عدم التثبت مرض يحتاج لعلاج
طريف السيد عيسى
يعاني البعض من أزمات صحية مثل : أزمة قلبية , أزمة ربو ... الخ .
و حديثنا عن أزمة من نوع آخر يعاني منها بعض المنتسبين للإسلام , ألا وهي أزمة عدم التحقق والتثبت .
وقبل الخوض في هذا المرض العضال , لابد من تعريف التثبت .
- تعريف التثبت لغة : طلب الدليل الموصل إلى الثبات , التأكد من حقيقة ما يعين على الثبات في الأمر , التأني أو التريث وعدم الإستعجال , السرعة في الحكم على الشئ دون طلب الدليل .
- تعريف التثبت إصطلاحا : السرعة وعدم التأني والتريث في كل ماله علاقة بالمسلمين .
يقول الله تعالى ( وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم ).
ورغم أن الأصل في المسلم حسن الظن , لكن مازال البعض يصر على قلب الأمور وجعل الأصل في المسلم سوء الظن , لمجرد الخلاف حول قضية ما , والطامة عندما يتم تسويق هذا الخلاف بطريقة أقل مايقال فيها أنها غير أخلاقية ومن أجل خدمة أهداف خاصة لاتمت للعمل الإسلامي بصلة , حتى لو ادعى العاملون ذلك .
وتبدأ هذه الأزمة من قطعة لحم تسمى اللسان , تلك القطعة التي أودت للمهالك , ووسعت مساحة التفرق والشقاق .
( روى الترمذي رحمه الله . عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قلت يارسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار .قال : لقد سألت عن عظيم , وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه : تعبد الله لاتشرك به شيئا , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت , ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير : الصوم جنة , والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار , وصلاة الرجل من جوف الليل – ثم تلا : تتجافى جنوبهم عن المضاجع – حتى بلغ : يعملون – ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه . قلت : بلى يارسول الله قال : رأس الأمر الإسلام , وعموده الصلاة , وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله . قلت بلى يارسول الله . فأخذ بلسانه قال : كف عليك هذا . قلت يارسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به . فقال : ثكلتك أمك ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ) .
إنه اللسان الذي يورد المهالك , وطبعا الأمر لايقتصر على اللسان , بل يشمل القلم الذي يخط البحوث والمقالات والمؤلفات وغيرها , ويشمل الأصابع التي تضرب على الكيبورد لتكتب , ويشمل كل وسيلة للتعبير تنحو منحى الشك والإتهام والطعن والسخرية والإستهزاء ... الخ .
وهناك من يتساهل في النيل من أعراض الناس دون علم ولاتحقق ولا تثبت ولا رادع ولا خوف من الجليل .
والقاعدة القرآنية تعلمنا كيف نتلقى الأخبار؟ وممن؟ وماهو مصير من يتلقاها من مصادر مشبوهة؟ :
يقول الله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على مافعلتم نادمين ) سورة الحجرات – آية 6.
فعلى المسلم عندما يقرأ أو يسمع خبرا أيا كان هذا الخبر , فلا يتسرع في تصديقه ثم يبني عليه موقف , بل يتثبت ويتحقق ويتأكد ولا يجري وراء الشائعات والظنون والأوهام .
والغريب أن البعض عندما تأتيه بخير يخصه فبماشرة يقول لك لاتتسرع ولا تتعجل واحفظ غيبة أخيك المسلم ويبدأ بسرد كل النصوص التي تدعوا للتسامح والصفح والعفو , بينما عندما يكون الخبر بحق جهة لاتخصه أو يخص جهة يختلف معها فتراه يتوسع في التشكيك والطعن والإتهام , ولا يتذكر تلك النصوص ويتجاهلها تماما !!!
( روي في الأثر عن الترمذي : الأناة من الله والعجلة من الشيطان ) .
وصدق الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ------- ولكن عين السخط تبدي المساويا .
فإذا كان الوحي قد انقطع ولم يعد بالإمكان توفر الدليل وخاصة في الأمورالتي لانملك عليها دليل , فإن هذا الدين علمنا ضوابط التحقق وعدم التسرع في الشك مالم يتوفر لدينا دليل لايقبل التأويل ( يقول ابن قدامة : فليس لك أن تظن بالمسلم شرا إلا إذا انكشف أمر لايحتمل التأويل , فإن أخبرك بذلك عدل . فمال قلبك إلى تصديقه , كنت معذورا ... لكنه أشار إلى قيد مهم فقال : بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد ؟ ).
- 1 –
( روى ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو كنت راجما أحدا بغير بينة , لرجمت فلانة , فقد ظهر فيها الريبة , في منطقها وهينتها ومن يدخل عليها ) ورغم ذلك لم يرجمها صلى الله عليه وسلم لأنها لم تقر وتعترف , ولم يقذفها بلفظ الزنا .
فأين من يتصدرون لرفع لواء الدعوة من ذلك كله , فتراهم في المجالس قمة في التنظير ولو ترك المجال ليتحدث في المثاليات لبقي ساعات طوال يتحدث , لكن عندما يمتحن كلامه على أرض الواقع فتجد تناقضا عجيبا غريبا !!!
( أخرج أبو داود والنسائي . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عليا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا , فأوصاه : .... فإذا جلس بين يديك خصمان , فلا تقضين حتى تسمع من الآخر , كما سمعت من الأول , فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ).
فكم وقعت فتن بسبب التسرع والشك وعدم التثبت , فمن تسرع وشك دون تثبت فهو مخطأ مهما ساق من مبررات ويعتبر تسرعه جهالة منه .
( ذكر القاضي شهاب الدين الشافعي في كتابه – آداب القضاء - : وعليه إن لم يتضح له الحق تأخير الحكم إلى أن يتضح ).
( قال الشوكاني في تفسيره لقول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا - : ومن التثبت الأناة وعدم العجلة , والتبصر في الأمر الواقع , والخبر الوارد , حتى يتضح ويظهر ).
لكن المشكلة هي أن الخلاف بين جهتين ينسف بينهما كل القيم , فما إن تلوح لهم فرصة للشك حتى يسرعوا في الشك والتمادي في النيل من الآخرين ولا مانع عندهم من إتهامات خطيرة تجعل المسلم خارج دائرة الإسلام , بل يتم التلاعب بالألفاظ ليبرروا فعلتهم , فهم يفرقون بين الإتهام وبين الشك , يتجاهلون أن القضية ليست في الألفاظ بل هي النيل من سمعة الناس والتشهير بهم سواء تم ذلك بالاتهام أو الشك .
( كتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد أمرائه – عدي بن أرطأة أمير البصرة – في قتيل وجد عند بيت ولم يعرف قاتله : إن وجد أصحابه بينة , وإلا فلا تظلم الناس , فإن هذا لايقضى فيه إلى يوم القيامة ) .
ويبررون الشك بأن ذلك طبيعة بشرية , إنه كلام حق يراد به باطل , حيث حتى الشك يحتاج لقرائن , ويجب أن يبقى الشك حبيس النفوس حتى يظهر الدليل الذي لايقبل التأويل , أما يقال شك ثم يتم نشر هذا الشك بين الناس , فهو عمل يقصد منه التشهير بالناس والتهاون في أعراضهم وهذا تعد وظلم .
فلا بد وخاصة لمن يتصدرون للدعوة أن يتثبتوا ويتحققوا ولا يتسرعوا في نقل أحاديث الناس ,ويتثبتوا ويتحققوا مما ينسب للناس , وعدم التسرع في إتخاذ موقف معين بناء على مايصل من أحاديث .
فهناك من تراه ناقلا لحديث لمجرد أنه سمعه من فلان دون تثبت ولا تحقق ( روى مسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ماسمع ).
فلابد من التدقيق والتمحيص والحرص فيعرف الشخص بماذا يتكلم ومتى يتكلم حتى لايقع في المحظور .
وهناك من ينتظر اللحظة التي يسمع فيها خبرا أو موقفا ليصب جام نقده فلا يدع مصطلحا من مصطلحات التخوين والتشكيك والطعن والإتهام إلا ويزين فيها نقده .
والطامة عندما نتخذ بطانة لاهم لها غير نشر الفتن بين الناس , ونقل الكلام , والمشي بالنميمة , ومع ذلك ندافع عنهم ونبرر طالما أنهم يقفون معنا ويؤيدون موقفنا , لكن ولمجرد أن اختلفوا معنا فنشن عليهم حملة شعواء لاتبقي ولا تذر .
فمطلوب منا التروي والأناة , وعندما نتثبت ونتحقق فيصبح من واجبنا التصويب والنصح وإبداء وجهة نظرنا وقناعتنا , إبراء للذمة وقياما بالواجب , حتى لاتتراكم الأخطاء فيصعب تداركها في المستقبل .
كما أن الناقل يجب ان يكون دقيقا وأمينا , فينقل ما قرأ أو سمع بدقة دون وضع البهارات والتزيينات , فهناك من يقوم بنقل فهمه لما قرأ أو سمع , وطبعا يكون فهمه حسب قناعته بالجهة التي ينقل عنها , فإن كانت ممن يتفق معها فتراه ينقل عنها نقلا إيجابيا , وإن كانت ممن يختلف معها فينقل عنها نقلا سلبيا .
إن الجري وراء الظنون والأوهام والتخمينات الخاطئة والشكوك وعدم التثبت والتحقق , إنما هو سلوك يؤدي
- 2 -
لتدمير حياة الناس , ويعرقل مسيرة الدعوة, ويوسع دائرة الشقاق , وينشر الشائعات , ويشكك بالعلماء والمفكرين والدعاة , ويؤدي لعدم الثقة بهم , بل ربما يدفع ضعاف النفوس لترك هذا الدين بسبب تلك السلوكيات الغير مسئولة .
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
فالشك كلمة تشعل الحرائق , وتقطع الأواصر , وتفسد الود , وتدمر المجتمع .