الآخر عرف نقطة ضعفنا وموطن نرجسيتنا

علي دهيني*

[email protected]

بعد قراءتي للمقالة التي كتبها الزميل يحي أبو زكريا بعنوان "أسباب نكستنا الماضية والراهنة"، رغبت ان أبدأ سلسلة مقالات حول هذا الموضوع بالذات، إلى جانب عدد من المقالات كتبتها سابقاً وأتمنى ان يعود إليها الزميل العزيز وغيره من الأخوة القراء الذين لم يتسن لهم قراءتها ربما، وهي تقرأ في واقعنا العربي والتجاذبات التي نتخبط بها والعديدة المصادر.

وُضعنا في قفص الإنكماش بما جعلنا "السندان" دائماً

[1]

إن اكتشاف حالة الانكشاف التي نتخبط فيها ليس اكتشافاً ولم يعد كذلك.. بل كشف الأسباب هو الذي يحتاج منّا السعي الدؤوب للتخلص من هذه الأسباب والانصراف إلى ما يجب أن يكون، تاركين وراء ظهورنا ما كان. وأفضل ما يمكن عمله على هذا الصعيد هو الاعتراف بأننا لا نملك سوى رد الفعل العاطفي على كل ما يجري، ولسنا مستعدين للحظة، أن نتجرد من هذه اللاّزمة لتوجهاتنا وقراءاتنا لواقعنا على كل الأصعدة.

ونعترف هنا أنه ليس من السهل اليسير أن نتخلّص من عاطفة تكونت ربما في جيناتنا البيئية وأصبحت مفتاح كل حرف لقراءة مجتمعنا في وجوهه المختلفة.

إن البراغماتية التكوينية لفكرنا وثقافتنا، أغلقت دون وعينا كل الأبواب منذ اللحظة الأولى لنمو هذا الوعي، وتولّت كل مفاتيح ذاكرتنا قبل أي شيء آخر، بما مكنها من تنصيب كل الحراس الذين تحتاجهم لسد منافذ هذه الذاكرة، كي لا يتسرب إليها ما يخالف هذه البراغماتية التي حرصت في كل أدبياتها، على احتواء طرق تفكيرنا دون مراعاة لواقعنا الإنساني الذي قد يتحرك بين فترة وفترة ليعترف بالآخر ولو من خلال خلق تساؤل ذاتي حول صوابية رأي أو فكر أو موقف أو حتى انفتاح على الآخر.

بعد هذه المداخلة، تعالوا نقرأ واقعنا.

نحن صراحة لم نضع أنفسنا في الوضع الذي نعيشه، ولكن بلا شك إذا عملنا بجد وبتفكير سليم يمكننا أن نرسم وضعاً مستقبلياً مختلفاً لمن سيرث جيلنا وسيأخذ أمكنتنا.

لم نضع انفسنا، لأن من سبقنا كان يعيش في تلك الدائرة التي ذكرت، هو الذي تسبب لنا فيما نحن فيه، على الأقل في جزء كبير منه، بحيث تمكن أن يضعنا في قفص الانكماش على الذات من خلال تلك البراغماتية التي ذكرت آنفاً، وأقنعنا بأن من يخالفنا الرأي هو خصم، هو عدو، ولم يشأ حقيقة ان يتنبه من هو العدو الحقيقي، لم يشأ أن يقبل بأن الجهل هو العدو، الجهل في معرفة ماذا نريد أولاً وأخيراً.

وُضعنا في قفص الانكماش بما يجعلنا "السندان" دائماً ولم يسمح لنا يوماً بأن نكون مطرقة، فيوم كنا مطرقة وصلنا إلى نصف الكرة الأرضية، وقدمنا إسهامات بالغة في ميادين علمية فذة لخدمة البشرية، قدمنا الهندسة، قدمنا الكيميا، قدمنا علم الجبر، قدمنا إسهامات بالغة الأهمية في الطب.

ولكن، الآخر، عرف نقطة ضعفنا، عرف موطن نرجسيتنا، سعى بكل جهده لإيقاظ عنصر القبيلة، وعمل جاهداً لإحياء شرعة العشيرة.

قبلنا هذا، وتعاملنا معه بإخلاص كامل نتج عنه اندثار أثرنا، وأذهب كل انجازاتنا. وعدنا بخديعة التاريخ الذي لا يرحم. عدنا بكل أدوات الانتقام التي ما زالت إلى اليوم تفري في أجسادنا، عدنا بكل معاول الهدم في بناء مجتمعنا، رغبنا بالجهل وسيلة كريمة للعيش.. أليس الراعي الأكبر لنا راضٍ عن ولائنا لقناعاته وترجماته لمفاهيمنا وأسس عقيدتنا التي ما زالت تخضع للتفاسير منذ وجدت وفي كل مرة بحسب أهواء وغايات المفسّر.؟

نحن لم نصنع أبداً ما نعيشه اليوم، ولا يستحق منّا هذا الوضع أن نعيد تشكيله في عرض حاله وما هو فيه. إننا في فترة زمنية أعتقد أننا تمكنا من استعادة بعضاً من وعينا، ويبقى علينا أن نستعيد ذاكرتنا في تصويب أفكارنا وتجريدها من تلك البراغماتية التي تحكمت بعدما استحكمت، وبات من الصعب مواجهتها، لكن ليس من المستحيل.

إن ما يجري على ساحتنا العربية والإسلامية أيضاً، مهما بالغنا في التفاؤل وظننا أنه من الممكن تصحيح المسار، نكون ما زلنا نعيش تحت تأثير الإرهاصات الفكرية التي نشأت مع جيناتنا وترعرت في مراتع لعبنا، وصاحبت حبوب شبابنا، وشهدت على عقود زواجنا، وباركت إنجاباتنا.. هي ما زالت القوة الفاعلة في كل مجريات حياتنا، والأبغض للنفس والأكره لها. الجميع يقول بخطأ ما يجري، والجميع يحاول أن يوصّف الحالة، لكنهم جميعاً يعملون من داخل سياج الحرص على أن رأيهم هو الصواب وأنهم هم خشبة الخلاص..

ليس هناك حقيقة مطلقة سوى ربّ العالمين وما أنزل على رسوله الكريم، وكل ما عدا ذلك هو صنع من سبقنا وصناعة ما استوجب من ظروف كان يعيش فيها.

لننظر في واقعنا.. أي أمة من الأمم قدمت أكثر منّا دماءً في سبيل قضاياها؟ وأي أمة من الأمم صبرت واصطبرت على واقع تدرك تماماً مدى مرارته على مستقبلها، ومع ذلك ترضى به قانعة؟ وهل مضى عقد من زمن لم نقدم فيه المئات من خيرة الأبناء وزهرة الشباب وأعزّة الرجال؟ والمضحك المبكي في هذا كله أننا نصدق من يربت على أكتافنا كلما متنا ويقيم الصلوات على أرواحنا بأبهى حللها حتى تحولت المآتم إلى أعراس نزغرد بها ونحيي لياليها بتقبل التهاني.! وفي مقلب آخر تم استثمارها بأبشع الصور كيداً وضغينة.

ونحن نقبل.. نقبل بكل هذا آميلن أنه الطريق الصحيح، ولا نفكر.. ولم نفكر اصلا لأن موضوع أن نفكر أمر مستبعد من ذاكرتنا.. ولا نفكر لماذا وصلنا إلى هنا بالرغم أن الفرصة أتيحت لنا قبل نصف قرن بأن نتجاوزها، وأن نستمر في تثمير الجهد الذي كان يبذل لتغيير هذا الواقع؟

لا أدعي القدرة على تخطيء أحد، ولكن من حقي أن أصرخ ولو في فناء ذلك البئر خشية وخوفاً.. من حقي أن أكشف أخطائي وأن أظهر مدى جهلي وانسياقي وراء عواطفي دون تفكير، وجريي وراء غرائزي دون وعي ولا تقدير للعواقب.

لا أدعي القدرة على تخطي الواقع.. ولكن من حقي أن أطرح السؤال..

وللحديث صلة..

              

* كاتب / مدير تحرير مجلة دليل الكتاب.