خماسيات الأميري .. هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي (3)

خماسيات الأميري (3)

هدية الأدب الإسلامي للأدب العالمي

بقلم: محمد الحسناوي  

 

[email protected]

الموسيقى

إن الموسيقى في الآداب والفنون لاسيما الشعر قرينة التوهج العاطفي أو النفسي أو ثمرتهما، وقد يخطر على البال أن الشعر الإلهي لدى الأميري هو مـن بـاب التأملات، التي يغلب عليها الجانب العقلي، ويتوارى عنها الجانب العاطفي، والأمر ليس كذلك. إن الأميري يذكر الله تعالى كذكر الناس ذويهم وأحبابهم بل أشد ذكراً. قال تعالى: (فإذا قضيتم مناسِكَكم فاذكروا اللهَ كَذِكرِكم آباءكم أو أشدّ ذكراً، فمنَ الناسِ من يقولُ: ربّنا آتِنا في الدُنيا ومالَهُُ في الآخرةِ من خَلاق) (البقرة: 200) إن ذكر الله عند الأميري هيام وعشق وَوَلَهْ:  

الحجرُ الأسـودُ قبّلتُـهُ    بشفَتَيْ قلبيْ، وكُلّي وَلَـهْ

لا لاعتِقادي أنّه نافـعٌ    بل لِهُيامي بالّـذي قَبّلَـهْ

محمدٌ أطهرُ أنفاسـهِ    كانت على صفْحاتهِ مُرسَلَةْ

قبّلتُه والنورُ من ثغـرهِ    يُشرقُ آياتِ هدىً مُنزَلَةْ

قبّلتُ ما قبّلهُ ثغرهُ النَّا    طِقُ بالوَحيِ ابتِغاءَ الصِّلَةْ

(مع الله: 116)

فهو لِحبِه اللهَ تعالى حباً جعل كيانه كله وَلَهاً.. أحب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولحبه العميق لرسول الله أحب أنفاسه، ولحبه الجمِّ لأنفاس الرسول أحب الحجر الأسود فقبله:

أمـرُّ عـلى الديارِ ديارِ ليلى    أقبّلُ ذا الجـدار وذا الجدارا

ومـا حـبُّ الديارِ شغفنَ قلبي    ولكنْ حُبُّ من سكن الديارا

لذلك لم يقتصر الشاعر في التعبير عن مشاعره الجياشة بالتزام البحور الشعرية والقوافي، بل أسهمت في موسيقى خماسياته عوامل متعددة، كالتصريع في المطالع والتصريع في الشطور، وبعض الترصيع، وألوان من الجناس والطباق، وبالتكرار في بدايات الأبيات أو بعض التراكيب والكلمات، وحتى القافية اكتنزت بمعطيات علاقاتها بما قبلها وما بعدها، سواء بِردّ العجز على الصدر أو بالإرصاد وما شاكل ذلك.

إن الأميري عاصر ظهور شعر التفعيلة، وكتب مقدمات لقصائده بنثر فني يكاد يكون من شعر التفعيلة، ومع ذلك لم يلم في إنتاجه الخصب بشعر التفعيلة، إنه ملتزم بعروض الخليل بن أحمد الفراهيدي، بل لم يقف عند استخدام البحور الشعرية المألوفة حديثاً أو في العصر العباسي والأندلسي والشعر المهجري، إنه نظم على البحر الطويل مالا يقل عن اثنتي عشرة خماسية، وواحدة على بحر المنسرح، أما مجموع البحور التي تجول فيها فهي عشرة بحور هي: (الرمل 18خماسية - الطويل 12 - الخفيف 15 - المتقارب 14 - السريع 13 - الكامل 10 - البسيط 6 - الرجز 5 - المتدارك 1 - المنسرح 1).

إن بحور الخليل -في رأي نازك الملائكة- أغنى موسيقى من شعر التفعيلة لأن بحور الخليل فيها تعدد أو تنوع بالتفعيلات مثل: (فعُولن مفاعيلن، أو مستفعلن فاعلن)، أما عروض شعر التفعيلة فإنه قائم على تكرار التفعيلة، وموسيقاه بناء على ذلك تظل رتيبة أو متجانسة، هذا أمر، وأمر آخر إن تخلي شعر التفعيلة قليلاً أو كثيراً عن القافية، ثم الإكثار من القوافي المقيدة (بحرف الساكن) زاد من الضعف الموسيقي، وحرم هذا الشعر من سهولة الاستظهار فالحفظ فالاستمرار في الذاكرة أو التداول. وقد اعترف النقاد بهذا الفرق بين العروضين، لما اتهم بعضهم عروض الخليل بأن موسيقاه صاخبة لا تصلح للشعر المهموس.

إن دراسة "الفاصلة" في القرآن -وهي كلمة آخر الآية- تفيد في تقويم الدور الذي تنهض به التقفية في الأدب العربي (من فاصلة وقافية وسجع)، فآيات القرآن الكريم لم تتخل عن الفاصلة، لكن السور التي التزمت فاصلة موحدة هي إحدى عشرة سورة، وهي من قصار السور، على حين كانت السور ذوات الفواصل المتقاربة إحدى وأربعين، والسور ذوات الفواصل المنفردة إحدى وعشرين، والسور ذوات الفواصل المتنوعة إحدى وأربعين سورة، وهي بقية السور(19).

لذلك نبه نقاد الشعر الجديد على أهمية القافية، فرأوا أنها ألزم له منها للشعر القديم ذي الطول الثابت الذي يساعد السامع على التقاط النبرة الموسيقية، ويعطي إيقاعاً شديد الوضوح بحيث يخفف ذلك من الحاجة إلى القافية الصلدة الرنانة التي تُصوّت في آخر كل شطر فلا يغفل عنها إنسان(20).

على أن الأميري كانت له خصوصية في التعامل مع عروض الخليل، سواء ما يتعلق بالبحور أو بالقوافي.

بالنسبة إلى البحور استخدم مضاعفة التفعيلات أو الشطور في بعض الخماسيات، وهو غير مألوف في حدود علمي قديماً ولا حديثاً، كما استخدم التخفف من التفعيلات من خلال المجزوء (مجزوء الرمل مرتين) أو المشطور (مشطور الخفيف ومشطور الرجز أو الأرجوزة مرة لكل منهما) وهذا مألوف قديماً وحديثاً، فمجزوء الرمل الذي حذفت منه تفعيلة من الشطر الأول أي جزء وتفعيلة أخرى من الشطر الثاني، فأصبح مجموع تفعيلات البيت أربع تفعيلات، يعمد الشاعر الأميري إلى جعل البيت ثماني تفعيلات في خماسية "جذبة":

يا مَعانيْ اللهِ في نفسيْ وروحيْ وضميريْ    حلّقي وارتقي فوقَ سماواتِ الأَثيرِ

أشرِقي وهّاجةً في غورِ قلبيْ ووجودي    والبثي وضّاءةً في ليلِ عمريْ وأنَيري

وتجلَّي لِجبالِ الهمِّ يجثو فوقَ صـدريْ    فلقد أزهقَ صدريْ حملُ همٍّ مُستطِيرِ

فإذا ما جُعِلتْ دكّاً أعينيني بعـزمٍ    أنا لا أرغبُ أن أُصعَقَ في ساحِ القَديـرِ

غايةُ القصدِ -ومَنْ أقصدهُ ربٌّ كبيرٌ-    جَذْبةٌ تُنعمُني بالقربِ من ربٍّ كبيـرِ

(مع الله: 78)

من الواضح أن الجزء الثاني من السطر متعلق بالجزء الأول تعلّق الشطر بالشطر، كما هو معهود في الشعر الخليلي، وواضح أيضاً أن بنية القطعة أو القصيدة تشبه بناء الخماسيات الأخرى: من وحدة موضوع ووحدة نفسية أو عضوية متماسكة تشد أوصال النص بعضها إلى بعض، وأن الخاتمة على شكل وثبة روحية بأسلوب خبري ينهي الدعاء المفصل الذي تضمنته الأبيات الأربعة الأولى بأسلوبها الإنشائي: "يا معاني.. حلّقي.. وارتقي.. أشرقي.. والبثي.. وتجلّي.. أعينيني"، وموضوعها هو الإشراق والتجلي الذي يغلب على الخماسيات كلها.

إن مضاعفة التفعيلات أو الشطور تجعل الخماسية تتحول حسابياً إلى عُشارية لاسيما الأرجوزة المبنية على مشطور الرجز المعروف قديماً منذ العهد الجاهلي، وله تاريخه الطويل في الشعر العربي قديمه وحديثه، لكن خصوصيات الأميري التي أشرنا إليها تخالف المألوف لتنسجم مع حاجات الشاعر الفنية، وحسناً فعل!.

أما خصوصيات الشاعر في القوافي فأقلها ازدياد نسبة القوافي المقيدة (الساكنة الروي: 38 خماسية) مقابل: (56: مطلقة أو متحركة الروي) قياساً لمألوف الشعر القديم، وهي نسبة تواكب ظواهر في الشعر الحديث لاسيما شعر التفعيلة وحتى فواصل القرآن الكريم الذي تغلبت الفواصل المقيدة فيه على الفواصل المطلقة خمسة أضعاف، وهذا مما يميل بموسيقـى القوافي إلى الهمس بدل الضجيج، والإلهيات على حرارة عواطفها ليست "جماهيرية" أو خطابية فتحتاج للضجيج.

من خصوصيات قوافيه أنه كسر وحدة القافية أو الروي في بعض الخماسيات، وجاء بلونين أحدهما معروف لاسيما في شعر الموشحات والمهجريين والشعر الإبداعي (الرومانتيكي) حديثاً ألا وهو تنويع القافية مقطعاً مقطعاً، مثل خماسيته "قوافل النبوات" وهي الوحيدة بين الخماسيات:

.. وتتالـى عُمُر الإنسـانِ في الدهر المَديدْ

الهُدى والزيـغُ والكبـوةُ والعـزمُ السديـدْ

أنبـيـاءٌ ومــلوكٌ ورسـالات ودعـوةْ

واهتــداءٌ وارتـدادٌ وهـناءاتُ وشقـوةْْ

وبـدا فـي فلك الأقـدار إشـراقٌ وسُؤَددْ

لَفَتَ النـاسَ إلـى اللهِ فقـد جـاءَ مُحمّـدْ

وإذا النـورُ نـورُ اللهِ فـي الأكوانِ هالَـةْ

تصـنعُ الإنـسانَ بالـقرآنِ فتحاً ورِسـالَةْ

إنها معجزةُ الصحراءِ واللهُ له في العُرْب آيَةْ

تُنبـِتُ الأمـجـادَ بالإسـلام للدُنيا هِدايَـةْ

 (نجاوى محمدية: 85)

ألا يذكرنا هذا التلوين الموسيقي (القافية مقطعاً مقطعاً) بموسيقى قرآنية في بعض السور مثل سورة "العاديات" مع العلم أن كل مقطع يستقل بفكرة تتطلب هذا التقسيم الموسيقي:

والعـادياتِ ضَبحـا

فـالمـورياتِ قَـدْحا

فـالمُـغيراتِ صُبْحا

*   *

فـأثـرنَ بـه نَقْعا

فوسطنَ بـه جمْعا

*    *

إنَّ الإنسـانَ لِـربِّهِ لِكَنود

وإنّـه علـى ذلك لَشهيـدْ

وإنّـه لِـحُبِّ الخيرِ لَشـديـدْ

أفلا يعلمُ إذا بُعثرَ ما في القُبورْ

وحُصِّلَ مـا فـي الـصُدورْ

إنَّ ربـهم بِهـم يؤمئذٍ لخبيـرْ

والسؤال: هل أفاد الأميري من موسيقى القرآن مباشرة، أم عن طريق الذين تعاقبوا بالتأثر منذ الموشحات حتى يومنا هذا، أم هي التجربة الفنية التي استدعت ذلك، نترك ذلك الآن للنقاد والمتذوقين المعنيين على حد سواء، وتجربة الأميري مع القرآن واسعة عميقة.

الأطرف من ذلك أن يبني خماسية بل ثلاث خماسيات على قافيتين تتناوبان: الشطور الأولى على قافية، والشطور الثانية على قافية أخرى:

يا ربّ هذا الليلُ يجلو شُهبَـهُ    مثلَ ثُغورِ الحورِ في دياركا

يُحاورُ الولهـانُ فيـهِ حِِبَّـهُ    وإننـي أُحييهِ في حِوارِكـا

وخفقاتُ القلبِ يشكو خَطبـهُ    كأنّها الأصداءُ من أقدارِكـا

تَصدَّعَ القلبُ فأحَسِنْ رأبَهُ    يا ربّ واسقِ الروحَ من عُقارِكا

أَجِرْهُ إكراماً لينسـى كَربَـهُ    فراحـةُ المؤمن في جوارِكا

 (مع الله: 96).

إنّ وقع موسيقى الشطرين متتاليين في المخيلة السمعية كوقع خفقات جناحين يطيران، فإذا أضفنا للشطرين قافيتين متناوبتين باستمرار، فربما يتأكد هذا الإيقاع الموسيقي، وتتضافر المعاني والمشاعر (القيم الشعورية) مع القوافي والموسيقى (القيم التعبيرية) للإيحاء بأجنحة التحليق، والموضوع إشراق وتجليات محلّقة.

إن القيم الموسيقية في الشعر عامة وفي شعر الأميري لا تتأتى من تفعيلات البحر العروضي وأصداء القافية وحسب! ففي النص السابق أنواع متفاوتة من الموسيقى الظاهرة والخفية بدءاً بالتراكيب والعبارات ومروراً بالكلمات وانتهاء بالحروف المتجانسة أو المؤتلفة أو المتقاربة، نشير مثلاً إلى ردّ العجز على الصدر في بيتين: "يحاور.. حوارك". و"أجِره.. جوارك". فبقدر ما في رد العجز على الصدر من تماسك بنيوي فيه أيضاً تصادٍ موسيقي. وانظر العلاقة الصوتية بين ثنائيات الكلمات: "ثغور.. الحور" "القلب.. خطب" "الأصداء.. الأقدار" فضلاً عن تكرار تركيب نديّ: "يا رب.. يا رب". لقد استخدم الأميري ببراعة صيغ "الإرصاد" وشقيقه رد العجز على الصدر ثماني عشرة مرة للأول، واثنتي عشرة مرة للثاني في الأقل، فإذا أضفت إلى ذلك استخدام التكرار الفني للكلمات أو التراكيب أو بدايات الأبيات أو عدداً من هذه الأساليب مرة واحدة.. عرفت مدى غنى الموسيقى داخلية وخارجية في خماسيات الأميري(21) تأمل معي هذه الخماسية "حتى ترضى":

لكَ الحمدُ طوعاً.. لكَ الحمدُ فرضاً    وثيقاً عميقاً.. سماءً وأرضا

لكَ الحمدُ صمتاً.. لكَ الحمدُ ذِكراً    لكَ الحمدُ خَفقاً حثيثاً.. ونبضا

لكَ الحمـدُ مِلءَ خلايـا جَنانـي    وكلِّ كياني.. رُنوّاً وغَمضـا

إلهـيْ وجاهيْ إليـكَ اتجاهـيْ    وطيداً مَديداً.. لِترضى فأرضى

فأنتَ قِواميْ.. وأنتَ انسِجامـيْ    مع الكونِ والأمرُ لولاكَ فَوضى

 (قلب ورب: 197).

لعلك لاحظت تكرار البدايات "لكَ الحمدُ"، كما لاحظت الجناسات "وثيقاً عميقاً" "جناني كياني" "إلهي - جاهي - اتجاهي" "وطيداً مديداً" "لترضى فأرضى"، كما لاحظت تقسيم الشطور نحوياً وعروضياً أي موسيقياً: "لكَ الحمدُ طوعاً - لكَ الحمدُ فرضاً" "لكَ الحمدُ صمتاً - لكَ الحمدُ ذكراً - لكَ الحمدُ خفقاً"، بل تدرج التقسيم من مقابلة تفعيلتين مع تفعيلتين إلى تقابل تفعيلة مع تفعيلة: "إلهي - وجاهي" "وطيداً - مديداً" "لترضى فأرضى"، وهذا كله غير التناظر في صيغ التركيب وموسيقى الكلمات: "فأنت قوامي.. وأنت انسجامي" أي البدء بضمير مخاطب منفصل ثم بخبر مضاف إلى ياء المتكلم، مع جناس لفظي تام في المبتدئين وناقص في الخبرين وهكذا.. هذا أيضاً غير الطباق العفوي الناجح: "طوعاً - كرهاً" و "سماء - أرضاً" و "صمتاً - ذكراً" و "خفقا - نبضا" و "رنواً - غمضا" و"انسجام - فوضى" وأخيراً نشير إلى تصريع المطلع "فرضا - أرضا".

كنا أشرنا إلى دور الخواتيم في تماسك الخماسيات لما تحدثنا عن الهيكل أو البناء، وهي تستحق عناية أكبر، لاسيما علاقتها بالمطالع وبمجموع النص، ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن أهمية المطالع لا تقل عن أهمية الخواتيم، وإن كان كل من المطلع والخاتمة جزءاً لا يتجزأ من جسد الخماسية.

المطلع هو المدخل الشعوري والتعبيري لكل خماسية، والناس إذا نسوا ما حفظوه من قصائد قلما ينسون المطالع القوية التي حفظوها، مثل مطلع الخماسية السابقة:

لكَ الحمدُ طوعاً.. لكَ الحمدُ فرضا           وثيـقاً عميقاً.. سماء وأرضا

ومن قوة المطالع اعتماد التصريع، وهو اتفاق قافية الشطرين بحرف الروي، وقد أفاد منه الأميري في (35) خمس وثلاثين خماسية، على حين تخلى عن التصريع في بقية الخماسيات أي (59) خماسية، وتعليل ذلك هو مدى التوهج العاطفي الذي تفتتح به الخماسية، فإن كان البناء متدرجاً، لم يكن هناك حرص على التصريع، وإن كان الافتتاح من نهاية التجربة الشعورية فالمرجح أن يبدأ الشاعر بالتصريع، وربما جاء التصريع داخل الخماسية أيضاً:

ولقد تَثقلُ الهمومُ على القلـ    ـبِ.. وتُوحي إليه مُرَّ أساهُ

فإذا أشرقَ اليقينُ على المَرْ    ءِ.. فنادى في الكربِ: يا أَللهُ

وبَدَتْ مِلءَ رُوحهِ وحِجـاهُ    وغَدَتْ في اللسانِ هِجِّيـراهُ

أصبحَ الهمُّ قُربةً وسُكونـاً    ألرضى بالقضاءِ رَجعُ صَداه

وتجلّى الرحمانُ بالعَزم والتثبيـ   ـتِ.. فالمرءُ صابرٌ أوّاهُ

(مع الله: 94)

إن القافية بذاتها تحتاج إلى دراسة، مثل الاتكاء هنا على حرف الراء المسبوقة بألف المد وهي بالضبط (آه..) في جو الهموم!

معجم الخماسيات الشعري

للشاعر الأميري معجمه الشعري الخاص، وربما كان حديثنا عن معجم الخماسيات لا يختلف كثيراً عن معجمه العام.

من معجم الخماسيات إيثار الشاعر لألفاظ أو كلمات بعينها، إما لحاجة فنية يتطلبها موضوع الخماسيات الإلهي، أو تتطلبها فرادة التجربة النفسية الشعورية لدى الشاعر نفسه.

من الألفاظ ذات العلاقة بالموضوع الإلهي الترنم بألفاظ الجلالة، فقد تردد لفظ الجلالة "الله" في الخماسيات (50) خمسين مرة صريحاً، فضلاً عن ألفاظ الضمائر العائدة إليه، ومثل ذلك لفظ "ربّ" تردد (48) ثماني وأربعين مرة، وهذا غير الضمائر التي تعود إليه، وغير أسماء الله الحسنى وبقية ألفاظ الجلالة: الرحمان.. الرحيم.. الديان. يتعلق بالموضوع الإلهي ولفظ الجلالة ألفاظ أخرى ومشتقاتها مثل: "الحمد: تردد 8 ثماني مرات - تقدّس: 5 - ذكر: 7 - فيض: 5 - غيب: 4 - تقوى: 7 - استغفر: 5 - عبد: 11 - خلق: 8 - حبل: 4 - آلاء: 4 - سر: 3 - الهدى: 5 - أقدار: 9 - البرايا: 5".

ومما يتعلق بالموضوع الإلهي التجربة الروحية التي يمر بها الشاعر من سمو وإشراق: "قلب: 40 - سمو: 13 - سنا: 15 - نور: 32 - كون: 23 - التجلي: 12 - حي: 8 - غفلة: 4 - الدنى: 13 - ذروة: 3 - همّ: 12 - غمض: 3 - سعي: 5 - عزم: 13 - عرج: 5 - ارتقى: 5 - صعد: 3 - ارتفع: 3 - إشراق: 18 - خفق: 8 - الحب: 5 - محص: 2 - طهر: 4 - سماء: 14 - الأرض: 10 - يشع: 4 - الدهر: 7 - هيام: 3 - يقين: 4 - حيرة: 5 - جو: 4 - كشف: 4 - خِلابة: 2 - شام: 3 - غيّان: 3 - وَلَهٌ: 6 - وضوء: 3 - سرى: 6 - رأى: 23 - البون: 2 - كون: 22 - ذنب: 12".

مما يتعلق بفرادة تجربته، ويخصه هو بالذات: "أنا: 15 - روح: 28 - نفس: 24 - الحر: 10 - عقل: 7 - جسم: 5 - إنسان: 5 - كيان: 5 - طين: 2 - بصائر: 2 - الأبصار: 4".

وما هو أشد خصوصية، ولا نكاد نراه عند غيره: "كنه: 5 - غور: 13 - خلايا: 7 - ذرات: 5 - وجائب ،1 جمع وجيبة وهي الوظيفة - دِبق: 1 - غلق: 1 - جرم: 1".

للتراث الإسلامي في خماسيات الأميري صدى عميق في الكلمات والعبارات والصور واللوحات وأسماء الأعلام وحتى الأحداث التاريخية أو القصص، وما من خماسية تخلو من واحدة من هذه المفردات، لكن الأميري من حيث التصنيف أولى أن يصنف في المدرسة الإيحائية التي تعيد إنتاج التراث، وتتمثله من جديد، فعلى الرغم من وفرة الألفاظ القرآنية تظل عناية الشاعر بالمعاني والآفاق أكثر، والموضوع الإلهي هو خير برهان على ذلك يقول في خماسية "فتنة":

ما فتئ الشيطانُ يُغرينـي    ولم ينـلْ منّيَ مأمـولا

تَخذتُ كي أدرأَ تسويلـهُ    حَبلا إلى ربّيَ مَوصـولا

غَلَلَتُهُ فيـه، فلـم يَنطلقْ    إلا قليــلاً دامَ معلـولا

لكنني مازلتُ في خشيـةٍ    من فتنةِ تَعتـوِرُ الجيـلا

أخافُ إن لم يَحمِني ربّيْ    من وسوساتِ الزلَّةِ الأولى

(مع الله: 87)

فالألفاظ المفردة: "شيطان - تسويل - حبل موصول - مغلول - وسوسات" يمكن إعادتها إلى نصوصها القرآنية بسهولة، ولها موحياتها المتفرقة، لكن الشاعر ألّف بينها في فلك واحد هو موضوع الفتنة، ووضعنا أمام تصور الإسلام للفتنة الشيطانية بدءاً من عهد آدم عليه السلام بالجنة، فهذه المفردات لم ترد لذاتها متفرقة، بل لدورها متجمعة متكاملة متضامنة، وهذا التوظيف الأفضل للتراث.

صور التجلّي والإشراق

ميزة الشاعر الأميري ليست في وفرة الصور أو التجديد والابتكار فيها، وهذا كله متحقق إلى حدّ بعيد، إن ميزته الأولى في خيال الشعر العربي قديماً وحديثاً هي نجاحه في تصوير اللحظات أو الوثبات الروحية في حضرة الله تعالى وتجلياته على عباده الصالحين.

من صوره البارعة المبتكرة: عين القلب - مسمع الروح - شفاه النجوم:

وتَراءَتْ لِعينِ قلبيْْ بَرايـا    من جمالٍ آنستُ فيها جَمـالَكْ

وترامى لمِسمَعِ الرُوح هَمسٌ    من شِفاهِ النجوم يتلو الثنالَكْ

 (مع الله: 51)

ومنها تصويره الفجر معراجاً للألباب، والقلب يناجي، والصدر يسبّح:

الليلُ في ظُلمتـهِ داجـى    والفجرُ في إشراقهِ أفصـحْ

فكان للألباب مِعراجـاً    أسرى بها نحوَ السنا الأوضحْ

بـدَّدَ شكـاً عابـراً هاجـا    وأصلحَ الرأيَ بِما أصلحْ

أشرقَ في الأبصارِ مِنهاجا    فالنفسُ من إيمانها تنضحْ

والقلبُ في خَفقتـهِ ناجـى    والصدرُ في أنفاسهِ سبّحْ

 (مع الله: 88)

هذه الخماسية ليست نموذجاً للشعر الإلهي الذي غلب على خماسيات الأميري وحسب، بل إن صورها وأخيلتها هي نموذج أيضاً لمعظم شعر الأميري الذي غلبت عليه السبحات الروحية وتجليات الإشراق الرباني، حيث يغدو كيان الشاعر ذرة من ذرات هذا الكون العظيم التي تسبّح بحمد الله تعالى، أو حيث تسبّح كل خلية من خلايا الشاعر وهي مستغرقة في شعاع أو أشعة النور الإلهي:

ألا يا سَناً فاقَ كُنْهَ السَـنا    وعَمَّ السَماواتِ عَمَّ الدُّنـى

تَخطّى مدانا ومحسوسَنا    وزادَ وأعجـزَ أفهــامَنـا

وأمعنَ فـي لا نهاياتـهِ    وأشرقَ.. أغدقَ.. فوقَ المُنى

إلى قبسٍ من شُعاعاتـهِ    شعرتُ بقلبـيْ سَما وادّنـى

وكنتُ أُصلّي فكانَ التجلّي    وما عدتُ أدري أنا..ما أنا..؟!

 (صفحات ونفحات: 25)

يبدو أن من الإنصاف أن نخصص دراسة مستقلة لصور التجلّي والإشراق في شعر الأميري، لأنها في تقديرنا أظهر ميزة في شعره، وأهم مسألة في حياة الإنسان.  

انتهـــــى

الهوامش:

(19) الفاصلة في القرآن - محمد الحسناوي - المكتب الإسلامي - دار عمار - ط2 ص: 297 - 298.

(20) قضايا الشعر المعاصر - نازك الملائكة - مكتبة النهضة - ط3 - ص: 164.

(21) أفاد من تكرار بدايات الأبيات في (21) إحدى وعشرين خماسية، ومن تكرار الكلمات في (47) سبع وأربعين خماسية.