الإسلاميون والعطاء الفكري
الإسلاميون والعطاء الفكري
(النموذج السوري)
محمد علي شاهين
عندما يكون الإيمان بالإسلام طريق خلاص وسبيل إنقاذ، ويكون النضال من أجل التحرير هو جوهر النضال من أجل الإسهام والتبشير بمجد الإسلام وسيادته في أمة مهزومة مقهورة، ويكون التصدي للغزو الثقافي والفساد السياسي والتضليل القومي مهمة شاقة وعسيرة، تبرز أهمية الريادة الفكرية لنجباء الحركة الإسلامية من خـلال الإبداعات القلمية الراقية، والعطاء المتجدد القادر على الابتكار، والتعبير الصادق الأمين عن ضمير الأمة بصراحة وجرأة، والتنبيه إلى الأخطار التي تتهدد الأمة في حاضرها ومستقبلها، والسعي الدؤوب لإعادة صياغة الشخصية الإسلامية التي تستعصي على الاستعمار والاستغلال والقدرة على تقديم البدائل بلغة العصر.
وتبدو صورة هذه الحركة الرائدة اليوم أكثر جلالاً وجمالاً لأنها حركة مثقفين، تنوعت ملكاتهم الأدبية فكان لهم أدب رصين مهذب، وشعر قوي معبر، ومقالة نقدية مستوعبة قضايا التطور، وظهر منهم رجال كان لهم منطق أخاذ مهيب، مهدوا بفكرهم الإصلاحي لعالم جديد تسوده العدالة، وفجروا كفاح أمة لا تنقطع ثورتها، ووقفوا وقفة عز في خنادق المستضعفين ضد قوى الظلام، وكسوا بساحر لمساتهم الهياكل القديمة حلة البهاء وزادوها تألقاً.
ولطالما أحبت جماهيرهم المتعطشة إلى المعرفة، الكلمة الصادقة، وعشقت الخطابة النقدية للأوضاع السياسية والاقتصادية، والدعوة لوحدة العالم الإسلامي في ظل الخلافة، وتحرير الأمة.
وتعلمت الإنصات للترتيل في محاريبهم، فقد استوعبت هذه التجربة، وحملت روادها لقيادة الشارع الإسلامي، وتحدي الخصوم.
المزاوجة بين مدرستين
ولقد اتسعت ميادين العطاء الفكري التي صالوا فيها وجالوا، وتعمقت جذور الشجرة الطيبة التي غرسها الإمام البنا بيده المباركة خلال العقود الستة الماضية وفاح عطرها وأينع ثمرها، وطبعوها بلون متميز، زاوج بين مدرستين فنيتين عريقتين، كان لكل منهما في أدبنا العربي الأصيل وتراثنا الإسلامي نكهة خاصة، رغم تناقض تينك المدرستين إلى درجة الصراع بعد رفض التحكيم.
أخذوا من الخوارج صراحتهم في الحق والجرأة في مواجهة الخصوم وتحدي الأعداء والثقة بالنصر، والاطمئنان إلى عدل الله، ونوال الجنان والتضحية من أجل المبادئ وحب الاستشهاد، وأخذوا من الشيعة ذكر الأحزان والفواجع والبكاء على الشهداء الذين يعلقون على المشانق ويقتلون في الزنزانات ويعذبون داخل الأقبية والمعتقلات، ولابد للدارس المتعمق لهذه الظاهرة الفريدة من إسقاط دائرة الضوء على إحدى الساحات القطرية في عالمنا الإسلامي، فيختار الساحة السورية كمثال، وهي الساحة التي فاض كأسها بالعطاء، ويترجم في هذه العجالة باختصار لبعض الأعلام على كثرتهم وتنوع أساليبهم وغزارة إنتاجهم وانتشار مؤلفاتهم.
كان الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله تعالى - رمزاً متألقاً من رموز الحركة الإسلامية، فقد عالج في وقت مبكر المشكلات الاجتماعية والسياسية، ودعا إلى مناهضة الاستبداد السياسي ومجابهة الاستعمار، وتأييد القضايا الإسلامية في العالم متأثراً بالإمام البنا، ومتتلمذاً عليه وعلى خاله الشيخ محب الدين الخطيب، صاحب المطبعة السلفية، وهو أول من كتب مسرحية إسلامية (مسرحية أبي جهل) ويدل على سعة علمه وغزارة إنتاجه، فقد بلغت مؤلفاته أكثر من ثلاثين كتاباً، كتب في التراجم (رجال من التاريخ) وفي الرحلات (بلاد العرب) وفي القصة (قصص من الحياة) وفي الدعوة (تعريف عام بدين الإسلام) وفي النقد (في التحليل الأدبي).
قادة ومفكرون
أما الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله الذي تقلد مناصب رفيعة في قيادة الإخوان فقد كان رجلاً متميزاً بالعطاء، وكان إلى جانب هذا مفكراً من الطراز الأول وخطيباً مفوهاً، وشاعراً مقلاً، أيقظت روحه دعوة الإمام البنا في وقت مبكر أيضاً، فكان ثائراً على الاستعمار الفرنسي قائداً لكتائب الجهاد في فلسطين، مشاركاً في الحياة السياسية السورية والفكرية، ألف رحمه الله أكثر من خمسة وعشرين كتاباً منها: (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) و(المرأة بين الفقه والقانون) و(الأحوال الشخصية) و(أخلاقنا الاجتماعية) و(الاستشراق والمستشرقون) و(من روائع حضارتنا) و(المرونة والتطور في التشريع الإسلامي).
وتفوق الأستاذ عصام العطار المراقب العام الثاني للجماعة وخليفة السباعي في قيادة الحركة الإسلامية السورية في فن الخطابة حتى عد من خطباء دمشق البلغاء، وكانت خطبة الجمعة في مسجد جامعة دمشق، في الستينات أشبه بخطبة الجمعة في جامعة طهران بعد الثورة الإسلامية، وكانت له في صحيفتي اللواء والشهاب أعمدة دائمة ومقالات وتصريحات، تناولت شؤون السياسة والحكم.
أما عن فنون التحقيق والنشر فقد كانت لهم بها قدم راسخة ومعرفة واسعة وإنجازات علمية راقية.
ولا يزال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - رحمه الله تعالى - رائداً في فن التحقيق، مجتهداً فيه مع غزارة في التصنيف والتأليف، ومن كتبه المحققة (الأجوبة الفاصلة للأسئلة العشرة الكاملة) و(الرفع والتكميل في الجرح والتعديل) للكنوي، و(المصوع في معرفة الحديث الموضوع) للقارئ، و (قواعد في علوم الحديث) لظفر أحمد، وقد تميزت قيادته للجماعة داخل البلاد وخارجها بالحكمة والأناة في أحلك الظروف، وأنجبت مدرسته الفكرية في حلب الكثير من النجباء.
وكان الشيخ سعيد حوى رحمه الله مربياً فاضلاً ومحدثاً أنيقاً وخطيباً متمكناً، ومفكراً حركياً من طراز فريد، وهو مثل سيد قطب في مصر، دعا إلى تحرير الأمة الإسلامية وتحقيق أمنها، وكان مجاهداً، ألف الدراسات المنهجية وهي (الله) و (الرسول صلى الله عليه وسلم) و (جند الله ثقافة وأخلاقاً) وله (المدخل إلى دعوة الإخوان المسلمين) وكتب في السجن (الأساس في التفسير) أحد عشر مجلداً.
ويعتبر الأستاذ محمد المجذوب - رحمه الله تعالى - أحد رواد القصة الإسلامية، فقد أصدر في وقت مبكر سلسلة للشباب والطلاب منها: (قصتان من الماضي) و (قصص من سورية) و (قاهر الصحراء) و (مدينة التماثيل) ورواية (صرخة دم) ومسرحية (من تراث الأبوة) وله (تأملات في المرأة) و (ذكريات لا تنسى مع المجاهدين والمهاجرين في باكستان) و (علماء ومفكرون عرفتهم) ثلاثة أجزاء، وكان خطيباً شعبياً عرفته منابر الساحل السوري في المناسبات الوطنية، وشاعراً صاحب ديوان ومجموعات شعرية راقية (همسات قلب) و (نار ونور) و (ألحان وأشجان).
الأميري.. شاعراً
وبرز من شعراء الإخوان رجال تمثلوا فكر الإمام المجدد وطريقته الإصلاحية التربوية، ومدرسته الجهادية، كان في طليعتهم عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله الذي اكتوى بنار القضية الفلسطينية، فكانت هاجسه اليومي منذ أن تطوع في جيش الإنقاذ عام 1367/1948، وعبر عن هموم المسلمين بجرأة وصراحة، ونقد الأوضاع الشاذة وكان يرى أن الإسلام وحده طريق الخلاص بعد سقوط كل الشعارات والأيدلوجيات والوجوه المستعارة، ونظم من أجل تلك المعاني عشرات الدواوين والمجموعات ومنها: (من وحي فلسطين) و (ملحمة الجهاد) و (الزحف المقدس) و (حجارة من سجيل).
وإذا ذكرت القصة القصيرة في سورية ذكر رائد هذا الفن الأستاذ إبراهيم عاصي –فرج الله عنه- بعد أن أغفله النقاد، ونسيه الموظفون في مكاتب حقوق الإنسان، ولنقرأ معاً مجموعاته القصصية: (سلة الرمان) و (ولهان والمتفرسون) و (حادثة في شارع الحرية) ومجموعة مقالاته في المرأة (همسة في أذن حواء) وفي الرجل: (للأزواج فقط) ولنجلس أمامه ليحدثنا بأدب جم في كتابه: (جلسة مفتوحة مع مالك بن نبي).
وملك الدكتور حسن هويدي ناصية البيان والبلاغة رغم تخصصه في الطب، فكانت له مؤلفات قيمة منها: (الوجود الحق) و (الشورى في الإسلام) و (من نفحات الهدى) وله محاضرات لو جمعت لبلغت عدة مجلدات في مباحث العمل الإسلامي الحركي والتربية الروحية.
وكتب الأستاذ عبد الله الطنطاوي في الأدب والدين والسياسة مقالات امتازت بالصدق والأصالة وكان جل اهتمامه بأدب الطفل المسلم، وأدب الانتفاضة الفلسطينية، وصدر له في الدراسات الأدبية والنقدية (دراسات في أدب باكثير) وفي الرواية (عشر روايات للانتفاضة) ورواية (القسام) وكتب في القصة (أصوات) وكتب للأطفال ستة وعشرين كتاباً.
وامتاز الأخ عبد الله عيسى السلامة بالأدب الجم والأسلوب المشرق، فكانت بعض خصال شعره المعبر عن معاناة المسلم المعاصر في ديار الاغتراب، وجاءت مقالاته الأدبية والنقدية ثمرة قلم عقائدي ناضج منفتح على الثقافات والمدارس الحديثة، ومن أبرز أعماله: مسرحية (بيت العباقرة) و (واحة في التيه) ومجموعته الشعرية (الظل والحرور).
وأجاد الأديب الإنسان محمد محمود الحسناوي فن المقالة السياسية والدراسة النقدية وأنصتت له المنابر وخشعت له المحاريب وهو صاحب كتاب (الفاصلة في القرآن الكريم) وتألق في ليل الأمة مثلا جوهرة نفيسة في روايته (خطوات في الليل) ومجموعته الشعرية (في غيابة الجب) ومجموعته القصصية (الحلبة والمرأة).
ولولا خشية الإطالة لاستعرضت نماذج من إبداعاتهم المنثور منها والمنظوم، وحلقت مع هؤلاء الأعلام في عالمهم الساحر البهيج، وتناولت بالنقد أجمل ما غنوه من قصائد، وكما كتبوه من قصة أو مسرحية، وما دبجته يراعتهم من مقالة أو دراسة أو بحث، وأضفت إليهم من أهل الفكر والقلم ضمن هذا النموذج نجوماً لا يتسع المقال لمقامهم.
ولابد للدارس المتعجل، وهو يستعرض مسيرة هؤلاء الرواد كنماذج مختارة من وقفات.
الأولى: أصالة الحركة التي أنجبتهم وفجرت طاقاتهم في خدمة أهدافها.
الثانية: خروجهم عن دائرة القطرية إلى الإسلامية الأرحب.
الثالثة: جمعهم بين العلوم الدينية والفنون الأدبية والثقافات العصرية.
الرابعة: حملهم هموم الوطن وعدم تخليهم عن جماهيرهم.
الخامسة: تقلدهم مناصب في حركتهم يدل على احترام قواعدهم لرجال الفكر.
السادسة: تمثيلهم للمحافظات السورية يؤكد انتشار الفكر الإسلامي وثراءه داخل البلاد.
السابعة: غزارتهم في التأليف والتصنيف والنظم وقدرتهم على العطاء والبذل.
وسيظل
الفكر الإسلامي الذي أرسى قواعد مدرسته الحديثة كل الرواد حياً ما دامت الحياة،
وستبقى الكلمة الطيبة بلسماً شافياً لجراح الأمة الموؤدة المقهورة وهي تتطلع لفجر
إسلامي مشرق في كل الأقطار.