الحزب المستحيل .. وفقه الاصطياد 19

الحزب المستحيل .. وفقه الاصطياد -الأخيرة

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

بقلم : أ . د . حلمي محمد القاعود

كان ضروريا الوقوف عند برنامج الإخوان المسلمين المقترح بالقراءة الجادة ومناقشة أهم قضاياه الحيوية ؛ بحثا عن نقطة ضوء في آخر النفق ، ومع أنني أؤمن أن الوضع الحالي في مصر غير مهيأ للعمل السياسي ؛ بل يخلو أصلا من موضوع اسمه السياسة ؛ فقد رأيت أن طرح برنامج الحزب السياسي أيا كانت وجهات النظر حوله ، هو نوع من تنشيط الذاكرة القومية من أجل الوطن وفهم حاضره والبحث عن مستقبله .. ثم هو إطلاق للوعي بحقيقة النظام القائم والقوي المؤثرة فيه وعليه ، داخليا وخارجيا ، وطرح لمشكلاته الأساسية التي يعيشها الناس ويجأرون منها دون مجيب أو مغيث .

إن جدب الحياة السياسية في مصر لن يسمح في ظل ما يسمي لجنة شئون الأحزاب بقيام حزب يتعاطي مع الإسلام ؛ أيا كان هذا الحزب منبثقا عن الإخوان المسلمين أو غيرهم . فالإسلام يعني الكلمة الكودية للرفض والإقصاء والاستئصال . السياسة الدولية ترفضه والسياسة المحلية ترفضه أيضا  !

والحقيقة أن اعتماد الإسلام في العمل القومي منطقة حظر مفروضة علي المسلمين منذ الحملة الفرنسية علي مصر 1798 م ، وتأكد حظرها مع مجيء الاستعمار الانجليزي علي مصر، وصارت واقعا بعد تغلغل الاتحاد السوفيتي - الذي كان - ومن بعده الولايات المتحدة الأمريكية التي استباحت بلاد المسلمين بنفوذها وجيوشها ؛ ففرضت هيمنتها السياسية وأطلقت جيوشها العسكرية وجعلت من أفغانستان والعراق نموذجا لمن تحدثه نفسه بالمقاومة أو اعتراض سياستها وفي كل الأحوال فقد كان إلغاء الإسلام هو الهدف الأول للإستراتيجية الأميركية - والأوروبية بالتبعية – ثم حذفه من قاموس الحكومات في العالم الإسلامي خاصة بعد ربطه بالإرهاب وحوادث العنف في 1192001 .

وإذا أمعنا النظر في أحوال الإسلام علي امتداد العالم الإسلامي فإننا نجده محاصرا داخل أغلب الدول الإسلامية وأكبر عدد من المعتقلين والمساجين في هذه الدول هو من الدعاة والإسلاميين،  ويكاد يكون الأمن هناك محصورا في مراقبة الإسلاميين والأدبيات الإسلامية ؛ فضلا عن توظيف النخب الثقافية للتبشير بالثقافة الغربية وتشويه الثقافة الإسلامية .

ومن ثم فإن إقامة حزب إسلامي هو ضرب من المستحيل ، خاصة في بلد مثل مصر. صحيح أنه يوجد حزب إسلامي في الأردن وآخر في المغرب وثالث في العراق ولكن هذه الأحزاب محاصرة بواقع يقيدها ويحدد مدي حركتها .

لقد تقدم عدد من مؤسسي الأحزاب في مصر إلي لجنة شئون الأحزاب المختصة بالموافقة علي قيامها ولكن اللجنة لم تسمح لها أبدا ؛ علما أن الأحزاب المسموح بها في مصر تزيد علي عشرين حزبا يصعب أن نعد خمسة منها وكلها غير معروفة للجمهور ولا تأثير لها ، ولم يدخر النظام جهدا في تشتيت شمل الأحزاب التي اشتم منها رغبة في العمل والحركة ، بل أوقف بعضها دون أن يعبأ بأحكام القضاء المتكررة التي تقضي بعودتها إلى ممارسة نشاطها .وللأسف فإن الأحزاب المجهولة هي التي يوافق النظام على استمرارها لأنها مجرد ديكور وهيكل أجوف لا قيمة لها إلا تجميل وجه السلطة .

لن تسمح السلطة أبدا بقيام حزب سياسي رسمي للإخوان المسلمين لأنها لن تقبل شريكا في الحكم أو المعارضة بمعناها الحقيقي .

بيد أن مجرد طرح برنامج الحزب المقترح للإخوان المسلمين كان مفيدا علي أكثر من مستوي فقد فتح المجال أمام فقهاء الاصطياد من مثقفي السلطة للتشويش علي الإسلام وتشريعاته فضلا عن التشهير بالإخوان والتيار الإسلامي عامة ، وهو ما أتاح فرصة الرد والتوضيح من جانب الإسلاميين وأثار حركة فكرية أضاءت كثيرا من الجوانب التشريعية والفقهية والإنسانية في الإسلام .. ومن ناحية أخري يمكن القول إن إعلان برنامج حزب الإخوان المسلمين كشف حقيقة توجه السلطة نحو المزيد من الاستبداد وتجفيف الحياة السياسية تماما ؛ بسحق أية قوة سياسية يمكن أن تشارك في صنع المستقبل أو صياغة توافق اجتماعي يوفر علي الأمة كثيرا من العناء والمتاعب والآلام ؛ فالسلطة اتجهت إلي وضع مزيد من القيود والسدود أمام أية مشاركة شعبية في تحمل مسؤولية الوطن ، مكتفية بالاعتماد علي النخب التي تنفذ ما يملي عليها دون مناقشة أو مراجعة ، وفي يقينها أنها – وحدها -  أوتيت الحكمة وفصل الخطاب ، وأنها معصومة من الزلل ، وأنها – أستغفر الله – رب الناس الأعلى !. وبعد التعديلات الدستورية التي أدخلت علي الدستور المصري مؤخرا ؛ فإن الأمل في التغيير صار صعبا ، واختيار ممثلي الأمة الحقيقيين أضحي مستحيلا ، وهو ما يعني أن قيام حزب إسلامي من رابع المستحيلات .

لقد تعرض الحزب المقترح لجوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة وبسط القول في شتي نواحيها ، وقد ناقشت كثيرا منها من خلال منظور إسلامي آملا أن يجد ما قلته صدي لدي عامة القراء والعقلانيين منهم خاصة ، فقد عرضت القضايا من خلال منطق واضح بسيط يسعي لفهم الواقع علي ضوء الإسلام ، وإذا كانت التجارب التي عاشتها بلادنا في ظل نظم استبدادية شرسة علي مدي نصف قرن أو يزيد قد هوت بنا إلي الحضيض في شتي المجالات ، لدرجة أن دولة شذاذ الآفاق في فلسطين المحتلة وعمرها ستون عاما تفوقت علينا عسكريا واقتصاديا وسياسيا وتقنيا ، وفرضت إرادتها علي العرب والمسلمين جميعا وأذلتهم إلي الحد الذي صاروا فيه يستجدونها الصلح والمهادنة . وما تفوقت وانتصرت إلا بسبب ضعفنا وهزائمنا الداخلية التي صنعها الاستبداد والحزب الواحد الحاكم والفساد المستشري والاستغلال البشع وفقدان الكرامة الإنسانية .

بالطبع لم يتعظ المستبدون من الهزائم الداخلية والإذلال الخارجي ويصرون علي تنحية الشعب وإبعاده عن المشاركة في مصيره وصنع مستقبله ، ويصرون علي حرمان الناس من حريتهم وكرامتهم وفي مقدمتها حق الاعتقاد ، وخاصة اعتناق الإسلام فكرا وسلوكا وتشكيل الأحزاب والجمعيات التي تقوم علي أساس إسلامي . وقد سبق حزب الإخوان المسلمين حزب آخر هو حزب الوسط رفضته لجنة شئون الأحزاب في أكثر من جلسة ، ومازال المطالبون به يحلمون أن يأتي اليوم الذي يتلقون فيه موافقة اللجنة أو النظام بمعني أدق . ونسي هؤلاء أن حكم الطوارئ الذي ابتليت به بلادنا علي مدي نصف قرن أو أكثر باستثناء فترة قصيرة يمنع أي حزب غير حزب السلطة من إقامة سرادق في شارع أو ساحة أو ميدان ليجمع أنصاره ويناقش معهم قضايا الامة وأحوالها .

ولهذا اعتقد أن حزب الإخوان المقترح لن يري النور أبدا .

والسؤال الآن ماذا بعد ؟

اعتقد أن قيام هذا الحزب أو ذاك لا يعتمد علي رضا السلطة أو غضبها فالعمل الحزبي بل السياسي عموما يقوم علي انتزاع الحرية التي لا يمنحها أي نظام مستبد مهما كان التوسل إليه ضارعا وخاشعا .

وانتزاع الحرية مرهون بإرادة الشعب وهو ما يقتضي كفاحا سلميا دائبا تشارك فيه القوي الفاعلة في المجتمع بإصرار وإخلاص وتوحد حول القضايا الأساسية المتفق عليها .

ويوم تكون هناك حرية حقيقية علي أرض الوطن فإن قيام الأحزاب سيكون أمرا سهلا وسوف يدعم الناس الحزب الذي يريدونه ، وعندئذ يكون التنافس الحزبي وسيلة لارتقاء الشعب وتقدمه ورخائه ، ولن يكون هناك حزب للحيتان يبتلع الأحزاب الصغيرة البائسة ويفرض إرادة أصحاب المصالح والفاسدين علي الامة .

وحتى ذلك الحين علي القوي الفاعلة أن تبني عناصرها بالإيمان والمعرفة والصبر الجميل والعمل الايجابي الممكن .

والله المستعان .