محضاً، بل كانت جمعاً لهما وصراعاً بينهما، كما كانت الغلبة في النهاية للخير، سواء في نفس الإنسان المعروضة أم في نفس الإنسان القارئ أم في الدار الآخرة. وهكذا تكون الواقعية في عرض العواطف من غير تزوير ولا تهويل، ولا طغيان عاطفة واحدة كالجنس على بقية العواطف، ولا في الاستسلام لِثقلة الطين وكبت عواطف السمو والارتقاء: [ ونفسٍ وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكَّاها. وقد خاب من دسَّاها ] (الشمس: 7-10).

يتبع

الهوامش:

(1) و(2) الدوافع النفسية – د. مصطفى فهمي –ط5 –ص136.

(3) المصدر السابق: ص122.

(4) المصدر السابق: 136 – 137.

(5) منهج الفن الإسلامي – محمد قطب –ط4 – ص66.

(6) منهج الفن الإسلامي – محمد قطب –ط1 – ص4.

(7) منهج الفن الإسلامي – محمد قطب –ط4 – ص37.

(8) الدوافع النفسية - ص85 و142.

(9) منهج الفن الإسلامي - ص80.

(10) المصدر السابق. ص: 73.

(11) المصدر السابق. ص: 78.

(12) المصدر السابق. ص:72.

(13) المصدر السابق. ص:78.

(14) المصدر السابق. ص:78.

(15) المصدر السابق. ص:82.

(16) المصدر السابق. ص:84.