قبل أن تسَّاقط أوراق الورد

مصطفى أحمد البيطار

قبل أن تسَّاقط أوراق الورد

مصطفى أحمد البيطار

[email protected]

في هدأة الليل وسكونه ، وصمته وهمسه ، الطبيعة نائمة على ذراع الظلام ، لم تسمع تغريد طائر ، ولا شدو بلبل ، ولا نوح حمامة ، ولا صهيل جواد أصيل ، الكل في سبات عميق ، إلا من أَرَّقَ أَجْفَانَهُ السُّهد ؛ من عاشق ، أو جائع ، أو متألم مهموم أو من هدير شلال تدفق سيله في ليل داج ، ولحن ساقية عند منعطف الوادي ، ونقيق الضفادع عند الغدير الراكد ، وصوت السيارات لتوصيل مريض ، أو إسعاف جريح ، أو صديق عزيز يسمر مع خليل له يبثه أحلامه وأشجانه ؛ وإذ بباب منزلي صوت صديق صدوق ، جاءني لأحمل معه ما ناء بحمله - من هَمٍّ كدَّر عليه عيشه في نهاره وليله - وأواسيه ولم يستطع الانتظار حتى الصباح ، فأدخلته في قلبي قبل بيتي واعتذر عن زيارتي في هذا الوقت المتأخر من الليل ، وطفق يبثني أحزانه وأشجانه ، فقال وكلي آذان لما يقول ، وأسهب في قوله ، وكأنه كان من قبلُ عييًّا ، فانطلق لسانه لتملي عليه همومه وأحزانه : في يوم مكفهر طرق باب فؤادي زائر يود القرب مني ، بعد أن خَبرني وعَجَمَ( ) أَصْلِي وفَصْلِي وسيرتي من معارفه وأصحابه ، وتكبد مشاق سفر طويل بعيد ، ويحدوه أمل مديد ، في تأسيس بيت جديد - لفلذة كبده - يكون الجمع به سعيدًا إن شاء الله القوي المجيد ، لكنِّي وَجِلٌ وخائف من المستقبل المجهول ، فيا صاحبي أرجوك أن تسعفني بنصيحة تكون دواء لجراحي التي لم تندمل بعد ، فوعدته خيرًا وواسيته حتى زالت غُصَّتُه ، وهدأت نفسه وسكنت آلامه ثم خرج مودِّعًا شاكرًا لما قدَّمْتُ له من نصح واهتمام وذهبت لأنام ؛ فامتنعت عيني من ا لغمض ، فقمت إلى مكتبي كعادتي عندما تتوقد أفكاري وتجيش عاطفتي أهدئها بالكتابة ، فأردت أن أمتطي صهوة أفكاري لأعبر عما اعتراني من ألم ، فجمحت بي بعيدًا ولم تثبت على حال ، فنزعت آمالي وآلامي من غرز ركابي ، ونزلت إلى واقع حالي ، فتلمست يراعي الذي به أصف مشاعري ، وأداوي هُمومي ، فَحَرَنَ( ) ولم يخط خطوة ، ولم يَبِضَّ( ) مِدَادُه بقطرة واحدة ، وكأنه قد جف مداده من أمد بعيد ، وما كان من عادته ؛ فهو سهل قياده بعدما أتلمسه وأسوسه ، إما يكون شذا عطر من روضة غناء ، أو شوك علقم في أرض جرداء .

أما هنا فواساني ورأف بحالي وأخرجني عما أريد ، وسار بي في طريق للآباء والأبناء مفيد ، لوصف واقع أليم مرير يعيشه كثير من الناس المهاجرين من غير إرادة أو قصد ، عندما ينضج لديهم الأبناء ويريد كل واحد أن يتزوج ، فتكون أعظم المصائب لمن لديه إناث وذكور ...

فيا أيها الآباء والأمهات ؛ دوركم كبير وعصيب في اختيار صاحب الخلق والدين ولا يغرنكم صاحب الدين بغير خلق ، وما أكثرهم في هذا الزمان .

الخُلُقُ مرآة الدين لصاحبه ، فلا دين لمن لا خلق له ، وإن صلى وصام ، وقعد وقام ، وإياكم أن تتعبوا أنفسكم ، وتقيدوا أعناقكم وأرجلكم من أجل الناس .

كم من بيوت فسدت ، وأبناء شُرِّدَت ، ونِساء طُلِّقَت ، وأبكار عنست من أجل الناس ، لا نسأل عن أخلاق الرجل وطباعه بقدر ما نسأل عن المهر والجِهَازِ وحفلة العرس ، والمكانة الاجتماعية ، ورأس المال ، كل ذلك ليراه الناس .

إلى متى أيها الأحباب لا نعيش لأنفسنا ، وكلُّ همِّنا مرضاة الناس والخشية من الناس ، المرأة إذا خرجت من بيتها تزَينت ولبست أجمل الثياب ليراها الناس ، والموائد تُرَتَّبُ وتوضع عليها أجود الأطعمة فقط للناس ، والأولاد جياع !! والرجل يتصنع ويتلمع لا لأهله ، بل للناس ، ألا يوجد بطل يتحرر من هذا القيد ليكون قدوة للآخرين ! البيوت تبنى على الحب النقيّ الطاهر الذي لا شبهة فيه ولا رياء ، ولا نفاق ولا دخن ، حب صادق ، وإيثار وتضحية ، وشعور متبادل ، وإحساس بمشاعر الزوج لزوجه .

وحذار أيتها الفتيات من الحب الذي يقود إلى الرذيلة ، وجلب العار والدمار للأهل والديار والعشيرة … والحب أضعف مخلوق وأقواه ، هو الثوب الجميل الذي تحمله الفتاة ، حتى إذا ما رأت فتى أحلامها فتخلعه عليه فتراه به أجمل الناس ، وتحسب أنه هو الذي ترى صورته في أحلامها ، ومن بين سجف الأماني والآمال التي تتخيلها دون النظر إلى المسؤولية المُناطة بفتى الأحلام ؛ من أعباء الحياة وصروف الدهر أهو أهل وكفء أم لا ؟

الحب عالم من الأحاسيس ودنيا من العواطف فيها كل غريب وعجيب ، كم من محب يسامر نجوم الليل يتململ على فراش السُّهد لم تكتحل عيناه بنوم من لواعج الشوق إلى محبوبته ، والخوف منها والطمع فيها ، يذَكِّرُه بها حديث الساقية للخمائل ووميض الزهر في الروض ، ولفتة الساقية عند الرابية ، والشلال الهادر في الليل الداجي . ولكن هل يكتفي الجائعَ أن يرى الطعام ويشتم رائحته الشهية ، فينظم في وصفه الأشعار دون أن يسد جوعته ؟ لا يا أحبائي ؛ لو تزوج قيس من ليلاه لما نظم بيتًا من الشعر ، ولما انهالت عليه القوافي تحدو شجونه ، بعد أن ملأ الدنيا قصائد تناقلها الركبان في البوادي والوديان وفي كل زمان ومكان ، تسيل رِقَّةً وعذوبة ، وتفيض وَجْدًا وشوقًا ، مبينا أنه لا يريد من ليلاه إلا لذة النظر ومتعة الحديث ، فإذا بلغها لم يجدها شيئًا وطلب ما وراءهما ، ثم أراد الزواج ، فإذا تزوج لم يجد فيه ما كان يتصور من النعيم فذابت أحلام الخيال والأوهام تحت شمس الواقع كما يذوب ثلج الشتاء تحت شمس الربيع .

تلك الحياة ؛ تارة صافية ، وتارة يشوبها كدر أو بلاء ، وامتحان يعقبه رسوب أو نجاح ، وأنت تريدها صفوًا وقد جُبِلَتْ على كدر ، كطالب الماء من جذوة النار !

فهيهات يا صاحبي ؛ لا يكون ذلك إلا في دار الخلود ، والصحبة على أربعة أوجه ، وأفضل الصحبة وأدوها الزوج لزوجه ؛ الأول كالهواء لا يستغنى عنه وإن رق أو اشتد ، والثاني كالغذاء ، والثالث كالدواء ، والربع كالبلاء .

وأشدهم تعاسة البلاء ؛ كيفما كان فهو مظلم ، وأينما تحسسته فهو مُوجع ، لا بد لمن ابتُلى بهذا الصنف من الفراق أو الصبر على الابتلاء ، ليكون أجره عظيما ؛ كصبر آسية زوج فرعون ، فكان لها بيت في الجنة لا صخب فيه ولا وصب .

والدواء مُرٌّ مذاقه ، كريه ريحه ، لكنه للشفاء وعند الضرورة ينفع ، لذا معاشر الآباء والأبناء ؛ يجب الاختيار مع الاختبار قبل أن تكشف الأستار وتفضح الأسرار ، ويكون الهم والبؤس في الليل والنهار .

الخلق الحسن هو الروض الذي يستظل بأشجاره ويتغذى بثماره ويتعطر بشذا أزهاره ، الخلُق نبل وجود ، وكرم ومروءة ، وتضحية وإيثار ، وهو أصل من أصول الدين ؛ فمن لا خلق له لا دين صدق عنده ، وصدق رسول الله ﷺ عندما قال : (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )) .

فيا أيها الشباب والشابات ؛ سددوا وقاربوا ، لا تكونوا أنجمًا في أعالي السماء تريدون قمرًا يضيء في عالم الأرض ، ولا تكوني حورية من الحور العين لا تُهدى إلا لمن دخل الجنة ، بل كلٌّ يبحث عن نفسه من أصل معدنه وبيئته وجودته حتى يتم الوفاق ، ويولد الحب ، فينبت الزرع ويزهو الزهر وينضج الثمر ، ويحلو السمر ، في ظل الأسر ، لنكون خير البشر ، كما قال ربُّنا : ﴿ كُنْتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ صدق الله العظيم.